قد تكون المرحلة التي يمرُّ بها عالم اليوم من أغنى وأمتع المراحل منذ الحرب العالمية الثانية في القرن الماضي، ومع أنَّ هذه المرحلة تبقى إلى حدٍّ ما محفوفة بالمخاطر إلَّا أنَّها وعلى المديين المتوسط والبعيد واعدة جدًّا. مؤشّرات هذه المرحلة مختلفة ومتناقضة حسب الجهة التي تنظر إليها، وحسب استعدادك لقراءة المعطيات، وحسب قدرتك على فرز الغثّ من السمين في الإعلام الغربي الموجَّه والأخطبوطي والذي يحاول الغرب من خلاله أن يبقي على خيوط المسائل المطروحة حصرًا بيده وحفاظًا على مصالحه في الهيمنة ونهب الشعوب وتدمير حياتها ومن خلال منظاره. إلَّا أنَّ ضوءًا متصاعدًا قادمًا من بعيد يُظهر يومًا بعد يوم هشاشة هذه الخيوط وتضليل هذا المنظار الغربي السائد إعلاميًّا للرؤية والعَين والعقل. وكلَّما انكشفت حقيقة وهْم هذه الخيوط وحقيقة الصورة المضلَّلة التي تقدِّمها أجهزة الإعلام الغربية المرتبطة بأجهزة المخابرات الغربية، ازدادت شراسة القائمين عليه لإثبات عكس ذلك.
لقد كان قرار المحكمة الجنائية الدولية الصادر بحقِّ الرئيس فلاديمير بوتين منذ أيام آخر صرخة إلى حدِّ الآن معبِّرة عن القائمين على هذه الخيوط وهذا المنظار، وإن كان الهدف منها واضحًا، وهو عرقلة حضور الرئيس بوتين قمة العشرين القادمة في الهند، ولكنَّ هذا القرار المتهوِّر يُعبِّر أكثر ما يُعبِّر عن مدى انزعاج وقلق الغرب من نجاح الاجتماع التحضيري للقمَّة والذي عقده وزراء الخارجية في الهند منذ أسابيع قليلة والذي فشل الغرب فيه بإصدار بيان ختامي أو إدانة العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، حيث رفضت الصين وروسيا والهند هذه الإدانة، الأمر الذي مثَّل جرس إنذار للتكتل الغربي والذي أدرك أنَّ تكتلًا آخر أقوى إرادة وأكثر إقناعًا قائم وموجود على طاولة الحوار معهم ولا يمكن لهم تجاهله بعد اليوم أو التقليل من شأنه. وفي تعليق سريع على هذا الحكم بحقِّ الرئيس بوتين، فالذي أصدره ليست محكمة وليست دولية، وإنَّما هي أداة صغيرة ورخيصة في أيدي أجهزة المخابرات التابعة لمن نصَّبوا أنفسهم حَكَمًا على العالم دُون أن يكون لهم أدنى حقٍّ في ذلك. ولكنَّ هذه المحكمة ليست الأداة الوحيدة؛ فقد حوَّلت الولايات المتحدة معظم مؤسسات الأمم المتحدة إلى أدوات لها تطلق أحكامًا تشكِّل وصمة عار في تاريخ التجبُّر والتعنُّت الغربيين. علمًا أنَّ هذه المحكمة لم تدِنْ أيًّا من رؤساء الدول الغربية وصنيعتهم: «كيان الأبارتيد الصهيوني» رغم أنهم ارتكبوا جرائم حرب شنيعة بحقِّ الإنسانية ذهب ضحيتها الملايين من البشر في كلِّ القارات وخصوصًا مؤخرًا في العراق وسوريا ولبنان واليمن وليبيا، ودائمًا فلسطين.
في هذا الوقت الذي يُغرق الغرب نفسه بذات الأساليب الأحادية الجانب والأدوات من حروب وحشية وحصار وعقوبات وعدم الاعتبار للأُسرة الإنسانية التي أوصلته إلى هذا الدرك والإفلاس الأخلاقي والسياسي والمجتمعي، فإنَّ عالمًا آخرًا جميلًا عادلًا إنسانيًّا حضاريًّا يبزغ من الشرق حيث تتمُّ مناقشة أفكاره ورؤاه وإرساء أُسُسه وقواعده لبنة لبنة كي يشكِّل بالفعل خلاصًا للإنسانية من وحشية الهيمنة الغربية التي أدَّت إلى إذلال الشعوب ونهبها والعبث بمقدَّراتها وإبادة الملايين من أبنائها خدمة لاستمرار تفوُّق العرق الأبيض والذي استخدم أبشع الأساليب الوحشية لضمان تفوُّقه ماديًّا وعسكريًّا على حساب دماء الشعوب المستضعفة والمقهورة ونهب ثرواتها.
سوف ينشغل العالم بعد أيام بزيارة الرئيس الصيني شي جينبيج إلى روسيا مع كلِّ ما يرافق هذه الزيارة من تصريحات من روسيا والصين عن العلاقة والشراكة الاستراتيجية بين روسيا والصين والتي تتوثَّق عراها وتتجذَّر آليَّاتها وتكبر إمكاناتها مع كلِّ مطلع شمس، وبهذا فإنَّ الغرب الذي اعتاش على دَبِّ الفرقة بين الآخرين والاستفراد بهم كلٍّ على حِدَة يحسب ألف حساب لمِثل هذه الشراكة والتي تكتسب آفاقًا بعد العلاقة والتنسيق مع الهند والبرازيل وفنزويلا وجنوب إفريقيا وإيران ودول أخرى كثيرة سوف تتسابق للانضمام إلى تكتلات العالم الجديد والانعتاق من عنصرية الغرب وحروبه التي لا تنتهي.
الصين اليوم معمل ليس فقط للبضاعة المنافسة للبضائع الغربية سعرًا وجودة، ولكنها أيضًا معمل للأفكار والرؤى الإنسانية التي تحدِّد المحطَّة التي وصلت إليها البشرية اليوم، ومواصفات هذه المحطَّة وجدواها للشعوب قاطبة في كلِّ أركان الأرض ومواقع الخلل التي اعترتها وأسباب هذا الخلل والرؤى البديلة التي يجب طرحها كي ننتقل بعالم اليوم من الحروب والهيمنة والفقر إلى عالم يسوده الأمن والمَحبَّة والتعاون بين شعوب الأرض على أساس الكرامة المتساوية للدول والأشخاص على حدٍّ سواء بغضِّ النظر عن اللون أو العِرق أو الدِّين أو المكان، عالم مؤمن باختلاف الثقافات والحضارات والنّهل من غناها وجذورها الحضارية بدلًا من محاولة اجتثاثها وفرض بدائل لا علاقة لها بالأرض أو التاريخ أو التركيبة الدينية والثقافية والأخلاقية للمجموعة البشرية، عالم يسأل عن جذور كلِّ شيء ويفتح الأفق واسعًا لمناقشة كلِّ الأفكار سعيًا لاختيار الأفضل والأنجع القادر على تحقيق الأمن والرفاه للبشر.
فبعد مبادرة الأمن العالمي التي أطلقها الرئيس الصيني شي جينبينج منذ سنوات وأجرى عليه تحديثات مهمَّة هذا العام، فتح الحزب الشيوعي الصيني ملف النهج الديمقراطي في الصين ومقارنته بالنهج الغربي مؤكدين أنَّ الغرب لا يمتلك الحلول المُثلى دوليًّا؛ لأنَّ تجربته وليدة تطوُّره هو؛ المجتمعي والاقتصادي، وأنَّ الديمقراطية لا تعني فقط حقَّ التصويت، ولكنَّها مزيج من الديمقراطية الانتخابية والمشاركة الحقيقية في مختلف مفاصل اتخاذ القرار في القطاعات الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية والبيئية. والديمقراطية تعني أنَّ الشَّعب هو سيِّد البلاد، وتعني احترام الاختلافات والثقافات، وإشراك الشَّعب في مفاصل اتخاذ القرار من القرية إلى الحيِّ إلى البلدة والمدينة والدولة ممثَّلًا لصالح الناس وعيشهم الكريم ورفاههم.
ومنذ أيام اقترح الرئيس الصيني شي جينبينج «مبادرة الحضارة العالمية» في كلمة افتراضية خلال الحوار رفيع المستوى للحزب الشيوعي الصيني مع الأحزاب السياسية العالمية والتي قال فيها: «لن يظهر المرء بشكلٍ أفضل إذا أطفأ مصابيح الآخرين، ولن يحقق المزيد من التقدُّم عن طريق سدِّ ممرَّات الآخرين.» وبهذا القول الجميل لخَّص الرئيس شي جينبينج وببلاغة قلَّ نظيرها جوهر المعركة الحقيقية والشاملة ربما غير المرئية تمامًا بين الغرب الليبرالي المتعطش للدماء وثروات الشعوب من جهة، والصين وروسيا وحلفائهما الدَّاعين إلى عالم الحُرِّية والازدهار متعدِّد الأقطاب من جهة أخرى؛ لأنَّ ما يحاول الغرب أن يقوم به وفي كلِّ المجالات هو إطفاء مصابيح الآخرين وسدِّ الممرَّات في طريقهم، وما تحاول الصين في كلِّ سردياتها وحواراتها وأعمالها أن تفعله هو إضاءة المزيد من المصابيح وفتح المزيد من الممرَّات لتشمل التنمية والحُرِّية والرفاه للعالم بأَسْره، ولتحقِّق عالمًا عنوانه الكرامة الإنسانية المتساوية وسيادة الدول وتقدير الغنى التاريخي والثقافي والمعرفي للشعوب، وتبادل الخبرات والمعرفة على أُسُس التكافؤ والعدالة، والمساهمة في خلق عالم آمن بوصلته الحوار والاحترام والتفاهم وليس الهيمنة والعنصرية وإذلال الشعوب ونهب ثرواتها كما مرد الغرب على فعله. في الوقت الذي يعمد الغرب على اتباع أساليب شائنة من مذكرات توقيف بحقِّ رموز وزعماء، والتصرفات الهوجاء بحقِّ الشعوب والبلدان، ترسي الصين وحلفاؤها بدائل للنظام الذي فرزته الحرب العالمية الثانية وتبشِّر ببدائل تحترم إنسانيتنا وحقوقنا وتَعد بمستقبل يرفل فيه البشر جميعًا بثوب الخير والكرامة والرفاه.


أ.د. بثينة شعبان
كاتبة سورية