[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/suodalharthy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]سعود بن علي الحارثي[/author]

"أفضل الجهاد كلمة حق أمام سلطان جائر" حديث شريف
تعد الكلمة إحدى أهم وأفصح أدوات التعبير التي يستخدمها البشر ويعلنون بها عن طرح وشرح أفكارهم وملاحظاتهم، والتعبير عما يعتلج في نفوسهم من مشاعر وأحاسيس. ترصد الكلمة وتوثق وتستوعب كل أشكال وصور الإبداع من فنون وآداب ونصوص تنتمي إلى مجالات وتخصصات كثيرة، عبر الانتقال بها إلى حالة الإعلان والإفصاح والشرح والتفسير للأهداف والغايات والرسائل والمقاصد التي تتدفق في مسارات وسواقي الشعر والرواية والمقال والمثال والبحث والدراسة والقصة والحكاية ... بالكلمة يتعارف البشر ويتواصلون فيما بينهم وتتلاقى الثقافات وتدار الحوارات والمناقشات، فهي همزة الوصل بين المخاطب والمخاطب. والكلمة الحق أنزلها رب العزة إلى الناس هداية ورحمة لهم، تخرج الكلمة مصاغة أو منتقاة بلسان الأديب المفوه فيختلف أسلوبها ووقعها وأثرها عن تلك التي ينطق بها لسان السياسي المحنك، وهي كذلك تختلف عن الأخرى التي يلفظها الرجل العادي حتى وإن أدت جميعها إلى ذات المعنى، فالكلمة تعبر في حقيقة الأمر عن لسان صاحبها الناطق بها المعبر من خلالها عما يريد إيصاله من رسائل ودلالات ومعانٍ، تعبر عن ذائقته وطبيعته وتنبئ عن تخصصه ومذهبه السياسي أو الأدبي، وتخبر عن مستواه العلمي والثقافي ودرجة وعيه ومكانته في مجتمعه. ومن أجل ضبط الكلمة وحرصا على سلامة النطق وسلامة المعنى، وتلافيا لسوء الفهم الذي قد يحدث بسبب التعبير الخاطئ والتفسير غير السليم للكلمة نشأ علم خاص بقواعد اللغة وعلومها، فالكلمة الطيبة بلسم يشفي القلوب الجريحة والنفوس المريضة، والكلمة الطيبة تؤلف بين القلوب المتنافرة وتصلح أحوال الناس، والكلمة الطيبة وصفها رب العزة في كتابه بالشجرة الطيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، وذلك لقوة تأثيرها ومفعولها الطيب الذي يبقى راسخا في النفوس يحقق غاياته في الإصلاح والخير والمعرفة والهداية والنصح، والتعافي من حالة التشاؤم في ضيقه وكآبته إلى فضاء التفاؤل الواسع، فـ"الكلمة الطيبة ليست سهما، لكنها تخرق القلب"، وهي كما عبر عنها الكاتب أحمد صبري "فن، فارسمها بإتقان.. كي يكتمل اللحن"... يستثار الإنسان فيقول ما لا يود أن ينطق به من الكلمات، ويفقد صبره فيطلق بضع عبارات لا تليق بمقامه ومكانته، خصوصا إن كان من أصحاب المقامات علما وثقافة ومسؤولية اجتماعية أو وظيفية فيعتبره من يأتي بعده مرتبة ودرجة قدوة له، فينقاد حينا لهواه وطبيعته وعواطفه فيطرح من الحديث والملاحظات المتسرعة ما يندم عليه في حينها، ولكن بعد أن يكون السيف قد سبق العذل، وفي تلك الاستثارة وفقدان الصبر والانقياد السلبي ما يشكل ضعفا حقيقيا للإنسان ينبغي أن يسعى كل من ابتلي به إلى التعافي والتخلص منه، جريان الكلمة وسرعة خروجها من السر إلى العلن دون تحسب وتدبر قد تكلف الإنسان الغالي والنفيس، حياته أو مكانته أو وظيفته أو دخله أو حتى إنسانيته، احترام الناس وثقتهم فيه كإنسان، وقد تجرجره إلى مكان ووضع وحالة لا يرغبها ولا يريدها ولم يكن ليتوقعها، نعم إن الكلمة تجر الإنسان إلى ما لا يحب وما لا يرضى إن سمح لها بذلك، وإن لم يتمكن من لجمها والتفكير في محتواها وأثرها قبل أن تنطلق من مكمنها. ومما قيل في ذلك: "الكلمة كالسهم حين تنطلق لا تعود". و"الكلمة القاسية مثل الرصاصة، لا يمكن استردادها إذا ما أطلقتها". و"رب كلمة جرى بها اللسان هلك بها الإنسان". قد تؤدي كلمة غير محسوبة وغير مدروسة وفي غير موقعها الصحيح إلى إشعال حرب أو قطع علاقة بين بلدين، والكلمة سلاح ذو حدين قد تمهد لخير وإصلاح وقد تحمل آثارها الشر والخراب، ترتبط الكلمة بالإنسان وتعكس ما عليه هذا الإنسان من علم وما يملكه من معارف، ومدى قدرته في التعبير عن أفكاره، وتعبر عن ارتباطاته وميوله واعتناقاته ورؤيته السياسية والفكرية والمذهبية. وتبقى الكلمة التي يطلقها الإنسان أداة تقييم أساسية ومهمة للمكانة التي يتبوأها في مختلف المجالات المرتبطة به في حياته وفكره وسلوكه ووعيه ونظرته إلى الأمور، والكلمة غير المحسوبة وغير المدروسة والتي تلحق الضرر بالآخرين وبصاحبها قد تدخل الإنسان إلى التهلكة وإلى تلقي العقوبة، الكلمة أمانة وقيمة ومسؤولية. علينا أن نضع تلك المعاني أمام أبصارنا قبل أن تنطلق الكلمة كالسهم من أفواهنا فلا نتمكن من التقاطها وإعادتها بعد ذلك، فمن بين "جميع الأسلحة المدمرة التي تمكن الإنسان من ابتكارها تبقى الكلمة أكثرها فظاعة وجبنا"، كما قال باولو كويلو. فيما أعلن مصطفى محمود بأن "الكلمة شيء كالسحر كالطلسم.. وهي إذا انفصمت عن الفعل أصبحت عبثا وإذا تناقضت مع الفعل أصبحت نفاقا". يحلق الإنسان في فضاء الحرية الواسع مبتهجا جذلا بكلمة، ويقبع في أضيق السجون بكلمة، يسعد بكلمة، ويحزن لكلمة، الكلمة تهدم جدرانا، وأخرى تعلي أسوارا، كلمة تمد جسورا وأخرى تسقط أبراجا وحصونا، كلمة تعمر مدنا وكلمة تقوض حضارات وبلدانا، وما بين الكلمتين فارق شاسع، كالفارق بين الليل والنهار، الأبيض والأسود، الذكر والأنثى، واختيار الأنسب والأسلم والأنفع والأجدى والأصوب والأصلح يخضع لمسؤولية ووعي وخبرة ونباهة وحكمة وتقدير للأمور، الكلمة بوح وشذى، قلم ولسان، والإنسان خرج من رحم الكلمة بـ"كن". وأخيرا فـ"إن أول كلمة نزلت في قرآننا: هي اقرأ".