محمد عبد الصادق:
حادثة انتحار موظف شاب بإلقاء نفسه من فوق سطح مقر عمله، بسبب سوء معاملة مديره في العمل ـ كما يقول زملاء الضحية ـ أثارت ضجة كبيرة في مصر وحازت اهتمام رواد مواقع التواصل الاجتماعي في الأسبوع الماضي، تعاطف الجميع مع الشاب المنتحر وأدان تصرفات المدير والإدارة المتوحشة التي أوصلت أحد موظفيها لحالة من اليأس دفعته للتخلص من حياته. وبعيدا عن التفاصيل المحزنة، الحادثة تفجر قضية الإدارة والتدريب وعلاقات العمل في ظل المنافسة واقتصاد السوق الذي لا يرحم، خصوصا والواقعة حدثت في إحدى الشركات الأجنبية متعددة الجنسيات العاملة في مصر.
والحقيقة التي لا مفر منها أن هناك جيلا جديدا ظهر بعد أحداث ما يسمى بالربيع العربي، مختلفا تماما عن الجيل القديم في نظرته تجاه العمل وقيمته وعلاقته برؤسائه وأسلوب حياته وأولوياته، الأمر الذي يستدعي مزيدا من الدراسات الاجتماعية والنفسية على التغيرات التي طرأت على تركيبة الموظف والعامل العربي في الألفية الجديدة.
ظروف وأوضاع العمل اختلفت تماما عن الماضي؛ حيث كان القطاع العام والوظيفة الحكومية المأمونة والدخل الثابت، واستحالة فصل الموظف أو الاقتطاع من راتبه إلا لأمر جلل؛ كالاختلاس من العهدة أو الانقطاع لمدة طويلة بدون إذن عن العمل، وصلاحيات وسلطة محدودة للمدير، لا تتعدى قيامه بتقييم الموظف قبل الحصول على ترقية أو علاوة امتياز، وكان من حق الموظف اللجوء إلى القضاء الإداري لاستعادة حقوقه المنقوصة أو إعادته للعمل في حالة الفصل التعسفي. ورغم ذلك كان هناك التزام من معظم الموظفين بأوقات الحضور والانصراف، واحترام الرؤساء إلى درجة النفاق، وكان الموظف حريصا أن يحتفظ بالوظيفة في نفس التخصص والمكان لأبعد مدى، حتى أن بعض الموظفين قضى أربعين عاما حتى خرج إلى التقاعد جالسا على نفس المقعد ونفس المكتب داخل نفس المقر.
مع صعود الرأسمالية، وسقوط الشيوعية في تسعينيات القرن الماضي، بدأت معظم دول العالم، تتجه لاقتصاديات السوق وتتخلص من القطاع العام، وتوقفت الحكومة عن التوظيف وأسندت المهمة للقطاع الخاص، الذي لا يعرف غير لغة المكسب والخسارة، فظهرت مصطلحات من قبيل "التارجت" وهو وضع هدف أو رقم محدد من الإنتاج لكل موظف، يتم من خلاله تقييم أدائه، فإذا حقق "التارجت" ضمن استمراره وتواجده بالشركة، وفي حال أخفق كان عرضة لتخفيض راتبه وأصبحت وظيفته في مهب الريح، ففي القطاع الخاص لا توجد وظيفة مضمونة أو مؤبدة، وهناك مصطلح "البونس" وهي أرباح آخر العام، وتصرف في حال تحقيق الشركة أرباحا سنوية، ويستفيد منها الموظف الذي ينجح في تحقيق "التارجت".
ويبدو نظام "التارجت" والبونس" عادلا في ظاهره، ولكن في واقعه متوحشا، فهو يخلق نوعا من الصراع المستمر بين الموظفين، ويضاعف الضغوط النفسية على المديرين، خصوصا لو كان يفوق في قيمته الراتب الشهري، ويحصل المدير على أرباحه وفقا للأرقام التي يحققها مرؤوسوه، لذلك تجده يمارس ضغطا مستمرا عليهم لتحقيق "التارجت"، في ظل هذه الأجواء المشحونة، لا مجال للعواطف ولا العلاقات الإنسانية.
أصحاب الأعمال يتهمون الجيل الجديد بعدم الالتزام والإهمال في العمل، وأنهم يضعون العمل في ذيل اهتماماتهم؛ حيث يظل الموظف ساهرا طوال الليل ويأتي إلى مقر عمله منهكا لا يقوى على القيام بمهام وظيفته، كما أنه لا يحترم رؤساءه ويفتقد للصبر والجلد ولا ينتظر حتى يتقن وظيفته، ثم يترقى لمنصب أكبر، وبمجرد حصوله على وظيفة بأجر أعلى يترك وظيفته القديمة، ويقضي حياته متنقلا بين الوظائف محلك سر لا يتعلم.
بينما يشكو الموظفون الشباب من تعنت أصحاب الأعمال وسعيهم الدؤوب لتسمين مكاسبهم المادية، دون النظر لأوضاع ودخول موظفيهم، وأنهم يتحايلون على القانون ويتهربون من الالتزام بالحقوق، فلا تأمين صحيا مناسب ولا اشتراك عادلا في التأمينات، ولا بيئة عمل مناسبة، يتضح مما سبق أن هناك أزمة ثقة بين الموظف وصاحب العمل، الأمر الذي ينعكس سلبا على معدلات الإنتاج، وربما ينتهي الأمر باستقدام عمال وافدين وتسريح المواطنين.