د. رجب بن علي العويسي:
جسَّد خطاب باني نهضة عُمان الحديثة المغفور له بإذن الله حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد ـ طيَّب الله ثراه ـ الصورة التفاعلية لدور العيد الوطني في بناء الأوطان وتقييم الإنجازات والوقوف على مسيرة العمل الوطني منذ بدايات النهضة الأولى، حيث جاء في خطابه في الثامن عشر من نوفمبر من العيد الوطني الثاني المجيد ملامح الاحتفاء بالأعياد الوطنية بقوله: "اليوم الثامن عشر من نوفمبر هو العيد الوطني لبلادنا، والأعياد الوطنية للأمم رمز عزة وكرامة، ووقفة تأمل وأمل للماضي والمستقبل ماذا فعلنا؟ وماذا سنفعل؟ وليست المهرجانات والاحتفالات والأفراح سوى نقطة استراحة والتقاط الأنفاس لمواصلة رحلة البناء الشاقة والانطلاق بالبلاد نحو الهدف المنشود".
إن الأعياد الوطنية في قاموس الشعوب الواعية والحضارات المتقدمة، محطة تحوُّل، وفرصة أمل وتأمل، ومساحة لالتقاط الأنفاس، وانتزاع حاجز الأثرة، وهاجس المصلحة الشخصية، استراتيجيات في العمل الوطني المخلص الذي تتماهى فيه كل الأفكار والقناعات والتباينات والاختلافات لتنصهر جميعها في حوزة الوطن الماجد ونهضته المتجددة، وتصبح أفراح العيد الوطني، محطات التقاء الأفكار وتمازجها وتناغمها وتقاربها لتحلق في سماوات الوطن حاملة معها الحب والسلام والأمن والأمان، والتنمية والاستقرار، والعمل المبهر والإنجاز المبتكر، وهو المعنى المراد من الثامن عشر من نوفمبر المجيد، الذي شكل على مدى خمسة عقود مضت خريطة طريق جمعت العمانيين في حب الوطن والعمل من أجله والإخلاص له، لتتدفق مشاعر الحب وتفيض وفاء لعُمان وولاء وعرفانا لجلالة السلطان.
من هنا، تمثِّل أعياد عُمان المجيدة مساحة لارتقاء المشاعر الوطنية النبيلة، بما تحمله من صدق الشعور، ولطف المعاني، وطيب الكلمات، وصدق البوح، وسمو الكلمات، ونبض العبارات، وقوة التعبير وسلاسة البوح، ودقة النظم في فنون تعبيرية متنوعة في الشعر والنثر والغناء والكتابة والقصائد الوطنية والأهازيج الشعبية والاحتفالات والمهرجانات، محطة التقاء جميع أبناء عُمان، واستراحة مواطن وهو يعبر عن مشاعره الصادقة في حب الوطن وجلالة السلطان، ويعمل بكل إخلاص نحو الدفع بجهود التنمية والتطوير كلٌّ في مجاله وحسب قدراته واستعداداته، في ظل قيم النهضة ومبادئها، وما ارتبط بها من تحول في وعي الإنسان العماني وإنجازاته المستمرة، ومبادراته الجادة وتفوّقه المتواصل، ليعبِّر عن ملحمة وفاء خالدة من أجل الوطن، ونموذج متفرد في العمل من أجل رفعتها وتقدمها ونهضتها وتطورها، فيضع صورة ما تحقق من منجزات النهضة أمام تقييم مستمر، وتصحيح متواصل، يبدأ من ذاته وصحوة ضميره وصدق مشاعره وشعوره بالمسؤولية التي عليه أن يؤديها بكل إخلاص في كل مواقع العمل والمسؤولية، ويؤسّس لسلوك رشيد يضع منجزات الوطن أمام صورة مكبرة تقترب من حياة المواطن وأمنه وسعادته وعيشه الكريم، وتعبّر عن عزته وشموخه، لتقف شامخة في إنسانيتها وحكمة قيادتها، ولعندها تتجسد روح المواطنة في تلك التفاصيل التي يمارسها بصدق وإخلاص ويقوم على رعايتها امتثالا لأمر الوطن ورعاية لمصالح أبنائه.
وعليه، فإنّ أيام عُمان الوطنية المجيدة وأعيادها الخالدة، محطات لقراءة الوطن بعمق، ودراسة منجزه بوعي، والإسهام في بنائه بروح عالية، ونفس رضية، ليبرز في تفاصيل الأداء وملامح التحول شواهد حية، وإثباتات واقعية تعبّر عن مفردة الوطن الماجد، فيكبر في ذات الصغير والكبير، والمرأة والرجل، وينمو في الفكر والوجدان، ويسري عبيره في النفس سريان الدم في العروق، ترتوي الأرواح بعطائه، وتنقاد طواعية لندائه، إخلاصا للوطن ووفاء له واعترافا بفضله، إذ حبه سلوك مستدام، ومنهج عمل لا يرتبط بالزمان أو المكان ولا تحده الجغرافيا أو تتحكم فيه الأمزجة والأهواء، أو يقتصر عند المصلحة دون سواها، بل حبٌّ يسكن في القلب والعقل والسلوك، يتجاوز حالة الوقتية وسرد المفاخر، إلى العمل الجاد المخلص، والأداء الوطني المسؤول، ويعيد إنتاج الواقع وتصحيحه بما يتوافق مع تطور المجتمع ومتطلبات الأجيال القادمة ويحافظ على تشريعاته وقوانينه وأنظمة عمله سارية المفعول، ضابطة لأي انحراف قد يتجاوز الهدف أو يشوه صورة الإنجاز.
لم تكن تلك الصورة النموذج حول الثامن عشر من نوفمبر إلا محطة متجددة تحمل في تفاصيلها روح التغيير القادم ونموذج التطوير المستمر لبلوغ عُمان المستقبل، وفي ظل مرحلة جديدة من مسيرة نهضة عُمان المتجددة بقيادة حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ شكل الثامن عشر من نوفمبر المجيد حاضرة التجديد، ومحطة التحوُّل ضمن للنهضة رصانة خيوطها الممتدة وكفاءة جسورها المتصلة التي تضع عُمان الأولوية والهدف، فيصل ماضيها بحاضرها المشرق ومستقبلها الزاهر، ويجعل من الإرث القابوسي الخالد محطة تحوُّل لبناء عُمان المستقبل، وقراءة روح المواطنة التي أصَّلها جلالته ـ طيَّب الله ثراه ـ لتنعكس على أخلاق العمانيين وتقديرهم لمنجزات العهد السعيد، وولائهم لسلطانهم المجدد، استجابة لدعوة سلطانهم الراحل "فإننا ندعوكم جميعًا إلى مبايعته على الطاعة في العُسر واليُسر، والمنشطِ والمكره، وأن تكونوا له السند المتين، والناصح الأمين، مُعتصمين دائمًا تحت قيادته بوحدة الصف، والكلمة، والهدف، والمصير"، مرحلة تضع الجميع أمام مسؤولية أخلاقية وإنسانية وأمانة تاريخية كبرى، لتجسيد هذه الروح الايمانية نحو عُمان إلى واقع عمل، واستراتيجيات أداء، لضمان الانتقال بعُمان إلى طموحات أبنائها، بما يتطلبه ذلك من مشاركة الجميع في رسم ملامح المرحلة، ووقوف الكل أمام التحديات الحاصلة بإرادة صلبة، وعزيمة لا تلين، وإخلاص وتضحية، ووفاء والتزام، وروح وثابة للخير ماضية في طريق الإصلاح، واضعة عُمان أولوية الأولويات، متجردة عن كل ما يسيء لعُمان أو يشوه صورة العمل الوطني المخلص في تكامله، وتناغمه، لتظل عُمان الغاية الأسمى والهدف الأعلى، وليقف الجميع صفا واحدا، عملا متقنا، وأداء مخلصا، وروحا تواقة للعطاء، شامخة في صفاء، منتجة في ظل استشعار للمسؤولية بما يضمن صون مكتسبات النهضة المباركة، والمشاركة الفاعلة في إكمال المسيرة الظافرة، وهو أمر لا يتحقق إلا بصدق العمل وإخلاص النية وسمو الأهداف وروح التغيير، وسمو الإرادة، وانصهار الغايات والأهداف الشخصية في أهداف الوطن الكبرى، وغاياته الأسمى.
لقد شكل الثامن عشر من نوفمبر في نهضة عُمان المتجددة، محطة تاريخية متواصلة وجسر عبور ممتد للمستقبل، وامتدادا أصيلا لجسور التواصل بين عُمان الماضي والحاضر والمستقبل، ومحطة التقاء الأولويات والاهتمامات، وفرصة لتعميق روح المنافسة في حب عُمان، ومشترك وطني تفاعل حوله العمانيون، ونسجوا من خيوطه شواهد إثبات على إخلاصهم لعُمان وولائهم المستمر لمجدد النهضة العمانية الحديثة، وعليه يصبح هذا اليوم، وبالتالي كيف يصنع العمانيون من الثامن عشر من نوفمبر المجيد، محطة تحوُّل لمراجعة النفس، وتقييم الذات، والوقوف على مسار العمل، وتشخيص الواقع ورصد التجارب، وكيف يصبح محطة مراجعة ذاتية للمسؤول الحكومي والموظف والمكلفين بالحقائب الوزارية ومن في حكمهم، ليكون مددا يعلي فيهم قِيَم المسؤولية وحس الإرادة ويستنهض فيهم هِمم العطاء بلا توقف والإنجاز بلا حدو، ويبني فيهم الثقة ويستنطق فيهم القِيَم والأخلاق، ليحملوا في إيمان مبادئ وضمير مسؤولية وحس خلق ورقي هدف ومنهج عمل، مرتكزات بناء عُمان المستقبل لتحقيق رؤيتها الطموحة "عُمان 2040".
أخيرا، لقد ولد الثامن عشر من نوفمبر مع ميلاد نهضة عُمان الحديثة، حيث ولدت معه أحلام العمانيين وآمالهم، وتفاعلت معه آمالهم وأذواقهم وأدركته بصائرهم، وأرواحهم وفسيولوجية حياتهم، وارتبط بحقيقة وجودهم، ليكون هذا اليوم جسرا ممتدا للمستقبل الذي يضع الأجيال أمام مرحلة جديدة من العمل الجاد، والتزام ممكنات القوة، وإدراك فعلي لممكنات الوعي، وهي أحلام وآمال وطموحات لن تقف عند حد معين، أو تنتهي صلاحيتها في زمن معين، بل أحلام وطن لن تأفل وشمس نهضة لن تغيب، بدأت من الصفر، حتى وصلت إلى ما وصلت إليه اليوم، أرقاما يفخر بها كل عماني تعاون مع قيادته حتى أصبحت عُمان ملء السمع والبصر وحضن وحصن المواطن العماني وكل من يعيش فيها أو يزورها، فإن الذي تحقق على الأرض العمانية أقوى وأعلى صوتا من أي أقوال، وأن الذي أُنجز أروع وأصدق من أي كلام، ومع رحيل سلطان عُمان الخالد في قلوبنا الباقي في أرواحنا، لم تمت أحلام العمانيين، بل ظلت ماضية ترسم آفاق المستقبل، مستبشرة بعهد سعيد، ونهضة متجددة، لن تقف عند صفحتها الخمسين، بل تواصل مسيرة العطاء المتجدد، والعمل المخلص، "كما أرادها لها سلطان عُمان الراحل مستشعرين حجم الأمانة وعظمتها، مؤكدين على أن تظل عُمان الغاية الأسمى في كل ما نقدم عليه، وكل ما نسعى لتحقيقه"، ويصبح الثامن عشر من نوفمبر ـ ميلاد باني نهضة عُمان ـ، ميلاد لكل أبناء عُمان، يقرأون فيه ملامح النهضة، ويجسدون معالمها، ويرسمون ملامحها معا في سيمفونية خالدة يقودها مجدد النهضة مولانا حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ بسم الله مجريها ومرساها، محلقا بها في سماوات العطاء، نحو آفاق أرحب، تستوعب التجديد، وتتفاعل مع الجديد.