د. يوسف بن علي الملَّا:
يخاطبني ذلك الزوج بحزن شديد، ومرارة الفقد طاغية على حديثه، وهو يجهش بالبكاء مرارا وتكرارا. لقد توفيت زوجته قبل أشهر، مستطردا وهو في حداده المتواصل: لقد كانت أسوأ ثلاثة أشهر في حياتي، وما زال اكتئابي مستمرا، فإلى متى سيستمر هذا؟ ما زلت أتوقع منها أن تخرج من غرفتها يوميا.
حقيقة قد تتخيل معي أنه بعد نصف قرن تقريبًا من الزواج، تم نسج حياته معها بشكل معقد، وقبل أشهر لم يفقد فقط الشخص الذي يحبه، ولكن كل ما حدث مع زواجه، كالشعور بأنه معروف ومقبول بعمق، والنكات الخاصة، والذكريات المشتركة التي أصبحت الآن ـ للأسف ـ ملكه وحده ليحملها.
وبشكل مؤسف، فإن أولئك الذين يستمرون في العيش بعد فقد الزوج أو الزوجة، وفكرة أنهم يجب أن يصلوا إلى (القبول بالواقع) قد تجعلهم يشعرون بسوء ويخاطبون أنفسهم (يجب أن أتجاوز هذا الآن)؛ (لا أعرف لماذا ما زلت أبكي في أوقات عشوائية، كل هذه السنوات وقد عدَّت)؟ كيف يمكن أن تكون هنالك نقطة نهاية لعلاقتنا بعد كل هذه السنوات الطويلة؟ بل ويقول بعض الناس ومن عاش هذا الفقد المرير إنه يريد إنهاء ألمه، وكما قيل حين ذكر الألم: أنا في لوعة وحزن شديد، ليس عندي للوعة من مزيد... بل ويطلب قائلا: ساعدوني على أن لا أشعر بهذا الحزن الذي يعصر قلبي، وهذا الاكتئاب المستمر. ولعلِّي هنا أذكِّره أنه لا يمكنك كتم المشاعر دون تجاهل مشاعر أخرى، فحين تريد كتم الألم، ستكتم الفرح أيضا!
وهنا بكل تأكيد نذكره أن في هكذا موضع يأتي الصبر، والاحتساب والرضا بقضاء الله، بل وتجديده بالذكر والدعاء وهي من أعظم الأمور المعينة عند فقد الأحبة. ومع ذلك، أحيانًا في ألمنا، نحن مقتنعون بأن عذاب أو حزن الفقد سيستمر إلى الأبد. ومهما يكن حتى مع الخسارة الفادحة ـ مثل خسارة ذلك الزوج ـ لدينا جميعًا نوع من نظام المناعة النفسي ـ إن صح لي التعبير. فمثلما يساعد نظام المناعة الفسيولوجي أجسامنا على التعافي من الهجوم الجسدي، فإن أدمغتنا تساعدنا على تحمُّل أي هجوم نفسي. لا سيَّما وأن عددا من الدراسات وجد أنه في الاستجابة لأحداث الحياة الصعبة، من المدمِّرة منها كفقدان أحد الأحباء، إلى الصعب أيضا كالطلاق والمرض على سبيل المثال، يبلي الناس بشكل أفضل مما كانوا يتوقعون. ألست معي أنهم يعتقدون أنهم لن يضحكوا مرة أخرى، لكنهم يفعلون ذلك. ويعتقدون أنهم لن يحبوا مرة أخرى أبدًا، لكنهم يحبون، بل ويذهبون للشراء ويرقصون في حفلات الزفاف مرة أخرى، وترجع حياتهم اليومية بعد فترة ما من الزمن!
بالطبع في أي ذكرى لذلكم الشخص مع من فقد سيكون هناك دائمًا ألم، وقد يغرقه وجود ذكرى عابرة في اليأس المؤقت وهذه حقيقة لأننا بشر. ولكن الأهم أن ما سيساعد ذلك الزوج أو من فقد عزيزا في هذه الأثناء هو القيام بشيء ما بشأن وحدته. فالاتصال والتواصل ـ على سبيل المثال ـ هي طريقة أكثر فعالية لملء هكذا فراغ. ومما لا شك فيه ـ فهذا الزوج ـ ترك غياب زوجته فراغا كبيرا له، وبالتالي أي شيء يمكنه القيام به لخلق لحظات من التواصل، سواء من خلال زيارة أحد الجيران، أو مشاركة وجبة مع صديق أو أبنائه، وكذلك التواصل مع أخصائي نفسي، وربما هكذا التركيز على القيام بأشياء تشعره بالرضا الشخصي أو ذات مغزى، سيبدأ بكل تأكيد وبشكل تدريجي في سدِّ هذه الفجوة.
ختامًا، الحزن وذكرى الفقيدة أو الفقيد سيكون حاضرا، ولعلَّ الانخراط شيئًا فشيئًا والتبديل بشكل ما بين ماضيه ومستقبله سيساعد ذلك الزوج على الاستمرار بالحياة. لن يتوقف أبدًا عن افتقاد زوجته، ولكن ندرك جميعا، ويعي هذا الزوج في مكان ما بداخله، ويعلم أن التواصل مع الأحياء سيساعده، ولهذا السبب تحدَّث عن حزنه... ولعلَّه يكون قد اتخذ خطوته الأولى للأمام وليخفف من حزنه الطويل دون أن يدرك ذلك.

طبيب ـ مبتكر وكاتب طبي