منذ قيام النهضة المباركة في عام 1970 كان حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ على يقين بحتمية كفالة حقوق الإنسان في كل خطوة يخطوها من سني النهضة المباركة، وجاء النظام الأساسي ليحيل هذه الحقوق الممارسة بالفعل إلى ميثاق مكتوب عام 1996 ليكون نبراسًا هاديًا للأجيال القادمة تهتدي به وتمشي على نهجه لتكفل ديمومة حصول الإنسان العماني على حقوقه بقوة القانون وليس وقفًا على إرادة فرد أو اختيارات مؤسسة.
وبمقتضى هذا النص تعد المبادرة العمانية نحو كفالة حقوق الإنسان منذ هو جنين في بطن أمه في شقها العملي واضحة، مثلما هي ممارسة على أرض الواقع بالفعل، وفي هذا الإطار تأتي الجلسة الحوارية التي ينظمها مجلس الشورى اليوم حول واقع مصابي "اضطراب طيف التوحد" والخدمات الصحية والتعليمية والمهنية المقدمة لهذه الفئة من قبل الجهات المعنية، ويشارك في الجلسة عدد من جهات الاختصاص ومؤسسات المجتمع المدني من جمعيات ومراكز تأهيل وأكاديميين، وعدد من المهتمين بقضية المصابين باضطرابات التوحد وبعض أولياء أمور المصابين.
لقد قطعت السلطنة شوطًا كبيرًا في حماية حقوق ذوي الإعاقة وكفالتها، والعمل على دمجهم في المجتمع وتوفير الخدمات الضرورية واللازمة، وتوفير فرص العمل لهم. وقد أثبتت هذه الفئة قدرتها على العطاء والإنتاج، وأكدت من خلال مختلف النشاطات التي تمارسها تغلبها على الإعاقة.
ولكن إذا كانت السلطنة تمكنت من تحقيق نجاح يشار إليه بالبنان في مجال الاهتمام بذوي الإعاقة، بفضل ما تقدمه الحكومة القطاع الخاص من دعم لافت وحرص على توفير مظلة أمان وإعطاء هذه الفئة حقوقها كاملة، فإن ما يعرف بـ"اضطراب طيف التوحد" أو مرض التوحد، لن يكون هو الآخر عائقًا أمام الجهود المبذولة تجاه جميع أنواع الإعاقات كالإعاقة الحركية والسمعية والبصرية، ومتلازمة داون، والإعاقة الذهنية، وتقديم الخدمات التأهيلية والتعليمية والصحية لمصابي "اضطراب طيف التوحد" بالتعاون بين الحكومة والجمعيات الأهلية والقطاع الخاص.
ويُعرَّف التوحد بأنه "اضطراب نفسي لا يمكن تشخيصه بالأشعة والتحاليل، ولكنه يعتمد أساسًا على رصد وملاحظة سلوكيات الطفل وعلاقاته وتواصله مع المقربين إليه". ومن خلال هذا التعريف يتبين عدم قدرة الأسرة ـ التي شاءت الإرادة الإلهية أن يصاب أحد أبنائها بهذا المرض ـ على التعامل مع هذه الحالات لكونها حالات مستجدة، وتحتاج إلى جهد كبير في كيفية التعامل معها من حيث معرفة هذا المرض وطبيعته والتأهيل والتدريب. ولا ريب أن هذا النوع من المرض بات بحاجة ماسة إلى تحرك كبير وواسع يغطي السلطنة نظرًا لتزايد الحالات المصابة به، وبالتالي ارتفاع نسبة المصابين، ما يحتم تضافر الجهود بين القطاعين العام والخاص والمؤسسات الأهلية لإنشاء مراكز ووحدات صحية تعنى بهذا المرض والحالات المصابة به، وإنشاء صناديق دعم يتم تمويلها من قبل القطاعين المذكورين والمؤسسات الأهلية والراغبين في ذلك أو الراغبين في إنشاء هذه المراكز والوحدات وعدم الوقوف أمامهم تحركهم الإنساني؛ وإعارة هذا الوضع الإنساني التفاتًا أكبر. فهناك السواد الأعظم من الأسر الموجود بها حالات إصابة بهذا المرض غير قادرة على الوفاء بمتطلبات التعامل الكامل واللازم والسليم.
ولذلك، فإن تحرك مجلس الشورى عبر لجنة الخدمات والتنمية الاجتماعية يعد خطوة في الاتجاه الصحيح، والالتفات إلى هذه الشريحة في المجتمع، ويعبر عن اهتمام المجلس بالقضايا التي تمس المواطن، لا سيما وأن الجلسة الحوارية ـ وحسب رئيس هذه اللجنة ـ تهدف إلى التعريف بالجهود المبذولة لخدمة المصابين باضطرابات طيف التوحد، وإيجاد قناة تواصل بين أهالي الأطفال المصابين والجهات الحكومية المعنية والجهات الخاصة الداعمة لبرامج الرعاية، والوصول إلى توصيات تسهم في وضع خطة وطنية لرعاية المصابين باضطرابات طيف التوحد، ونشر الثقافة المجتمعية لطرق التعامل السليم معهم، إلى جانب تعريف المجتمع بالخدمات المتاحة لهم، والإمكانات المجتمعية التي من الممكن المساهمة بها في خدمة هذه الفئة.
وبالنظر إلى شعور الأسر التي تعاني من حالات توحد، فإن الأنظار ستكون متوجهة اليوم إلى قبة مجلس الشورى وسط آمال بأن تخرج الجلسة برؤية شاملة لجميع احتياجات المصابين باضطراب طيف التوحد، وتقديم الخدمات اللازمة التي تضمن لهم حياة صحية وتعليمية ومهنية مناسبة.