[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/khamis.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]خميس التوبي[/author]
في الوقت الذي يفيد فيه المتابعون لحالة الحمل لقانون حماية المستهلك بأن هذا الجنين مصاب بتشوهات خلقية واحتمال ولادته معوقًا أو حصول إجهاض له، يطالعنا الإعلام بقرار يستبق أحد الاحتمالين بتعديل قرار حظر رفع أسعار السلع والخدمات، وفي الوقت الذي يطالعنا فيه الإعلام أيضًا بأن قطعة غيار سيارة تتكلف في مصنعها أربعة ريالات عمانية وتباع للمستهلك في بلادنا بسبعين ريالًا عمانيًّا، لا يزال مصير قانون منع الاحتكار غامضًا.
لا أخفي أنني إزاء ذلك ينتابني شعور بالخجل كواحد من أشد المعجبين بالمسار الصحيح والسليم الذي وضعت عليه عجلات قطار التطوير والتحسين بعد الأحداث التي شهدتها البلاد في العام 2011م، وسرعة القطار المنطلقة بسرعة الاستجابة اللافتة للمطالب الشعبية والحكمة المبهرة في التعامل مع الأحداث التي عبرت بحق عن عمق العلاقة بين قائد مسيرة النهضة المباركة حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ وبين أبنائه الشباب، حيث كان إنشاء الهيئة العامة لحماية المستهلك من بين مطالب الشعب والتي تقبلها عاهل البلاد المفدى ـ أيده الله ـ بقبول حسن بموجب المرسوم السلطاني السامي رقم (26/2011).
وفي خضم المتغيرات السياسية والاقتصادية التي تعصف بالمنطقة وسيطرة الفوضى والإرهاب على مفاصل دول عربية جراء التدخلات الخارجية في شؤونها الداخلية عبر اللعب بعواطف الناس والعزف على وتر إعانتهم حتى تحقيق تطلعاتهم ومتطلباتهم حتى آلت إليه الأوضاع على النحو المشاهد من عدم الاستقرار، كان لافتًا القرار بتعديل قرار رئيس الهيئة العامة لحماية المستهلك رقم (12/2011) بشأن حظر رفع أسعار السلع والخدمات والذي ينذر بجنون الأسعار وتوسع ظاهرة الغلاء.
وبقراءة موضوعية للقرار ـ وبعيدًا عن العواطف والإثارة لكون الوضع لا يحتمل ذلك ـ وما يدور في فلك القرار يمكن الخروج بعدد من الدلالات والاستنتاجات:
أولًا: إن القرار جاء ضربة استباقية لقانون حماية المستهلك العتيد والمنتظر إقراره، ليفتح المجال واسعًا أمام سعار الاحكتار والطمع والجشع والمغالاة، وإعطاء (القطط السمان) الفرصة الكافية لزيادة سمنتها ونصب شراكها وشباكها باحتكارها وجشعها وطمعها لاصطياد المستهلكين بمختلف نوعياتهم (مرتفع الدخل، متوسط الدخل، محدود الدخل، ضمان اجتماعي)، بحيث تكون هذه القطط السمان قد تهيأت واستعدت لولادة القانون برفع سعر السلعة غير الواردة في قرار التعديل المذكور إلى السقف الذي تريده، وحين يطبق قانون حماية المستهلك عليها تقف عند السقف الذي وضعته من قبل، مع وجود فرصة رفع السقف في إطار لعبة العرض والطلب.
ثانيًا: إن القرار أتى على ما يملأ البطن من أرز وطحين وحليب وشاي وسكر وبُن ودنجو وفاصوليا وباقل، وهذا في دلالته ـ التي قد تكون غير مقصودة وربما غابت عن فكر الواقف وراء القرار يُنزِل المواطن المستهلك إلى منزلة الحيوان الذي لا همَّ له سوى ملء البطن والنوم ـ في حين استثنى السلع الأخرى مثل الحديد والإسمنت والطابوق والرمل والسيراميك والبلاط والمواد الكهربائية والملابس وغيرها مما لا يملأ البطن. وخطورة ذلك تكمن في أن طن الحديد إذا كان في السوق حاليًّا بمئتين أو ثلاثمئة ريال عماني أو أقل قليلًا، فإن من الممكن أن تصبح قيمته ألف ريال عماني، وقِسْ على ذلك بقية السلع الأخرى، وفق قرار التعديل الذي أطلق كماشات تخنق وتزنق المواطن.
ثالثًا: إن قرار حظر رفع أسعار السلع والخدمات صدر في الرابع عشر من أغسطس 2011م، بينما قرار التعديل صدر في الرابع من مارس 2014م؛ أي أن المدة الزمنية بين القرارين تقريبًا ثلاث سنوات. ويبدو أن في الفكر شيئًا ما يدور من قبيل أن هذه المدة كافية للنسيان ولامتصاص الغضب وتهدئة الأوضاع، والعودة التدريجبة إلى أوضاع ما قبل عام 2011م.
رابعًا: إن قرار التعديل يعني تحجيم عمل الهيئة العامة للمستهلك وحصر نشاطها وسلطتها في الدنجو والفاصوليا كمقدمة لتهميشها وصولًا إلى إلغائها كما ألغيت هيئات عامة من قبل.
خامسًا: إن خطورة تحجيم عمل الهيئة العامة للمستهلك أو إلغائها يعني تفشي ظاهرة المغالاة واستغلال حاجات الناس، وعودة الحلويات الفاسدة والمنتهية والسلع المغشوشة، والعودة النشطة لبعض الأيدي العاملة الوافدة إلى استخدام اللحوم الفاسدة والميتة في المطاعم والمقاهي والمحلات، واستخدام الخضراوات الفاسدة والتلاعب في صناديق الفاكهة (مع أن الهيئة ليس في وسعها اكتشاف كل الحالات)، وعودة الغش في قطع الغيار، وعودة عمليات الابتزاز والتحايل والغش في مجال السيارات وغيرها لبعض الشركات والمؤسسات تجاه المواطن المستهلك. ومؤدى هذا نتائج كارثية على المواطنين والدولة اقتصادية وصحية واجتماعية؛ إذ التحجج والتعذر بقانون حماية المستهلك غير مقبول؛ بل لا بد أن تكون الهيئة وأكثر من جهة تعمل جنبًا إلى جنب مع القانون.
إن الاحتكار لا يقيم دولة ولا يبني أمة، والتشجيع عليه لا يخلق أوضاعًا اقتصادية ولا مناخات استثمارية حقيقية مبنية على الحرية والتنافسية، وهو يتعارض مع سياسة اقتصاد السوق القائمة على مبدأ التنافسية، وإن تداعيات الاحتكار والتشجيع عليه لا يمكن تغطيتها بمساحيق بلقاء هنا أو اجتماع هناك، والذاكرة لا تزال متقدة بمثل هذا النوع من المساحيق قبل العام 2011م والتي لم تغير من الواقع شيئًا، وبالتالي في مقابل ذلك لا بد من الصدق مع النفس وإجراء مراجعة شاملة وموضوعية للمناخ الاقتصادي العام في البلاد يأخذ في الاعتبار احترام الطرفين (التاجر والمستهلك) لبعضهما بعضًا من زاوية أن لا أحد منهما يستغني عن الآخر في معادلة البقاء.
ووسط هذه التجاذبات، فإن إيماننا كبير وثقتنا كبيرة في أن من قاد نهضة جبارة من أجل عُمان وإنسانها، وحطَّم الصعاب والمعوقات بإخلاصه وحبه وانتمائه وروحه الوثابة وفكره الخلاق، لن تغمض له عين حتى يقيل العثار ويزيح ما علق في النفس من أدران الطمع والجشع والاحتكار، ويداوي عذابات الموجوعين، إنها حكمة القيادة والسياسة، واستثنائية القائد في زمن لم يَجُدْ بأمثاله.