نجوى عبداللطيف جناحي:
لا أحد يعلم كم هو عدد الأوقاف الخيرية التي ضاعت في بلاد المسلمين على مرِّ التاريخ، وضاعت معها أموال ضخمة رصدت لصالح خدمة المجتمع وخدمة الناس. ولضياع الوقف الخيري أسباب عديدة نقف عند أحدها وهو: عدم توثيق الوقف بعقود دقيقة سليمة. وعقد الوقف هو مستند يشكِّل دليلا على إنشائه، كما يحفظ في عقد الوقف جميع المعلومات المتعلقة به فيحدد موقع العقار الموقوف، وحدوده ومعالمه، ويحدد المستفيدون منه، والمسؤول عن إدارته، وشروط الواقف. والمتتبع لتاريخ توثيق عقود الأوقاف يجد تأثرها بوسائل الكتابة المتاحة في كل حقبة زمنية، وبأنماط الإدارة المعمول بها في كل مرحلة، فهناك طرق متعددة لكتابة عقود الوقف، وتوثيقها:

التوثيق الشفوي:
فقبل انتشار وسائل الكتابة كان المسلمون يعتمدون في توثيق الوقف على شهادة الشهود، فيُشهد الواقف عددا من الرجال على هذا الوقف فيعينه، ويحدد الموقوف عليه، وشروط الواقف، ويتناقل الناس خبر هذا الوقف جيلا بعد جيل. وبطبيعة الحال، مع مرور الزمن يموت الشهود، وقد لا ينقل خبر الوقف بدقة إلى من بعدهم، حتى يضيع هذا الوقف.

التوثيق الكتابي:
فمع انتشار وسائل الكتابة، بدأ الناس يكتبون عقود الوقف على الصحف والأوراق. وعلى الرغم من كتابة عقود الوقف على الورق، إلا أن هناك عدَّة أسباب كانت تؤدي إلى ضياع الوقف، ومن هذه الأسباب عدم تحديد الموقوف عليه بدقة، فلم يظهر في ذلك الوقت تخطيط المدن وتحديد العناوين، فيعين حدود الوقف بتحديد العقارات التي تحيط به، كأن يقول الواقف: أوقفت هذه المزرعة في المنطقة الفلانية، ويحدها من الشمال مزرعة فلان، ومن الشرق منزل علان، ومن الغرب مزرعة فلان، ومن الجنوب بئر الماء ويُسمِّي اسم البئر. ومع مرور الزمن، وانتقال هذه العقارات إلى الغير بسبب البيع أو الميراث، فيتغير اسم العقار أو يقسم إلى أقسام، فتتغير معالم المنطقة، فيضيع الوقف ولا يعرف حدوده، والسبب الثاني أن الوثائق الوقفية، لم تكن تحفظ في مكان محدد أو جهة محدَّدة، بل كانت تحفظ عند شخص ما، كأن يحفظ عند الواقف أو أبنائه، أو متولي الوقف، أو أي شخص من أقاربه أو معارفة، وقد تضيع هذه الوثيقة أو لا تنقل للوارثين للجيل اللاحق، ممَّا يؤدي إلى ضياع الوقف نفسه. وقد اهتم المسلون بكتابة عقود الوقف منذ عهد الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ ومن أبرز عقود الأوقاف في ذاك الزمان عقد عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه. ففي رواية للترمذي من طريق ابن عليه عن ابن عون حدثني رجل أنه "قرأها في قطعة أديم أحمر".

حفظ الوثائق الوقفية (عقود الوقف) لدى القضاة:
في هذه المرحلة بدأ ولي الأمر يحرص على توثيق عقود الأوقاف، وحفظ هذه الوثائق عند جهة محدَّدة فكانت تحفظ عند قضاة الشرع، وتمهر بمهر القاضي أو الوالي أو الحاكم ليعطي هذه الوثيقة أهمية في حفظها. وتُعد عقود الوقف (الوثائق الوقفية) أمانة لدى القاضي ينقلها لمن يخلفه، وفي هذه المرحلة بدأت عقود الوقف تحفظ وتكون في مأمن.

حفظ عقود الوقف الخيري في مؤسسات الدولة:
لقد أنشئت مؤسسات في الدولة معنيَّة برعاية الأوقاف والإشراف عليها وحفظ عقود الوقف لديها الجهات، وتسجيل العقارات الموقوفة، فتحفظ في خزائن الأجهزة المعنيَّة بالإشراف على الوقف في ملفات خاصة بها، وتكون عهدة لدى القائمين على تلك المؤسسات الوقفية، لتتناقلها الأجيال. وهنا بدأ الاتجاه لمزيد من الحفاظ على عقود الأوقاف، لا سيما غير المنقولة منها، وبالتالي الحفاظ على الأوقاف نفسها. ففي العهد الأموي أنشئ أول ديوان يُسجَّل فيه الأوقاف، وتُحفظ فيه عقود الأوقاف وذلك للحفاظ على مصلحة المستفيدين في مصر في عهد هشام بن عبدالملك قضاء مصر القاضي الأموي توبة بن نمر الحضرمي (ابن حجر، تعجيل المنفعة ص61)، إلا أن إنشاء مؤسسات تُحفظ فيها عقود الأوقاف لم تنتشر في جميع الأمصار، وبدأت تظهر بوضوح وتنتظم مع ظهور نظام الدولة المؤسسية في القرن التاسع عشر.

أرشفة عقود الوقف الخيري إلكترونيا:
وفي العصر الحديث ومع انتشار التكنولوجيا الحديثة، وظهور برامج إلكترونية متطورة ظهرت الأرشفة الإلكترونية للوثائق الوقفية، فبدأ القائمون على الأوقاف الخيرية ببناء قواعد بيانات تحفظ في أجهزة الحاسوب تتضمن حصر لعقود الأوقاف (للوثائق الوقفية) في سجلَّات المؤسسات التي تشرف على الأوقاف، ثم تطور إلى حفظ نسخ ضوئية من عقود الأوقاف (الوثائق الوقفية) في أجهزة الحاسوب (أرشفة إلكترونية)، وفي الآونة الأخيرة ظهرت عقود الأوقاف الإلكترونية، حيث يحرر العقد في منصة إلكترونية فتحفظ في البرنامج الإلكتروني المصمم لهذا الغرض، ثم يتم بناء قواعد البيانات الشاملة التي تحصر جميع عقود الأوقاف التي تُسجل في المؤسسات المعنيَّة برعاية الأوقاف.

وعلى الرغم من التطور المستمر في حفظ الأوقاف، إلا أنه ما زال نقل الخبر الصادق وتداوله حول وقف معيَّن له قيمته وأهميته، فهناك أوقاف كثيرة لم يعثر على عقودها، ولكنها قائمة شاهدة على مرِّ التاريخ وعبر العصور. ومن هذه الأوقاف؛ المساجد القديمة، والمقابر، آبار المياه، والمزارع وغيرها، فتلك الأوقاف أصبحت جزءا من تاريخ البلاد، وشاهدة على أن فعل الخير صفة من صفات أبناء هذه الأمة.

كاتبة وباحثة اجتماعية بحرينية

متخصصة في التطوع والوقف الخيري

[email protected]

تويتر: @Najwa.janahi