تمثل التجمعات الاقتصادية الكبرى حدثًا في شكله من حيث إنها تضم أقوى وأكبر اقتصادات العالم من جهة، وأثرى رجال المال والأعمال في العالم من جهة أخرى، لكنها في المضمون والجوهر لا تستقيم مع قيمة الحدث والتجمع بزخمه الكبير الإعلامي، حيث أنظار جميع دول العالم والمهتمين تتجه إليها.
وفي هذا الشأن، يعد منتدى دافوس الذي تستضيفه سويسرا واحدًا من التجمعات الاقتصادية والسياسية العالمية المهمة بالنظر إلى الدول والنخب السياسية والاقتصادية ورجالات المال والأعمال التي تحرص على المشاركة في المنتدى، حيث تبرز التطلعات وتتفاوت التوجهات. فعلى غير العادة تشير التوقعات إلى أن هذا التجمع الاقتصادي الذي تحتضنه جبال الألب السويسرية سيشهد جدلًا صاخبًا، وهو ما بدا لافتًا من خلال جملة مؤشرات كانت بارزة، سواء من حيث الكلمات التي ألقيت في افتتاح المنتدى يوم أمس، أو من حيث الرسائل الموجهة إلى الملتئمين في دافوس من قبل رجالات الدين والمنظمات الحقوقية والإغاثية، أو من حيث قادة الدول التي تتجه إلى ممارسة الاحتكار الاستثماري والاقتصادي، بما يشبه الأنانية المفرطة.
فقد كان مثيرًا للانتباه والاهتمام ما بدا أنه نعي للعولمة، بصورة لافتة وواضحة فيما طرحه رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي في معرض دفاعه عن العولمة بأنها "تفقد بريقها"، محذرًا من أن إقامة جدران تجارية جديدة ليس حلًّا، مؤكدًا أن بلاده ستمثل "قدوة" بفتح أبوابها أمام الاستثمارات الخارجية، وأن "الانعزالية لا يمكن أن تكون الحل لهذا الوضع المثير للقلق". وفي تأكيد لمخاوفه في هذا الصدد، أعلنت الولايات المتحدة أمس الأول عن فرض ضرائب جديدة على الألواح الشمسية المستوردة من الصين، وعلى الغسالات الكبيرة المصنعة في عدة دول آسيوية، الأمر الذي علق عليه رئيس الوزراء الهندي بالقول "يبدو وكأن مسارًا عكسيًّا للعولمة يحدث. إن التأثير السلبي لهذا النمط من العقلية والأولويات الخاطئة يجب ألا تعد أقل خطورة من التغير المناخي أو الإرهاب".
ومن هنا يبدو أن أفق التفاؤل ـ كما جرت العادة ـ من مسار هذا التجمع الاقتصادي العالمي ونتائجه لن يتجاوز أفق تفاؤل نخبة السياسة والأعمال التي تعد المستفيدة الكبرى من الانتعاش الاقتصادي الذي ظل قسم كبير من العالم بمنأى منه. ولعل ما يؤكد هذه الحقيقة هو الاتجاهان المتضادان الحاضران بشكل قوي وبارز ومؤثر في المنتدى، الاتجاه الأول يمثله الرئيس الأميركي دونالد ترامب ـ والذي ينتظر وصوله إلى دافوس ـ وشعاره "أميركا أولًا" حيث سيلقي كلمة متضمنة سياساته الاقتصادية بما يخدم هذا الشعار. أما الاتجاه الثاني فيمثله الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وشعاره "اختاروا فرنسا"، حيث أطلق ماكرون أمس الأول حملة لجذب الاستثمارات عندما استقبل 140 من قادة قطاع الأعمال متعددي الجنسيات في قصر فرساي في مؤتمر شعاره "اختاروا فرنسا"، وذلك قبيل وصوله اليوم إلى دافوس للمشاركة في المنتدى العالمي الذي يجمع الأثرياء والأقوياء، ويعزز هذا الاتجاه الموقف الذي أعلنه رئيس الوزراء الهندي في كلمته أمام المنتدى والذي أشرنا إليه أعلاه.
وربما يعكس نتائج منتدى دافوس ما قالته مديرة صندوق النقد الدولي كريستين لاجارد لدى تقديمها توقعات متفائلة للنمو العالمي "بالتأكيد يجب أن نتشجع لكن لا يتعين أن نشعر بالرضا". وأضافت "قبل كل شيء لا يزال الانتعاش والنمو المتسارع يستثني كثيرين".
وما يضعف البيانات المتفائلة حول الاقتصاد العالمي تحذيرات للتجمعات النخبوية مثل دافوس، بأن عليها البحث عن حقوق لجميع الأشخاص على اختلاف مداخيلهم، فيما يقوم "واحد بالمئة" بجمع ثروات لا تحصى بعد عقد على أزمة مالية كبيرة. وكذلك فيما قالته ويني بيانييما المديرة التنفيذية للمنظمة الخيرية البريطانية "اوكسفام" عن اقتصاد عالمي تجمع فيه قلة من الأثرياء ثروات لا تحصى، فيما مئات ملايين الأشخاص "يكافحون للعيش على خط الفقر". وإن "فورة أصحاب المليارات ليست مؤشرًا على اقتصاد مزدهر بل مؤشر على فشل النظام الاقتصادي". وفي رسالة وجهها للمنتدى حذر البابا فرنسيس من أن "النقاشات حول التقدم التكنولوجي والنمو الاقتصادي يجب أن لا تحل مكان القلق بشأن البشرية ككل". مؤكدًا "لا يمكن أن نبقى ساكتين أمام معاناة الملايين الذين تُمتهن كرامتهم".
إذًا، من الواضح أن العالم سيبقى يبحث عن عدالة باتت ضحية لطغيان الأنانية وسطوة الأثرياء والأقوياءالمحتكِرة، فيما يضيع بشر في هذا الكوكب، ويصبحون بدورهم ضحية العدالة المفقودة. ويتجه العالم بذلك إلى الانغلاق ونحو مزيد من الأزمات، وهو ما يتنافى مع الموضوع الأساسي على جدول أعمال المنتدى "بناء مستقبل مشترك في عالم متجزئ".