[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/mohamedbinsaidalftisy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]محمد بن سعيد الفطيسي[/author]
لم تتعد الدراسات المستقبلية في بلاد الغرب الأوروبية والولايات المتحدة الاميركية إطارها الفلسفي والنظري " التخيل " إلى إطارها العلمي والأكاديمي " الممنهج " حتى تأسست مجموعة الرواد من المستقبليين المتقدمين الجدد في النصف الثاني من القرن العشرين, وذلك بصدور مجموعة مؤلفات رسمت معالم هذا الحقل العلمي كما سبق وأشرنا, بينما كانت البدايات العلمية الحقيقية لهذا العلم قد ظهرت في بريطانيا خلال القرن التاسع عشر, ومن هذا الإطار يمكن التأكيد على أن مناهج الدراسات المستقبلية وتطبيقاتها العلمية الراهنة قد نشأت في بلاد الغرب, وهم بذلك تقدموا على المسلمين والعرب الأوائل في التأصيل المنهجي ـ أي وضع وبناء المنهج الأكاديمي العلمي لهذا العلم ـ بينما يعود الأصل التاريخي للدراسات المستقبلية والاستشراف إلى علماء المسلمين بوجه عام والعرب منهم على وجه الخصوص, مع عدم إهمال دور الفلاسفة والفلسفة الإغريقية في هذا الجانب.
ويقال ( إن عالم الاجتماع جليفان هو أول من استعمل مصطلح Miloontologie في سنة 1907 ليشير إلى أحداث المستقبل ، في حين يعتبر العالم الأميركي ذو الأصل الألماني أوسيب فليشتاين OssipFleichthien أول من استعمل كلمة علم المستقبل ضمن كتاباته، تحت اسم Futurology، بينما ينسب إلى العالم جاستون برجر Gaston Berger استخدام كلمة "استشراف" "Prospective" في سياق الدلالة عن التطلعات نحو المستقبل والتخطيط له بطريقة أو بأخرى , أيضا تشير بعض الدراسات إلى أن العالم الفرنسي "برتراند دي جوفينيل" استعمل مصطلح Futuribles ليقصد به المستقبلات الممكنة ، وذلك بالنظر إلى أنها تتكون من شقين: الأول Futures ويعني المستقبلات والثاني Possibles ويعني الممكنة).
كما كان للتحولات ( العميقة في هياكل وأفق وعلاقات المجتمع الغربي التي أنتجت حركة فكرية جديدة مرتبطة أساسًا بمجتمع ما بعد الثورة الصناعية, والتواصلية في هذا الإطار يتطلب الاهتمام المتزايد بعلم المستقبل في الفكر المعاصر، الذي بدأ باستشراف مستقبل العالم حوالي 2000 م ,وفي المائة سنة القادمة في إطار عالم بدون حدود, أشار بهذا الصدد ارسيل كولومب في معرض حديثه حول الحوارات مع علماء الغرب ما يلي: ولتلك الآراء الألف، فضل التعارض فيما بينها وميزة الانفتاح على تخطيطات أولية تمثل سيناريوهات لا حصر لها، جعلتنا ننفتح على احتمالات غير محدودة للمستقبل).
لذا كان من الضرورة القصوى لدى تلك الدول والحكومات أن تبدأ سريعا, فالسلام والتفاؤل الذي تلا الحرب العالمية الأولى لم يستمر طويلا, فقد كان العالم يعيش إرهاصات الحرب الكونية الثانية, وحتى السلام الذي تلا الحرب العالمية الثانية لم يستمر طويلا بدوره , فهو لا يبشر بالاستقرار أو الاستمرار , فالعالم مازال يعاني من امتدادات تلك الحرب ونتائجها على الإنسان والبيئة , كما ان تلك الحرب قد اقتلعت من الجذور جل الأفكار والرؤى المستقبلية التي كانت سائدة قبل ذلك , فانهارت التفاؤلية وتحولت الى طريق مظلم يلف الجنس البشري الذي أصبح بقاؤه موضع تساؤل.
إذا وباختصار شديد, نستطيع القول بأن التحولات والتغيرات الجذرية الكثيرة التي أصابت الحياة والإنسان والمجتمعات الغربية, وخصوصا تلك التي أثرت عليها بشكل مباشر قد غيرت من نماذج التفكير الإنساني بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية والحرب الباردة بين الاتحاد السوفيتي السابق والولايات المتحدة الاميركية, ويعود إليها السبب الرئيسي والمباشر لتوجه عالمي غربي نحو أساليب التفكير والتخطيط الاستراتيجي, ومنها الى وضع مناهج علمية وأكاديمية للدراسات المستقبلية والاستشراف خلال العقود الخمسة الأخيرة من القرن العشرين , بهدف مواجهة تلك المتغيرات والأزمات التي استجدت وسبل مواجهتها بالإمكانيات المتاحة او من خلال خلق إمكانيات إضافية.
كما دفعت مناهج الاستشراف والتخطيط الاستراتيجي في وزارة الدفاع الاميركية الرئيس ليندون جونسون إلى إصدار توجيهات في شهر أغسطس عام 1965م بتطبيق النظام الاستراتيجي في كل الأجهزة الفيدرالية للحكومة الأميركية تحت اسم " نظام التخطيط والبرامج والموازنة ".
كما تبنت العديد من الحكومات الغربية بخلاف الولايات المتحدة الاميركية والاتحاد السوفيتي لمشاريع ومناهج الدراسات المستقبلية والتخطيط الحكومي , وأنشأت لها هيئات ومؤسسات وإدارات رسمية ,ومن أبرزها وهي على سبيل المثال لا الحصر:
(1) النموذج الفرنسي: في العام 1964م برزت على المستوى الرسمي في فرنسا (وكالة التخطيط الإقليمي الفرنسي) , وهي وكالة حكومية تعنى بالتخطيط الاستراتيجي ورسم السيناريوهات والدراسات المستقبلية للأمة الفرنسية.
(2) النموذج السويدي: والتي بدأت متأخرة بعض الشيء , ففي عام1973م أنشأت سويسرا سكرتارية وزارية خاصة بعلم المستقبليات , ولكن وبالرغم من ذلك فإن السويد تعد البلد الأكثر اهتماما بهذه الدراسات من الناحية الرسمية , حيث أسست لذلك مراكز رسمية للدولة للدراسات المستقبلية كان من مهامها بحث البدائل المستقبلية للمجتمع السويدي وإجراء دراسات حول تعميق الحالة الديمقراطية والحريات بها.
(3) النموذج الهولندي: أسست هولندا في العام 1974م وحدة الدراسات المستقبلية , وهي وحدة رسمية تابعة للدولة تختص بالدراسات المستقبلية , بمبادرة من رئيس الوزراء أولاف بالمه تحت اسم سكرتارية الدراسات المستقبلية التابعة لرئاسة الوزراء.
لا يمكن بحال من الأحوال الفصل بين البدايات الرسمية وتلك الأكاديمية في الاهتمام بالدراسات والأبحاث المستقبلية , فكل منها كان بحاجة للآخر للاستمرار والتطور, فإذا كانت البدايات الأكاديمية والبحثية هي الأصل التاريخي الحديث لولادة مناهج الدراسات المستقبلية في الغرب الأوروبي وفي الولايات المتحدة الاميركية, فقد كان للدعم والاهتمام الحكومي لدى تلك الدول الفضل في تطور واستمرار تلك البحوث والدراسات , وتشعبها وتفرع مجالاتها العلمية والبحثية حديثا.
ففي الولايات المتحدة الاميركية وحدها , وعلى سبيل المثال لا الحصر , بلغ عدد المؤسسات المهتمة بالدراسات المستقبلية نحو 600 مؤسسة ، وتشكل الدراسات المستقبلية نحوًا من 415 مقررًا دراسيًا موزعة على 8 ولايات أميركية , كما يوجد في مكتبة الكونجرس الأميركي حتى عام 1984 م أكثر من خمسة عشر ألف دراسة حول المستقبل , وتعد المدرسة الأميركية كما يقول ذلك الباحث المغربي محمد بريش السباقة في هذا المجال من خلال ما يسمى بخزنات الأفكار أو ما أطلق عليه بتسويق الأفكار وصناعة القرار، والتي بدأت تنظر لنوع من المستقبلية على أساس أن تخدم السياسة الخارجية ، وأن تخدم هيمنة المقاولات العابرة للقارات التي كانت تريد أن تكون عندها إمكانيات معرفة ماذا يجري في العالم؟ ما هي إمكانيات الهيمنة؟ ما هي إمكانيات تسويق الأفكار؟ تسويق البضاعة؟ التأثير على الساسة؟ وهكذا.
وقد برز في هذا المجال الجنرال ( هـ.هـ. ارنولد ) القائد العام لسلاح الطيران الأميركي بإنشائه ( مصنع الفكر) الذي ضم نخبة مختارة من الدارسين وكان الدور الأكبر لـ ( ثيودور فان كارمان ) إذا أجرى استطلاعا عن قدرات اميركا التكنولوجية في تقريره ( نحو آفاق جديدة ) قاد الى تشكيل إنشاء مركز التنبؤ التكنولوجي بعيد المدى للجيش وبين أيضا من خلاله ان التنبؤ بالقدرات التكنولوجية ليس ممكنا فحسب بل ضروريا ثم جاء مشروع تنبؤ القوات الجوية عام 1963 إذ اجتمعت فيه جهود سبعين مؤسسة بحثية وأربعين هيئة فضلا عن ست وعشرين جامعة ليخرج المشروع لـ" أربعة عشر مجلدا " حول الخصائص التكنولوجية للقوى التي يمكن ان تقدم الدعم لوزارة الدفاع الاميركية لمرحلة ما بعد 1970م.
ونستعرض هنا ابرز مراحل تطور المدارس الغربية التي كان لها فضل الريادة والسبق على صعيد الدراسات الاستراتيجية والمستقبلية ومناهج الاستشراف:
(1) المدرسة البريطانية: بدأت بريطانيا بالاهتمام بهذا المجال مع ظهور مجلة الغد البريطانية في عام 1938م , ومما لفت الانتباه في هذه المجلة تأكيدها على ضرورة إنشاء وزارة للمستقبل في بريطانيا.
(2) المدرسة الفرنسية: والتي تكونت على يد الفيلسوف الفرنسي جاستون بيرجر , الذي أنشا في عام 1975 م المركز الدولي للاستشراف والذي كان بدوره المركز الرائد للدراسات المستقبلية في وقتها , وعلى يد العالم الفرنسي بيرتراند دو جوفنيل بالتعاون مع مؤسسة فورد الأميركية ، تمكن هذا المركز من إنجاز مشروع المستقبلات الممكنة(Futuribles) ( الذي يؤكد فيه أن المستقبل ليس قدرا بل مجال لممارسة الحرية من خلال التدخل الواعي في بنية الواقع القائم باتجاه"المفضل"، وعلى هذا الأساس يتم النظر إلى المستقبل على أنه متعدد لا مفرد كما هو حال الماضي من خلال فكرة تعدد الاحتمالات. وشكلّ كتابه الشهير فن التنبؤ(The Art of Conjecture) نقلة كبيرة في مجال الدراسات المستقبلية، حيث شرح فيه كيفية عمل ما اسماه هيئات التنبؤ (Forum Provisionnel) التي تقوم بعمليات إنجاز الدراسات المستقبلية لدولة معينة).
(3) المدرسة الايطالية : تكونت على يد الاقتصادي ورجل أعمال نادي روما الإيطالي أوريليو بيشي.
* مقتطف من كتابنا مستقبل في قبضة اليد- مدخل نظري الى مناهج الدراسات المستقبلية وأساليب التفكير المبكر-التاريخ ,التحولات,التقنيات- الصادر لنا هذا العام .