نؤمن جميعًا بأنَّ الإنسان كائن اجتماعي بطبعه، فهو يألف التجمُّعات واللقاءات المشتركة بحكم تكوينه الطبيعي الذي يعتمد على التفاعل بينه وبين بقية بني جنسه، بل إن العمل الجماعي هو في حدِّ ذاته أفضل وأكثر إنجازا وأكثر شمولية في تحقيق الإنجازات، ولا يختلف اثنان على أن القيام بأي عمل بصورة جماعية منظمة هو الأفضل من القيام بأعمال فردية متناثرة هنا وهناك. فالحضارات التي قامت على مختلف بقاع الكرة الأرضية وعلى مدار الأزمنة السحيقة وإلى اليوم هي نتاج عمل جماعي مشترك، إذن طبيعة الإنسان الجماعية هي من جعلته ينجز ويبدع في شتَّى المجالات.
لكن هذه الطبيعة الجماعية لا يمكن أن تتم بدون نظام بدون عمل فردي يؤلف في النهاية عملا جماعيا، فكما يقال القطرة هي من يصنع النهر، فلا يمكن أن يتكون النهر إلا بوجود قطرات متعددة كل واحدة منها له دور في تشكُّل ذلك النهر، وكذلك العمل الجماعي لن يتم إلا بوجود أعمال فردية تتكامل فيما بينها لإنجاز المطلوب. ففي أي مجال يتم توزيع الأعمال بصورة تتناسق في النهاية لتشكِّل عملا جماعيا متناغما مثل الآلة التي تعمل أجزاؤها مع بعض لتنتج الطاقة المطلوبة، وأي خلل في أحد أجزائها يعرقل العمل بِرُمَّته.
إذن نستطيع أن نقول إن الجماعة تنتج من رحم الفرد وتكامل الأفراد فيما بينهم، هذا فيما يخصُّ الإنجاز. ولكن لو تحدثنا عن جانب التعزيز الذي يحتاجه الفرد لينجز، سواء كان ذلك فرديا أو ضمن نطاق الجماعة، هل لا بُدَّ أن تشترك المجموعة كاملة لدعم نجاح أفرادها؟ نعم منطقيا هذا هو المفترض، فعندما يشعر الفرد بأنَّه جزء من منظومة معيَّنة يكون ذلك دافعا له لمزيد من التطوير والتحسين، وهذا ما تلعب عليه الشركات الكبرى، وخصوصا التكنولوجية منها، حيث وصل الأمر إلى تخصيص جوائز ومبالغ مالية كبيرة لمن يحقق إنجازا أو يطور عملا، حتى لمن يكتشف أخطاء في أنظمتها ويستطيع اختراقها يستحق مكافأة مجزية نظير هذا الجهد الذي ـ بلا شك ـ سيطور الأداء.
نتحدث هنا عن علوم وإنجازات وما يتبعها من جوانب مادية، لكن هل كل عمل نقوم به يمكن أن ننال عليه التعزيز، سواء كان ماديا أو معنويا من الجماعة التي ننتمي لها، سواء على الصعيد الشخصي في المجتمع الضيق أو على مستوى نطاق العمل؟ بلا شك لا يمكن الجزم بصحة هذا التعميم. لكن ما الحل إذًا؟ في اعتقادي أن التعزيز الذاتي والقدرة على التوافق النفسي الداخلي هو السبيل للاستمراية والإنجاز. ومن يعتقد أنني أميل كثيرا للمثالية، فالواقع يطابق في أحايين كثيرة إلى ما ذهبت له، فكم قرأنا عن مؤلف مشهور لم يستطع لسنوات كثيرة أن يتمكن من طباعة روايته لعدم اقتناع الناشرين بها، ولكن إصراره هو من جعله ينشرها في النهاية وتجد التشجيع الذي يستحقها، وكم لاعبا مشهورا وكم ممثلا وكم وكم من الفئات الأخرى التي وقفت الجماعة كلها ضدهم، ولكن إيمانهم بمواهبهم الفردية هو في النهاية من جعل الجماعة تصفق لهم. كذلك ربما يكمن السبب الثاني لتأكيد وجهة نظري هو وصول الشخص لِما يُسمَّى مرحلة النضج في مختلف مجالاته واقتناعه بأنَّ التعزيز الداخلي مع الإيمان بالهدف المخطط له هو الأساس الذي يبنى عليه التطوُّر الفردي.
إنَّ الوقوف على الأطلال والبكاء على اللبن المسكوب لن يصنع إنجازا، فإذا كنت ممَّن ينتظر الجماعة أن تصفق لك بحكم طبيعتنا الجمعية التي تذوب في أي شيء جماعي فإنك تسير في الطريق الخطأ، وستنتهي كما انتهى غيرك، ولكن من يريد أن يصل لِما وضعه من أهداف عليه أن يتسلح بالتقدير الذاتي الداخلي الذي هو الأساس لمزيد من التطوير والتقدُّم.

د. خصيب بن عبدالله القريني
[email protected]