فهل هنالك أروع من حياة الاسكندر الكبير الذي ملأ حياته منذ شبابه الأول بالانتصارات وكاد أن يحتل العالم، لكنه تراجع ودفع الثمن في النهاية .. ونابليون، ألم يكن حلمه أن يكون اسكندر آخر، فإذا به ينتهي إلى مأساة بعد انتصارات. وإذا تطلعنا في ثورات العبيد فلسوف نجد سبارتاكوس، ذلك الذي ثار على امبراطورية الرومان (اميركا ذلك الزمان) ونجح ووصل إلى بوادر الحرية التي عشقها، لكنه هزم في النهاية .. ثم البطل هنيبعل ابن قرطاجة التي أسست فوق تراب تونس، حارب الرومان وذهب إليهم قاطعا جبال الألب، كسب معارك لكنه هزم في النهاية .. وإذا تطلعنا إلى الأمير فخر الدين المعني وهو أكثر أمراء لبنان دويا، ربح معاركه ومالق العثمانيين وتحالف مع أوروبا لكنهم خافوا منه فأمسكوه وأعدموه. وفي ركن من التاريخ قدم هتلر عرضا لا يشبهه أي عرض، حاول أن يحتل الكرة الأرضية ومن عليها، كبر كثيرا إلى أن كانت النهاية المفجعة، وكذلك حال موسوليني الإيطالي صاحب الحزب الفاشي الذي حكم إيطاليا طويلا وكان بدكتاتوريها الذي لا يعجم له عود إلى أن جاءت نهايته مأساوية أيضا.
موضوعنا إذن يحمل عنوانه الحقيقي "الصعود إلى الهاوية" .. البدايات والطريق إلى المجد ثم السقوط المريع، وهو ما يؤكد صحة نظرية الفيلسوف اللبناني جبران خليل جبران بقوله ليس مهما كيفية الوصول إلى القمة بل المحافظة عليها، وتلك من الصعوبة بمكان كما نحن نضيف. لكل بداياته، ولكل نهاياته. ومن يهمنا هو النهايات التي تسمها حياة مليئة بالتجارب مغلفة بطموح يصل إلى حد الطمع بالحياة، لكن البعض تأسره ظروف محددة؟

ـ الاسكندر الكبير
هذا الشاب الصغير الذي ورث الحكم عن أبيه فيليب تمكن في سن مبكرة من أن يحقق أحلاما عجز عنها الكبار، إذ لم يصل عمره إلى الثلاثين تقريبا (مات في سن 32 سنة) حتى كان العالم القديم الممتد من سواحل البحر الأيوني وصولا إلى سلسلة هضاب الهيملايا قد أصبحت بحوزته .. تتلمذ على يد أشهر الفلاسفة اليونانيين أرسطو، لكنه كان كأبيه حالما بأن يحتل العالم وأن يصل إلى نهايته وكذلك البحر الخارجي الكبير .. ساعده في حلمه جيش قوي أسسه والده، فقاده في فتوحات كبرى كان أولها حملته على بلاد فارس فتمكن من دحرهم وقام بطردهم إلى خارج آسيا الصغرى ثم شرع في انتزاع ممالكهم الواحدة تلو الأخرى في سلسلة من الحملات العسكرية دامت عشر سنوات تقريبا تمكن خلالها من كسر شوكة الجيش الفارسي الذي كان يعتبر أكبر الجيوش، حيث قابل امبراطوره داريوس وكان تعداد جيشه خمسمئة ألف تقريبا فكسره وهرب الامبراطور الفارسي حيث وجد لاحقا مقتولا بعدما خانه حراسه وقواده.
دخل الاسكندر مصر التي كان يحكمها الفرس آنذاك، فرحب به المصريون واعتبروه محررا لهم .. وهو الذي بات معروفا قام بإنشاء مدينة الاسكندرية ويعود اسمها له واتخذها عاصمة لملكه الواسع. لكنه بعدها قام بغزو الهند في محاولة لاكتشاف حلمه الأكبر، إلا أنه حدثت مشادة كبيرة بينه وبين قادة جيوشه الذين ألحوا عليه بالعودة أدت إلى تمرد الجيش عليه .. أحد أبرز الأفلام التي روت قصة حياته وقد كتب الفيلم وحقق عدد من فاهمي التاريخ اليوناني، أن الاسكندر كبر كثيرا وتعاظم إلى الحد الذي يذكره التاريخ على أنه فاتح كبير وصاحب طموحات لا تحد، وبرغم سنه الصغير الذي بدأه في الحكم (16 سنة فقط) إلا أنه سارع لتنفيذ أحلام أبيه وهكذا كان .. وكلما ذكر كبار قادة التاريخ تطلع الناس إلى الاسكندر باعتباره أبرزهم. أما موته فحوله الكثير من العلامات، أبرزها أنه مات مسموما من قبل قادته الذين ملوا طموحاته وأفكاره الجديدة التي كان عنوانها الدمج بين الحضارات. وبعد موته انفرط عقد دولته وأصبحت دولا لكل منها قائد من القواد الذين كانوا إلى جانبه حتى لحظات وفاته، وقد سئل يومها حول من يحكم من بعده فقال "الأقوى". انتهت حياة حافلة بالمجد والتطلع إلى حكم العالم، مات صغيرا وقيل إنه مرهف الحس لكنه هوى في لحظة وصوله إلى طريق مسدود.

ـ سبارتاكوس
تلك الثورة التي حملت اسم سبارتاكوس من أبرز ثورات التاريخ، بل هي أول مدرسة في ممارسة حرب العصابات التي عرفناها لاحقا. يطلها كما رأينا فيلمه أو كما قرأنا قصته، تفتح على سبارتاكوس العبد المرتزق في الجيش الروماني، ويقال إنه هرب وبعدها أسر وتم بيعه كعبد لكنه تم تدريبه في مدرسة كانت تابعة للرومان كانوا يدربون فيها العبيد أصحاب الأجساد القوية. سنة 73 قبل الميلاد تمكن سبارتاكوس من تحرير نفسه ومعه سبعون رجلا من العبيد بعدما استولوا على سكاكين المطبخ وقاموا بالتحصن في أحد الجبال إلى أن لحق بهم عدد كبير من العبيد يقال إن عددهم وصل إلى أكثر من مئة ألف، فكونوا جيشا رهيبا تمكن من دحر جيش الرومان في أكثر من معركة، كما أنه تمكن من الاستيلاء على جنوب إيطاليا وقام بالتأثير على الحياة الاجتماعية لروما آنذاك التي وجدت نفسها أمام فضيحة كبرى كان عليها أن تعيد النظر بحساباتها فقررت تشكيل جيش كبير بقيادة أفضل قادتها ويدعى كراسيوس .. ورغم أن جيش سبارتاكوس حاول الإغارة مرات على جيش غريمه إلا أنه لم ينجح في القضاء عليه، بعدما حسب هذا الأخير حسابات من هذا النوع. وبعد معارك طاحنة بين الجيشين تمكن كراسوس من هزيمة الثوار حيث قام بقتل سبارتاكوس وصلب أكثر من ستة آلاف عبد من الذين تم أسرهم في المعركة. وهكذا كتبت النهاية المأساوية لهذا العبد الثائر الذي عندما درسنا ظروفه وجدنا أنه أول محاولة ثورية في التاريخ تقريبا كان يمكن أن يقيض لها النجاح لو أنها امتلكت برنامجا ثوريا، لكن بقاءها كثورة بلا محتوى جعلها تنتحر رويدا إلى أن تم الإجهاز على قائدها فسقطت نهائيا.

ـ هنيبعل أو حنبعل
يعرفه أهل المشرق جيدا، وإن كان أهل قرطاجة التونسي يعرفونه أكثر .. وقبل التعرف على هذا القائد الذي علا كثيرا ثم هبط، لا بد من تذكر أن قرطاجة أسستها أليسار إحدى الملكات انطلقت من صور هربا لتجد نفسها على شاطئ غريب ما لبثت أن أسست عليها مملكة بحجم جلد ثور تحولت بعدها إلى مملكة عظيمة لعبت دورا كبيرا في محيطها، وكان أبرز ما أعطته هو قائدها هنيبعل أو حنبعل كما يحب البعض أن يسمى والذي هدد أكبر امبراطوريات عصره، روما، حين انطلق عليها على رأس جيش كبير قاطعا جبال الألب فوق عدد كبير من الفيلة وتمكن من أن يهز العصب الحقيقي للرومان، حيث حقق ثلاثة انتصارات كبيرة على أكبرجيش في ذلك العصر، وخلال 15 عاما احتل حنبعل معظم إيطاليا مع ذلك اضطر إلى أن يعود لمواجهة الغزو الروماني لشمال إفريقيا.
في تفاصيل معاركه مع روما كبرى امبراطوريات ذلك العصر أنه خاض أول معركة حسمها لصالحه بعد الاعتماد على ما نفذه جنود حنبعل في المعركة .. فما كان من روما إلا أن وجهت جيشا ثانيا ضخما لمسح الهزيمة الأولى، فاعد لهم هنيبعل كمينا محكما تمكن من الحاق الهزيمة بهم، وكان يردد في نشوة انتصاره قولا ثبتت صحته عبر التاريخ: "إذا أحرزت نصرا انضم إليك الجميع حتى خصومك، أما إذا حاقت بك الهزيمة تخلى عنك حتى محبوك". وفي مراحل لاحقة حاول الرومان مقاتلة جيوش هنيبعل إلا أنها باءت بالفشل ..
لقد أسقط حنبعل هيبة جيش كبير وعظيم كان في وقته مخيفا لم يفكر أحد بالاقتراب منه ولو على سبيل المصافحة فقط فكيف بالعداوة والقتال الذي مارسه حنبعل بدقة عبر الكثير من الأفخاخ الذكية التي أحبطت كل محاولات الرومان في القضاء عليه.
عندما رجع حنبعل بعد تلك الحروب إلى قرطاجة صار حاكما لها، فقام بالعديد من الإصلاحات السياسية والمالية ليتمكن من تعويضات الحرب المفروضة على قرطاجة. وكالعادة لم تحظ هذه الإصلاحات برضا الطبقة الأرستقراطية القرطاجية فوشت به من جديد لروما ففرض عليه النفي، لكنه عاد وفر إلى مملكة أرمينيا بعد هزيمة جديدة، وفي وقت لاحق تعرض للخيانة وكان من المفترض أن يسلم للرومان إلا أنه آثر تناول السم الذي قيل إنه احتفظ به في خاتم لبسه لوقت طويل على أن يموت أسيرا في بلاد الأعداء.
يعتبر حنبعل واحدا من أعظم الجنرالات في العصور القديمة، جنبا إلى جنب الاسكندر الكبير ويوليوس قيصر والكثير من أمثال العصر الحديث أمثال نابليون بونابرت الذي سنأتي على ذكره .. ويعزى إليه قوله المشهور "سوف نجد حلا أو سنصنع واحدا".
عاش حنبعل بطلا ومات بطلا، عاش من أجل أمة وقرر ميتة واعية، صعد إلى قمة الانتصارات، لكنه تدحرج لاحقا إلى الهزيمة فكتب نهايته بنفسه.

ـ الأمير فخر الدين المعني
ذات مرة وأنا أقف عند حرج صنوبر كبير في منطقة جزين بجنوب لبنان، لفتني في شكل الجبل وجود مغارة يصعب الوصول إليها، وحينما سألت مختصا بشؤون المنطقة أجابني أنه في هذه المغارة عاش الأمير اللبناني فخر الدين المعني أواخر أيامه قبل أن يعتقل ويعدم .. مضيفا أن الدولة العثمانية التي كانت تطارده لم يستطع جنودها الوصول إلى المغارة فقاموا بحرق ما حولها مما دفع الأمير بعد طول معاناة من تسليم نفسه وكان ابنه معه. فما هي تلك القصة التي جعلت من مقرب إلى العثمانيين أن يصبح مطاردا لها وأن تنتهي حياته بطريقة درامية لامثيل لها. لا شك أني قرأت العديد عن هذا الأمير في وقت مبكر من العمر، خصوصا وأن تمثاله في بلدة بعقلين في منطقة الشوف الدرزية يحكي قصته الذي سوف نرى قصره أيضا في بلدة دير القمر إضافة إلى المسجد الصغير الذي بناه في تلك البلدة خلال حكمه لها واعتبارها عاصمة له ولنفوذه.
يعتبر فخر الدين الذي عاش بين القرنين السادس عشر والسابع عشر أعظم وأشهر أمراء بلاد الشام عموما ولبنان خصوصا .. وكان على قصر قامته داهية سياسية، فقد استطاع أن يمد إمارته لتشمل معظم سورية الكبرى ويحصل في البداية على اعتراف الدولة العثمانية بسيادته على كل هذه الأراضي، وقد أوصله دهاؤه إلى أن يصبح لبنان كله وفلسطين والأردن وسوريا تحت إمرته وصولا إلى أنطاكية ويقال حتى جبال طوروس .. ومما يجمع عليه المؤرخون هو تسامحه حيث تعامل مع جميع المذاهب في لبنان بشكل متساو ولهذا ما زال مذهبه إلى اليوم مثار حيرة وتساؤل .. بل يقال، والله أعلم، إنه تزوج إربع نساء تعود كل منهن إلى مذهب معين وسمى ذلك من أجل الوحدة الوطنية. وعرفت الصناعة والزراعة والتجارة في عهده أفضل الأوقات وخصوصا الزراعة التي استقدم إليها اختصايين من إيطاليا، ويعود إليه اتساع زراعة شجرة الزيتون وكذلك شجر التوت لإنتاج الحرير عبر دودة القز. أما الجيش الذي ألفه فكان من وطني ومرتزق، وقد بلغ الوطني في عز مجده أكثر من أربعين ألفا..
ظل الأمير فخر الدين يهادن الدولة العثمانية طويلا وهي في كامل الرضا عليه، مع أن علاقاته مع الدول الأوروبية كانت على ازدياد.. لكن والي حلب في ذلك الوقت وكذلك والي دمشق كانا ينظران إليه بحقد وضغينة لما بلغه من نفوذ وكان بعض الأمراء العرب في فلسطين يترقبون الفرص للتخلص من سيطرته عليهم، وكان أمراء لبنانيون قد ازدادوا في الوشاية عليه إلى الدولة العثمانية: إنه حقر الدين الإسلامي ودافع عن المسيحيين .. وإنه قام بتوسيع أراضيه بعد أن ضم إليه أراضي جيرانه، وإنه كان يماطل في دفع الضرائب المترتبة عليه وإنه في إعادة بنائه للقلاع والحصون في لبنان إنما الهدف منه القضاء على الدولة العثمانية، وتأكد للدولة العثمانية ما قيل عن توقيع اتفاقات مع أوروبا لهذه الغاية .. وهكذا ضمر العثمانيون الشر للأمير، فما أن انتصر السلطان مراد الثاني على دولة الفرس حتى قرر القضاء على فخر الدين فوجه إليه حملتين كبيرتين بتعداد ثمانين ألف جندي تقريبا .. إضافة إلى أنه تم شراء كثيرين ممن كانوا حوله بالمال أو بالترهيب .. وحين لجأ فخر الدين إلى قلعة في جنوب لبنان تدعى قلعة نيحا قام أعداؤه بتسميم مياهه فانتقل تحت جنح الظلام إلى مغارة جزين التي أشرنا إليها في بداية الكلام عنه، والتي لم يستطع البقاء فيها طويلا فاستسلم للدولة العثمانية التي نقلته وزوجاته إلى دمشق ثم نقل هو إلى اسطنبول، وبعدها بأيام تم قتل زوجاته ثم تم شنقه وقيل تم قطع رأسه وقيل أيضا إنه دق في جرن هرسا.
يتأكد لنا جزء من تاريخ لبنان والمنطقة عن التبعية التي كانت سائدة والتي ظلت إلى يومنا هذا وكيف تتحكم الدول الكبرى بالقرار الوطني وبأشخاصه .. وكيف وصل الأمير فخر الدين المعني إلى الذروة حيث قدم للبنان ولبقية المناطق التي حكمها خيرا كثيرا، لكن الطمع عند الحكام الآخرين ظل يحفر في صدورهم إلى أن قضوا عليه فكانت نهايته المفجعة بعد أن علا كثيرا وأصبح حاكما مطلقا لبلاد الشام.

ـ نابليون بونابرت
لعله أبرز قائد سياسي وعسكري ما زال اسمه رنانا إلى اليوم .. وحين يذكر التاريخ الفرنسي أو التاريخ العالمي لا بد أن يكون في مقدمة من يتقدم الصفوف .. ومثلما أنصفه التاريخ، فإن مؤرخين عديدين لم ينصفوه، وبعضهم سماه طاغية كما فعل الموسيقار العبقري بيتهوفن الذي آمن به في البداية فصنع له إحدى السيمفونيات لكنه بعدها اكتشف طغيانه كما سماه فتراجع عن ذلك في إحدى سيمفونياته أيضا. كما أن الفنان التشكلي الأسباني فرنسيسكو دي غويا رسم إحدى لوحاته بعنوان الإعدام وفيها جنود فرنسيون تابعون لنابليون يطلقون النار على عدد من الفلاحين الأسبان.
ربما يعود هذا التغيير في الأفكار والآراء من شخصية نابليون إلى الحملات التي قادها في اتجاهات مختلفة من العالم، كأنما كان يريد أن يكون صدى للاسكندر الكبير وقيل إنه تأثر به وحاول تقليده، لكنه فشل في أن يكون قريبا من الناس، وفشل في الوصول إلى روسيا حيث أصيب الجيش الفرنسي خلال الحملة بأضرار كبيرة وخسائر بشرية ومادية جسيمة لم تمكن نابليون من النهوض به بعد ذلك أبدا، كما فشل في منطقتنا العربية حين وقفت بوجهه مدينة عكا في فلسطين ولم يستطع اختراق أسوارها، جل ما هنالك أن مصر استفادت من خبرات فرنسية حيث احتلها جالبا معه خبراء في الزراعة والصناعة وفي الفنون.
وبعدما أحرزت فرنسا في عهد نابليون انتصارات باهرة في أكثر من مجال، وقعت لها هزيمة كبرى في معركة الأمم عام 1813، وفي السنة اللاحقة اجتاحت هذه القوات فرنسا ودخلت العاصمة باريس وأجبرت نابليون التنازل عن العرش وتم نفيه إلى جزيرة البا فهرب نابليون من منفاه بعد سنة تقريبا، وعاد ليتربع على عرش فرنسا وحاول مقاومة الحلفاء واستعادة مجده السابق، لكنهم هزموه شر هزيمة في معركة واترلو خلال العام 1815 فاستسلم نابليون للبريطانيين الذين نفوه إلى جزيرة القديسة هيلانة حيث أمضى السنوات الست الأخيرة من حياته. وبعد وفاته تم تشريح جثته لمعرفة سبب الوفاة، فقيل مرة إنه أصيب بسرطان المعدة، وقيل أيضا إن السبب يعود إلى تسممه بالزرنيخ.
لعل قصة صعود وهبوط نابليون خير دليل على أنه لم يتعلم من قصص الماضي وخصوصا تلك التي قدمنا بعضها ولعله قرأها جيدا قبل أن يبدأ عهده بالحراك في شتى الاتجاهات، كمثل حياة الاسكندر ونهاياته، وحنبعل وما جرى له وآخرين. إن خير إشارة للطموح الإنساني يتجلى في طمعه بالسطو على أراضي الغير والتفكير الدائم وتنفيذه باحتلال العالم. هذا الأمر لم يستفد منه أيضا الشخصية الخرافية التي تعنينا وهي هتلر الذي قدم عرضا عائلا من الحروب في القرن العشرين، منذ صعوده الكبير ووصوله إلى الذروة وانحداره بالتالي إلى نقطة قتل الذات في عملية انتحار مؤكدة.

ـ أدولف هتلر
لم يزل التاريخ واقفا عند الشخصية الخطيرة التي لعبت دورا لا مثيل له بين الأدوار خلال القرن الماضي وأدت إلى فجيعة كبرى دفعت فيها البشرية ملايين من البشر ثمنا لفكرة مجنونة قالها ذات مرة الشخص المعني أدولف هتلر. إذ يذكر كتاب "تاريخ ألمانيا الهتلرية" أن هتلر الذي كان في البداية جنديا عاديا، نره قائده ذات مرة فلم يستجب، ثم نهره ثانية، فلم يستجب، تقدم إليه وأمسكه بكتفه وهزه، فتطلع إليه كمن أفاق من حلم، وحين وبخه قائده العسكري طالبا منه أن يقول له عن سبب سهوه فرد ببساطة "كنت أفكر باحتلال العالم".
ذلك الشقي هتلر الذي فشل في أن يكون رساما معروفا، تحول إلى قامة عالمية قادت بعدها حربا عالمية كبرى. ومثلما كانت ألمانيا أساس الحرب العالمية الأولى وخسرتها ووضعت عليها شروط مجحفة في معاهدة فرساي من أبرزها أن منع النشيد الوطني من إذاعاتها ومدارسها وجامعاتها وغيره، فقد قاد هذا المنع وهذا الإجحاف إلى تأليب النفس الألمانية بحيث أطل عليها هتلر بخطاباته وأول ما فعله عدم الاعتراف بتلك المعاهدة حتى التف الشعب الألماني معه على الفور ووجد فيه الروح التي ينتظرها من أجل إعادة إلمانيا إلى قيمها السابقة ومكانتها المعروفة.
فباعتباره واحدا من المحاربين القدامى الذين تقلدوا الأوسمة تقديرا لجهودهم في الحرب العالمية الأولى بجانب المانيا، انضم هتلر إلى الحزب النازي عام 1920 وأصبح زعيما له وبعد سجنه إثر محاولة انقلاب فاشلة قام بها عام 1922 استطاع هتلر أن يحصل على تأييد الجماهير بتشجيعه لأفكاره القومية الألمانية وبمعاداته الشيوعية والكنيسة في آن معا، وكان للكاريزما التي تمتع بها في إلقاء الخطب أثره الواضح في التفاف الناس حوله وتأييده بلا منازع.
في عام 1923 تم تعيينه مستشارا لألمانيا فعمل على إرساء دعائم نظام حكم ديكتاتوري شمولي ونزعة فاشية، كما انتهج سياسة خارجية أعلن عنها صراحة وهي تأمين الوجود لألمانيا وضمان رخائها الاقتصادي، فكان أن قفز فورا إلى بولندا حيث احتلها عام 1939 مما تم إعلان الحرب العالمية الثانية، لكنه خلال ثلاث سنوات تقريبا احتلت ألمانيا ودول المحور (إيطاليا واليابان كأساس) معظم قارة أوروبا باستثناء بريطانيا وأجزاء كبيرة من إفريقيا ودول شرق وجنوب شرق آسيا والدول المطلة على المحيط الهادئ، وثلث الاتحاد السوفيتي وصولا إلى مدينة ستالينغراد (فولغاغراد حاليا) .. فلقد كان سهلا عليه احتلال أوروبا بهذه السرعة المدهشة وخصوصا فرنسا التي انقسمت إلى قسمين وباشرت فيها حروب تحرير قادها الجنرال ديغول من خارج بلاده من بريطانيا تحديدا. ومثلما وقع فيه نابليون حين اجتاح روسيا فتم تدمير قوة جيشه وألحقت به هزيمة نكراء، أصيبت قوات هتلر بذات الداء حيث لم تتمكن قواته من السيطرة على روسيا التي استنفرت عن بكرة أبيها وقاتلته في المدن والقرى رفع فيها أثناءها ستالين شعار روسيا الأم وطالب الروس الاتحاد من أجل رد الحرب على بلاده، فكان ثمن ذلك ما يقارب الخمسة وعشرين مليون قتيل روسي ثمنا لهذه الحرب.
وما أن قارب العام 1945 حتى كانت هزيمة جيوش هتلر قد تحققت بعدما دخلت جيوش الحلفاء العاصمة برلين من جميع جوانبها وكانت مدمرة تماما. في هذه الأثناء كان هتلر وقيادته يتخذون من ملجأ في برلين حيث ظهرت أعراض مرض عصبي قاهر على هتلر الذي تزعم آخر اجتماع لتلك القيادة، وكان المحير أن الجيوش كانت تدخل، فيما ظل هتلر منهمكا بالزواج من عشيقته ايفا براون، وعاشا كزوجين أكثر من أربعين ساعة كما أنه ظل على حياته العادية حيث تناول طعاما خفيفا وكانت القوات السوفيتية قد اقتربت كثيرا من مخبئه بحيث لم يبق بينهما سوى خمسمئة متر تقريبا. وفي لحظة موصوفة سمع دوي رصاصة، وحين هرع إلى مكان الصوت وكان من المكان الذي يقطنه هتلر، شوهدت ايفا براون ممدة على أريكة وكان واضحا أن هتلر أطلق النار على رأسها، ثم على رأسه .. وقال شهود إن الجثتين حملتا إلى خارج القبو حيث تم رشهما بالنفط وحرقهما، فيما تقول معلومات أخرى إنه تم تشريح جثتي هتلر وايفا براون من قبل السوفييت.
في كل الأحوال ترصد حياة هتلر بصعوده وهبوطه قصة متجددة من الأفكار المجنونة التي انتابت الاسكندر وبعده نابليون من اجتياح العالم ووضعه تحت تصرفه. لعل التاريخ يذكر أن ليس هنالك شخصية نالت ثقة شعبها ومحبته مثلما هي شخصية هتلر، ثم كيف حولت الهزيمة تلك المحبة إلى كراهية كما يقول علماء النفس.

ـ موسوليني
إذا ماذكر هتلر فلا بد أن يذكر موسوليني .. فالأول تزعم حزبا نازيا، والثاني ألف حزبا فاشيا مماثلا في طبيعته للحزب النازي .. ومثلما انتهى الأول مرذولا انتهى الثاني في ما يشبه الميتة المرذولة أيضا.
لكنه الصعود، هنالك دائما طريق للوصول إليه، لكن حسابات الحقل لا تنطبق على حسابات البيدر، ويبدو أن الأهم في حياة الإنسان هي النهايات، أن تنتهي حياة المرء بمثل ما بدأت فتلك عظمة، لكن الأمور مع أصحاب الأفكار الجنونية تبدأ كبيرة مزدحمة بالأعمال وتنتهي دائما بشكل غير سعيد بل مليء بالمآسي والمفارقات.
هكذا رأينا في كل من مر معنا وهنالك العديد ممن يشبهونهم .. ويكاد موسوليني الإيطالي أن تكون حياته رمزا للجنون الذي وصل به إلى الموت الفاقع في نهاية الأمر.
هذا الرجل الذي دعي موسوليني أو كما كان لقبه بالإيطالية (الدوتشي) اي القائد، حكم إيطاليا، وتلك مفارقة كبيرة، من العام 932 1 إلى العام 1943.
بعد حياة متذبذبة بين هروب من الجندية والخروج خارج البلاد وغيره مما جرى معه من مفارقات، تمكن موسوليني في العام 1919 من تأسيس حزب دعي بالحزب الفاشي أو العصبة .. لكنهم لم يتصرفوا كحزب بل كعصابات وكرجال عنف، وقد لبسوا القمصان السوداء وكان موسوليني قد طالب حزبه بمعالجة مشاكل إيطاليا وأن عليهم أن يكونوا رجالا أقوياء فعندما يكون هنالك إضراب يقوم الفاشيست أنصار موسوليني بإنهائه، حتى أن أغنياء إيطاليا طلبوا منهم حمايتهم فكان لهم ما أرادوا ..
عندما تسلم موسوليني الحكم في إيطاليا قام بإلغاء الأحزاب أولا، فكان على الجميع أن يتعلموا مبادئ الفاشيست وكان شعاره "أن تعيش يوما واحدا مثل الأسد خير لك من أن تعيش مئة عام مثل خروف". كان الفاشيون ينظمون غارات في الأرياف، يدخلون المزارع المعروفة بأنها اشتراكية فيقتلون الناس وقد تمكنوا من تشتيت الحزب الشيوعي واغتالوا العديد من قادته، وبدأ الفاشيون في طبخ كل النزعات والاتجاهات والأساليب في الأدب والفن في وعاء الاتجاهات القومية التي تختلط الفنون والآداب والدعاية باتجاه منغلق ومعاد لاية قومية أخرى. فقد امتلأت الساحات بتماثيل موسوليني وبجداريات كبيرة تخلد أفعاله كما بدأت حركة شاملة للأطفال والفتيان وطلبة المدارس والجامعات على استخدام السلاح وحفظ الأناشيد القومية الفاشية كما أغلقت جميع الصحف والمجلات الأدبية مع إجبار الناس على وضع صوره في غرف النوم وأن توقد العوائل الشموع في أعياد ميلاده وانتزع رجاله الحلي الذهبية من الناس وكذلك خواتم الزواج من أصابع المتزوجين.
كانت السياسة الخارجية لموسوليني قد صارت إلى جانب هتلر فدعا إلى تجنيد 12 مليون إيطالي في حين وصل العدد الحقيقي إلى مليونين. السياسة الخارجية التي اتبعها النظام الفاشي كانت تعتبر خيار السلام ظاهرة متعفنة وطالبت بالمقابل إعادة مجد روما الغابر. كبر الفاشيون كثيرا وحكموا إيطاليا بالنار والحديد وظل موسوليني زعيما بلا منازع وصل الإيمان به إلى حد الألوهية. ومن أعماله أنه غزا ليبيا وأثيوبيا وغيرها.
مل الإيطاليون موسوليني وحزبه الفاشي، وفي عام 1945 وبينما كانت الحرب الثانية على وشك الانتهاء هرب موسوليني من روما مع عشيقته، لكنه بعد مطاردات تم القبض عليه عند الحدود مع سويسرا وجيء به إلى ذلك المكان حيث اكتشف العديد من قيادة حزبه وقد اعتقلوا أيضا وتم إعدامهم ثم ربطوا من أرجلهم وتم تعليقهم في الساحة داخل محطة للوقود ليرى الناس كيف كانت نهايتهم المأساوية وكل من مر من هنالك كان يبصق عليهم أو يركلهم برجله .
لا تنتهي النماذج البشرية التي علت ثم تهاوت لتطرح بالتالي القضية الدائمة حول قيادات وزعامات كتبت بنفسها نهايتها وبعضها كتبه القدر أو الظروف. لكن الجزء الهام مما مر معنا يظهر أنهم أصيبوا بجنون العظمة فأرادوا ملكا هو الكرة الأرضية ليدفعوا بعدها ثمن ذلك نهاية مريعة لهم.