أما زلتِ تذهبين للخابورة أم أن المدينة سرقتكِ كما سرقت غيرك؟! هذا السؤال باختلاف الصيغ يطرحه علي كل من يعرفني ولم ألتق به منذ مدة، وإجابتي الثابتة (وكيف لي أن أعيش ورئتي لا تتنفس هواءها وعيناي لا تتكحل برؤيتها وقدماي لا تطأ ترابها)، مسقط بالنسبة لي نقطة انتقال وعبور لا أشعر فيها بالاستقرار التام بل هي مكان فرضته علي ظروف الدراسة والعمل ولكن قريتي الهجاري بولاية الخابورة هي الاستقرار، وكيف لا وهي القرية التي رسمت ملامح الدنيا فيها وعرفت طبيعة البشر من ساكنيها، قد لا يعرف الكثيرون عن هذه القرية التي تقع في نهاية ولاية الخابورة قبل ولاية صحم وتبعد خمسة كيلومترات عن الشارع العام هي مدخل لعدة قرى أخرى مثل قرية دقال وقرية السهيلة كما يمكن الوصول عن طريقها إلى عبري ووادي الحواسنة ووادي بني عمر، هي قرية عمانية بحتة ليست بجبلية ولا ساحلية لذلك كنا نشارك الطرفين تفاصيل الحياة من الساحل استفدنا الانفتاح على التجارة فكانت القرى الساحلية مكاناً للتسوق وأما من أهل الجبل فأخذنا الزراعة وتربية الحيوانات، لهجة أهلها أقرب إلى لهجة أهل الجبل والبعض يقول إنها أقرب للهجة أهل ولاية عبري.
هذه القرية شكلت ملامح طفولتي وشخصيتي كغيري من سكنها ويسكنها، أبناء جيلي سيسعدون أكثر بهذا المقال الذي سيشاطرهم ذكرياتهم الجميلة مع المطوع سيف الخروصي طيب الله ثراه الذي أتى من ولاية العوابي ليسكن هو وعائلته بالقرب من منزل والدي ويكون إماماً للمسجد ومعلماً للقرآن، التحقت مع أبناء جيلي لحصة القرآن التي كانت تعقد بعد صلاة الفجر وكان يجبرنا رحمه الله على تغطية الرأس فكنت أضع منديلاً يكفي لتغطية الجزء الأعلى من الرأس فقط، فكان رحمة الله يرمقني بنظرات تكفي لفهم ما يقصد دون أن يتكلم، لم أستمر كثيراً في حضور حصص القرآن بعد أن عرضت المعلمات المصريات على أختي الكبرى رحمة الله عليها والتي كنت أناديها (حبوه) بسبب فارق السن الذي يتجاوز الأربعين سنة وكذلك الفارق بينها وبين أمي التي كانت تصغر (الحبوة) سنوات كثيرة، حيث عرضت المعلمات عليها أن ألتحق بالصف التمهيدي غير الرسمي في مدرسة الصديقة بنت الصديق في قريتي والمبنية من العرشان آنذاك ولكني لم أنتظم أيضاً فكان علي ومن معي أن نختبئ ما إن يأتي موظف وزارة التربية والتعليم، وفي الأيام التي ترسل وزارة الصحة موظفيها لتطعيم الطلبة كنت أرفض الحضور خوفاً من الإبرة .
الهجاري من القرى القليلة التي حظيت في وقت مبكر ببناء مدرسة تخدم أبناء القرية والقرى المجاورة كان الفترة الصباحية للذكور والفترة المسائية للإناث حتى وقت قريب.
كان الفلج الذي تزين أطرافه أشجار النخيل مكاناً للترفيه وبالأخص عند الخروج من المدرسة كونه قريبا منها فكنا نقضي ساعات للمشي فيه قبل أن يحل الظلام، وجود السمك الصغير (الصد) فيه يجعلنا نعيش أجواء القرى البحرية، نملأ أحياناً أكياس البلاستيك بالماء مع سمكة صغيرة لنهديها أحدهم، وكان بعض النساء يستغلنه لتنظيف الأواني والملابس دون أن يلوثنه بالمواد المنظفة ، ليف النخيل والتراب وبعض الأحجار هي المواد المنظفة في ذلك الوقت، وبالقرب من المزارع كانت توجد غرفة صغيرة بنيت فوق الفلج تسمى (المجازة) يستخدمها الذكور للاستحمام والوضوء للصلاة، الفلج ما زال يزين الهجاري بمائه العذب لكن اختفت النساء واختفى الأطفال الذين يقضون ساعات للعب فيه واختفت المجازة التي كانت تستخدم بكثرة في فصل الصيف، ذلك الفصل الذي كنا نقضي خلاله ساعات من الاختباء في المزارع القريبة أو كما تسمى (الضاحية) المليئة بأشجار المانجو و(البيذام) والفرصاد كنا نسترق الفرصة وقت الظهيرة عندما يكون الكبار في قيلولة بعد وجبة الغداء لقطف المانجو الأخضر (الحدال) وقد تفضحنا الجروح التي تظهر على جسد من تسلق الشجر ليهزها ويقع الثمار ولكن لا أحد يهتم لقطف المانجو الآن وقد يذهب للتصوير بهاتفه لينشر في الأنستجرام فقط ويكتب (حدال تايم). أما وقت العصر وما إن تنتهي فترة الأطفال في تلفزيون عمان كان الموعد مع دكان السالمي أو دكان سليم أو دكان البعير، كل هذه الدكاكين اختفت ما عدا دكان البعير الذي اشتراه تاجر آخر وما زال موجودا.
هذه البساطة والعفوية والبراءة التي كان يعيشها الناس خلقت جيلا غير قادر عن الابتعاد عن هذه القرية التي ما زال أهلها يعيشون كعائلة واحدة وإن كانت الحداثة أبعدت البعض، لكن تظل الهجاري تلك القرية الجميلة الوادعة المحتفظة بأرواح من سكونها.
الذكريات كثيرة، والمساحة هنا لا تكفي لسردها بتفاصيلها ولعل أن هناك مساحة أكبر للحديث عنها وعن ولاية الخابورة.
ابتعدنا عنها مجبورين لظروف الحياة ولكنها تبقى الأم وإليها العودة حين يحين الآجل لنستقر بين ترابها وبالقرب من سبقونا الرحيل.

خولة بنت سلطان الحوسنية