محمود عدلي الشريف:
إخوة الإيمان والإسلام .. لقد أظهرت هجرة رسولنا العظيم ـ صلوات ربي وسلامه عليه ـ أعلى درجات الحضارة والتقدم والرقي الإنساني في الماضي والحاضر، بل سبق عالمنا اليوم بمراحل عدة، فقد أظهر لنا رسول الله مكارم الأخلاق، فلم يكن قد دجج نفسه بالسلاح أو خرج جهرة رغم أن الله تعالى ناصره إن فعل، أو أنه استأجر رجالًا لحمايته، بل إنه رض أن يهاجر سرًّا، فأكرمه الله بأقوى المعجزات، ودلل على صدق رسالته بأقوى الدلالات، فالصدق والأمانة وكريم المعاملة من جانب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحده، وأما من جانب قريش فقد استعملوا الطرق الملتوية، والتي تنأى بأي عربي أصيل أن يفعلها مع من اختلف معه، فلم يدخروا جهدًا أو سبيلًا إلا وسلكوه ليقفوا عقبة في وجه الدعوة الإسلامية، لو لاحظنا نجد أنهم قاموا بكل ما يمكن أن يقوم به عدو لدود، فلم يقفواعند حد الإيذاء والاعتداء، وصد الدعوة في الداخل والخارج، فأما الداخل: فقد اجتمعوا على توحيد الرأي والمشورة لصنع القرار الصارم الذي يقضي على الدعوة في مهدها:(فَوَجَّهُوا كُلَّ قُوَاهُمْ وَنُفُوذِهِمْ إِلَى صَدِّ مُحَمَّدٍ عَنْ دَعْوَتِهِ وَلَوْ بِتَمْلِيكِهِ عَلَيْهِمْ، وَجَعْلِهِ أَغْنَى رَجُلٍ فِيهِمْ، وَلَكِنْ تَعَذَّرَ إِقْنَاعُهُ بِالرُّجُوعِ عَنْهَا بِالتَّرْغِيبِ، حَتَّى التَّمْوِيلِ وَالتَّمْلِيكِ، فَقَدْ أَجَابَ عَمَّهُ أَبَا طَالِبٍ لَمَّا عَرَضَ عَلَيْهِ مَا أَرَادُوهُ مِنْ ذَلِكَ بِتِلْكَ الْكَلِمَةِ الْعُلْيَا: يَا عَمِّ وَاللهِ لَوْ وَضَعُوا الشَّمْسَ فِي يَمِينِي، وَالْقَمَرَ فِي شِمَالِي عَلَى أَنْ أَتْرُكَ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يُظْهِرَهُ اللهُ أَوْ أَهْلَكَ فِيهِ مَا تَرَكْتُهُ" حِينَئِذٍ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ عَلَى صَدِّهِ عَنْ تَبْلِيغِهَا بِالْقُوَّةِ) (تفسير المنار 11/ 167)،وأما الخارج: فقد حاصروه أيضًا لأنهم خافوا لما أسلمت الأنصار أن يعظم أمر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأنه صار له شيعة وأنصارًا وأصحابًا من غيرهم، بغير بلدهم، ورأوا خروج أصحابه من المهاجرين إليهم، وخافوا خروج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إليهم وأن يحاربهم بالصحابة، فاجتمع نفر من كبارهم في دار الندوة وهي دار قصي بن كلاب، وكانت قريش لا تقضي أمرًا إلا فيها، ليتشاورا في أمر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فجاءهم إبليس في صورة شيخ جليل عليه (بت) أي: يلبس طيلسان، فقالوا: من أنت؟ قال: شيخ من نجد، فلما سمعت باجتماعكم أردت أن أحضركم، ولن تعدموا مني رأيًا ونصحًا فقالوا: ادخل فدخل فقال أبو البحتري: أما أنا فأرى أن تأخذوا محمدًا وتحبسوه في بيت وتشدوا وثاقه، وتسدوا باب البيت غير كوة تلقون إليه طعامه وشرابه، حتى يملك فيه فصرخ الشيخ النجدي وقال: بئس الرأي هذا، والله لأن حبستموه يخرج أمره إلى أصحابه فيوشك أن ينقلبوا عليكم ويقاتلوكم، قالوا: صدق الشيخ النجدي، فقال هشام بن عمرو: وأما أنا فأرى أن تحملوه على بعير فتخرجوه من بين أظهركم فلا يضركم ما صنع إذا غاب عنكم واسترحتم، فقال إبليس: ما هذا برأي تعمدون إلى رجل قد أفسدسفهاءكم فتخرجوه إلى غيركم فيفسدهم،ألم ترو حلاوة منطقه، وطلاوة لسانه، وأخذه القلوب ما تسمع من حديثه، والله لأن فعلتم ذلك فيذهب ويستميل إلى قلوب قوم، ثم يسير بهم إليكم فيخرجكم من بلادكم، قالوا: صدق الشيخ، فقال أبو جهل: فوالله لأشيرنَّ عليكم برأي ما أرى غيره إني أرى أن تأخذوا من كل قبيلة من قريش شابًّا نسبيًا، ثم يُعطى كل واحد منهم سيفًا صارمًا، ثم يضربونه ضربة رجل واحد، فيتفرق دمه في القبائل كلها، ولا أظن هذا الحي من بني هاشم يطيقون حرب قريش كلها، وإنهم إذا رأوا ذلك قبلوا ديته، فتودي قريش ديته.. الحديث)(شرح البخاري للسفيري المسمى"المجالس الوعظية في شرح أحاديث خير البرية" 1/ 137).
انظروا ـ أيها الأحبة ـ كيف فكروا في الانتقام بكل الوسائل حتى انتهوا إلى رأي شيطاني لم يفكر فيه أحد قبلهم في التخطيط لقتله، ويعجز أهله أن يأخذوا بثأره عندمايوزع دمه على القبائل، فكرة شيطانية خبيثة.
ولما نجاه الله من بين أيديهم ـ إخوة التوحيد والهدى ـ قاموا بحيلة أخرى ألا وهي الإغراء،فقد أغروا الناس للوشاية به، بل واستغلوا جميع الناس غنيهم وفقيرهم، لأنهم أعلنوا عن عرض مغري جدًّا إنه مائة ناقة، تخيلوا أن إنسان من أهل مكة ـ أو في عصرنا اليوم ـ يصبح فقيرًا لا يملك شيئًا، ثم يمسي ومعه مائة ناقة، وهذا لا يكلفه شيئًا إلا أن يرشد على مكان رسول الله وبعدها يصبح غنيًّا، حقا إنه عرض مُغرٍ جدًّاجدًّا، فلوا أن هذا العرض في زماننا هذا سيظل مُغريًا أيضًا، فكم يكون ثمنها اليوم؟ حقًّا إنها ثروة! ولهذا بعض حرص بعض الناس على أن تكون لهم تلك الثروة، ومن هؤلاء الناس سراقة بن مالك. يقول سراقة بن مالك: لما خرج رسول الله (صلىالله عليه وسلم ) من مكة مهاجرًا إلى المدينة، جعلت قريش فيه مائة ناقة لمن يرده عليهم. قال: فبينا أنا جالس في نادى قومي إذ أقبل رجل منّا، حتى وقف علينا، فقال: والله لقد رأيت ركبة ثلاثة مروا علىّ آنفًا، إني لأراهم محمدًا وأصحابه فأومأت إليه بعيني: أن اسكت، ثم قلت: إنما هم بنو فلان، يتبعون ضالة لهم. قال: لعله، ثم سكت، ثم مكثت قليلًا، ثم قمت فدخلت بيتي، ثم أمرت بفرسي، فقُيّد لي إلى بطن الوادي، وأمرت بسلاحي، فأخرج لي من دبر حجرتي، ثم أخذت قداحي التي أستقسم بها، ثم انطلقت، فلبست لأمتي ـ اللأمة: الدرع والسلاح ـ ثم أخرجت قداحي فاستقسمت بها، فخرج السهم الذى أكره (لا يضره)، وكنت أرجو أن أرده على قريش فآخذ المائة الناقة، فركبت على أثره، فبينما فرسى يشتد بي عثر بي فسقطت عنه، فقلت: ما هذا؟ ثم أخرجت قداحي فاستقسمت بها، فخرج السهم الذي أكره (لا يضره)، فأبيت إلا أن أتبعه، فركبت في أثره، فبينما فرسي يشتد بي عثر بي فسقطت عنه، فقلت: ما هذا؟ ثم أخرجت قداحي فاستقسمت بها، فخرج السهم الذي أكره (لا يضره) فأبيت إلا أن أتبعه، فركبت في أثره، فبينما فرسي يشتد بي عثر بي فسقطت عنه فقلت: ما هذا؟ ثم أخرجت قداحي فاستقسمت بها، فخرج السهم الذي أكره (لا يضره)، فأبيت إلا أن أتبعه، فركبت في أثره. فلما بدا لي القوم ورأيتهم، عثر بي فرسي، فذهبت يداه في الأرض، وسقطت عنه، فعرفت حين رأيت ذلك، أنه قد منع منى، فناديت القوم فقلت: أنا سراقة بن جعشم، أنظروني أكلمكم، فو الله لا أريبكم ولا يأتيكم منى شيء تكرهونه)(الموسوعة القرآنية 1/ 100).
ولهذا لما ضاعت فرصة الباطل على سراقة أبدله رسول الله (صلى الله عليه وسلم)بفرصة أفضل بالحق،فلم يقف الأمر في قصة سراقة عند هذه المعجزة الظاهرة البيّنة الدالة على حماية الله لنبيه وحفظه له، بل تعدّاه إلى نبوءة أخرى ما كان يجول مصداقها بخلد إنسان قط إلا أن يكون نبيا يوحى إليه من ربه، ذلك أنه لما همّ سراقة بالرجوع التفت إليه النبي (صلّى الله عليه وسلّم) وقال:(كأني بك يا سراقة تلبس سواري كسرى، فقال سراقة متعجبًا: كسرى بن هرمز! قال: نعم، فرجع سراقة وهو في حيرة من أمر هذه النبوءة، وتواردت على نفسه شتى الهواجس والخواطر والخلجات النفسية: محمد بن عبد الله الذي خرج مستخفيًا مطاردًا من قومه يخشى الطلب، ويخاف الرصد، ولا يكاد يأمن على نفسه من غوائل المشركين ـ يعدني سواري كسرى إنه للأمر العجب!) (السيرة النبوية على ضوء القرآن والسنة 1/ 493).
ومما سبق تطل لفتة برأسها تحكم على هؤلاء العرب، ففي طرقهم ووسائلهم ومكرهم ودهائهم يجد الباحث في حضارة العرب أنهم ليسوا كما يزعم البعض أنهم كانوا في جهل وتخلف، بل كانوا في حضارة عرفوا بها مكان صاحب القدم التي ترك أثرها على الأرض.. وللحديث بقية.

[email protected]*