د. رجب بن علي العويسي:
في ظل تسارع مستجدات العمل الوطني مع إقرار رؤية عُمان 2040، والتوجُّهات الوطنية التي تُوجت بإعادة هيكلة الجهاز الإداري للدولة، يأتي طرح موضوع صناعة القدوات والنماذج في الجهاز الإداري للدولة ضرورة ملحَّة؛ باعتبارها الطريق لتعظيم القيمة التنافسية للمورد البشري الكفء، لضمان قدرة المؤسسات على إحداث تحوُّل في منظومة عملها، وفي تعزيز مبادئ التنافسية والثقة في أداء مواردها، وترسيخها لقِيَم المسؤولية والالتزام والاحترافية والشفافية المؤسسية كأحد أبرز مؤشرات التحوُّل الساعية نحو تكريس لغة النماذج العملية وترقية حضورها، لتمارس أفضل الأدوار، وتجسِّد أفضل المواقف التي رسمت مفاتيح أمل ومساحات نجاح، وأعطت الشارع العُماني المزيد من التفاؤلية، ولها حضورها الواسع ومواقفها المعبِّرة، وجهدها المقدر، لذلك كانت هناك حاجة اليوم إلى بناء شخصيات قيادية تصنع لهذه النماذج الوطنية الحاضرة جسرا ممتدا للأجيال القادمة، كما قال الشاعر: فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم، إنَّ التشبه بالكرام فلاح.
فإن حديثنا اليوم عن صناعة وإعداد قيادات الصفوف الأولى والثانية والثالثة في الجهاز الإداري للدولة، يستدعي تعريض قيادات المستقبل لمواقف عملية وتجارب وبيئات محاكاة الواقع، وتسليط الضوء عليها ومنحها فرصا أكبر في الظهور، وإبرازها في إطار من المهنية والاحترافية عبر تكليفها بمهام رسمية تقف خلاله على إدارة بعض الملفات الوطنية الحساسة والمعقدة من واقع عمل المؤسسات أو ذات الطبيعة الخاصة فيها، بهدف صقل مهاراتها وإعدادها للتكيف مع الواقع المتجدد، وإيجاد روح التغيير في أداتها مستفيدة ممَّا تمتلكه من خصائص وسمات وموجهات، تصنع لحضورها قوة في مختلف المسارات السياسية والدبلوماسية والاقتصادية والمجتمعية والعمل الاجتماعي والتطوعي والجمعيات الخيرية، واستحضار ذلك واستشرافه واكتشافه من خلال مؤسسات التعليم ومحاضن التربية ومؤسسات التدريب والتثقيف والإعلام، وبالتالي فإن معطيات المرحلة الحالية تستدعي مزيدا من المهنية في تكوين القدوات وتطوير القيادات؛ بهدف إنتاج قدوات وطنية قادرة على المضي قُدما في رسم معالم الطريق وتعزيز ممكنات البناء في ظل ما تمتلكه من مقوِّمات، وما تتميز به من موجهات، عززت من حضورها الاجتماعي وتفاعلها مع قضايا المجتمع، الأمر الذي انعكس على ما تحظى به من تقدير ومكانة، لذلك لم يعد صناعة النماذج والقدوات الوطنية في قطاعات الدولة ومؤسساتها المختلفة، وتوفير كل الفرص والأسباب في سبيل حضورها في واقع العمل الوطني ترفا فكريا، بل خيار وطني، يجب أن يحظى بالمزيد من الاهتمام في ظل مرحلة وطنية تستشرف بناء عُمان المستقبل، ساعية نحو إيجاد روح التغيير التي يجب أن تسري في حياة المواطن، ليجسدها المسؤول الحكومي القادم في عمله وسيرته وأدائه ومهامه وحواراته، في ظل تناغم وانسجام وارتباط بين أهداف المؤسسات ومهامها ومسؤوليتها الاجتماعية والوطنية.
ومع القناعة بأن صناعة القدوات الوطنية والنماذج ليست عملية سهلة، ولكنها ليست مستحيلة في ظل الفرص والموجهات والاستحقاقات التي باتت قادرة على تشخيص هذا الواقع، فإنها في المقابل يجب أن تحظى بمشاركة مختلف المنظومات الوطنية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفكرية والسياسية، وأن تعمل هذه المنظومات بما يمثلها من مؤسسات في إنتاج القدوات كل في مجاله وذلك بعد وضوح الأدوار والمسؤوليات وكفاءة البرامج والخطط ومهنية الأدوات والأساليب والممكنات والوسائل، وعبر التأطير السليم لها في فلسفة العمل وأساليب التوجيه ومنصَّات المتابعة والتقييم والرقابة، وتعميق البناء الفكري والمعرفي في صناعة القدوات بما يضمن قدرتها على تقديم صورة مكبرة لواقع الإنجاز، آخذة بكل ما من شأنه تحقيق التناغم بين الممارسة والأهداف والغايات والاحتياجات والطموح حتى تنعكس على دقة التزامه وحرصه على رفد عالمه بالعطاء الواسع، فيبتكر وينتج ويعطي ويطور ويبادر ويشارك، وهو أمر يحتاج إلى تكاتف الجهود وتقوية العروة الوثقى وتعزيز منصَّات العمل المشترك، لتشق طريق العطاء، وتبني فرص الإنجاز، خيوط ممتدة في الإبقاء على المشتركات ونقاط الالتقاء في تحقيق مبدأ المسؤولية وإذكاء روح التنافس، وتكوين النماذج المضيئة، وصقل المواهب والخبرات والتجارب والتي تنشط في مختلف مراحل التعليم، ليمارس دوره في اكتشاف القدرات وإنتاج القدوات الوطنية في مختلف المجالات وتعظيم القيمة التنافسية بما تمتلك من مهارات ومواهب واستعدادات وما تلتزمه من مبادئ وقناعات.
من هنا فإن الدعوات المتكررة نحو الارتقاء بالممارسة الإيجابية الأفضل وتوظيفها وتأكيدها وتعزيزها في عمل مؤسسات الجهاز الإداري للدولة تستدعي الحاجة إلى النهوض بالنماذج الإيجابية المضيئة بالمؤسسات وصقلها وتنميتها ودراسة تأثيرها على الارتقاء بمنظومة جودة الأداء، وأن تتبنى المؤسسات مقاييس للرصد ومؤشرات نوعية وكمية لنواتج الممارسة ونماذج تطبيقية واضحة تؤصل لثقافة القدوة الحسنة في المؤسسة، وبالتالي أن تسهم معايير التقييم ونموذج التقويم الوظيفي للموظف في صناعة القدوات المؤسسية بتعزيز الممارسة الإيجابية الأفضل وتبنيها وصقلها ورصدها، هذا بدوره يضع المؤسسة في مرحلة من التحوُّل في أنشطتها وبرامجها وسياساتها وخططها يظهر ذلك في الإجراءات التنفيذية وأساليب الإدارة ونمط العمل وآليات التنفيذ، ووجود أدوات للرقابة والمتابعة والموضوعية، بحيث يعمل الجميع في ميزان واحد مهما اختلفت مسمياتهم الوظيفية وتعددت مناهجهم الفكرية وتنوعت أنشطتهم الاجتماعية، فإن صناعة القدوات الوطنية منهج عمل يتحدد في طبيعة الدور الذي يتفاعل فيه الفرد لتحقيق تلك المسؤولية، فلا خصوصية في صناعة القدوات كما أنها لا ترتبط بفرد أو مجال أو تخصص أو حالة؛ كونها تعبيرا عن مرحلة التوازن في قراءة الأشياء وممارستها واستدراك الأجود منها؛ لأنها تبني في الإنسان حرصه الدائم وسعيه المستمر في بلوغ الممارسة الأفضل في كل المواقف الحياتية التي يعيشها الفرد ويتعايش معا، وعندها يصبح مفهوم صناعة القدوات مدخلا لتعزيز الممارسات الإيجابية في المجتمع وزيادة عددها ونشر سماتها وصقلها بالتثقيف والتدريب والتعلم المستمر لتصبح نماذج مضيئة قادرة على تحويل الممارسات والثقافات السلبية إلى سلوك إيجابي مستدام وفكر نوعي خلاق، في ظل تبني أساليب مبتكرة وأدوات نوعية في التقييم والتشجيع والمتابعة والتوجيه والتحفيز والمكافأة، عبر استثمار أكبر للحالة التعليمية والفرص المجتمعية والإعلام والخطاب الديني والنسق الاجتماعي والفكري والقِيَم والمبادئ بالشكل الذي يضمن قدرتها على صناعة الإلهام في الشخصية الوطنية، لما تشكله من أرصدة للمنافسة والتجربة والريادة وتحقيق التوازنات الاقتصادية والاجتماعية والتنظيمية وغيرها، وصناعة قدوات وطنية في السياسة والاقتصاد والثقافة والفكر والفن والإعلام والتعليم والأمن وبناء الأسرة والرياضة، والعمل التطوعي والعمل الاجتماعي والمبادرة المجتمعية والمسؤولية الاجتماعية وغيرها.
وعليه، فإن إدراك هذا الهاجس الوطني واستشعار القيمة المضافة الناتجة عنه، وتكريس ثقافة إنتاج القدوات الوطنية المخلصة بما تحمله من فكر متَّقد ووعي وإخلاص وأخلاق، مرهون بوجود الإرادة التي ترفع من سقف التوقعات والإيثار والاحترافية في اكتشاف هذه القدوات والنماذج الإيجابية وتعهدها بالرعاية والمتابعة والاهتمام والحرص والدعم والأخذ بيدها لشق طريق النجاح وتسليط الضوء عليها في المواقف الوطنية، غير أن البحث في استمرارية اكتشاف هذه النماذج ورصدها وقدرتها على التسويق الذاتي لمبادراتها وأخلاقها وقِيَمها، يستدعي تبنِّي سياسات تشريعية تتوافق مع ملامح المرحلة المتجددة، وتعكس مستوى التناغم بين الفكر والشعور والمهارة والفراسة، لتبرز النماذج المضيئة في كل القطاعات، أنوار تمشي على الأرض، فإنَّ قوة حضور القدوات والاهتمام بها وتوفير الأدوات المساندة في الاكتشاف والدعم والتجريب والرعاية، ومدى وجود إطار وطني يمتلك بدائل وسيناريوهات عمل داعمة، سوف يضع المجتمع أمام مسارات وعي متقدمة للتعامل مع أبجديات ومفردات هذا الملف، وسيوفر فرصا أكبر لاستحقاقات قادمة تتنافس فيها المؤسسات، عبر مختبرات صناعة القادة في التعليم وإعداد وتأهيل الصفوف التي تحتاجها القطاعات وفق برامج متخصصة تستمر معها مراحل متتالية والتي في تقديرنا الشخص تمثل فيها الأكاديمية السلطانية للإدارة محطة تحوُّل نوعي في صناعة القدوات المؤسسية في ما يمكن أن تطرحه من مسارات تدريبية وتعليمية متخصصة في مجال بناء القدرات الوطنية، سواء من خلال تأهيل وتطوير القيادات الإدارية الحالية في الجهاز الإداري للدولة، أو إعداد القيادات الواعدة للمستقبل في القطاعين العام والخاص وفق الأدوات والمنهجيات الحديثة في الإدارة الاستراتيجية، آخذة في الاعتبار كل المعطيات الوطنية الحالية التي تضمن خط سير واضحا لعمل الأكاديمية.
أخيرا، يبقى إنتاج القدوات ودعم النماذج المضيئة في المجتمع الوظيفي خاصة والمجتمع المحلي عامة، الطريق الذي يقلّل من هاجس القلق والخوف حول مستقبل العمل الوطني، ويفتح المجال لخيارات أوسع في اختيار قادة المؤسسات من وزراء ووكلاء ورؤساء تنفيذيين ومن في حكمهم، أو كذلك في بناء قدرات وقدوات فنية متخصصة من علماء ومفكرين وإعلاميين وباحثين ومؤثرين ومنتجين في فنون الحياة المختلفة وأصحاب الخبرة والتجربة والريادة في قطاعات الإعلام والاقتصاد والسياسة والدبلوماسية والإتيكيت والتعليم ممن يحملون على عاتق مسؤولية صناعة التحوُّل القادم والسير بعُمان المستقبل في عزة وشموخ وتقدم وازدهار، خير خلف لخير سلف، خيوط ممتدة ونماذج عملية لكفاءات وطنية سجلت حضورها في صفحات التأريخ والبناء والنهضة، حملوا المسؤولية، وأخلصوا العمل، وأدوا الأمانة، ورسموا النجاح، وصنعوا الإنجاز، وضحّوا من أجل عُمان "وطن يحبهم ويحبونه".