[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/uploads/2016/05/salahdep.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]د. صلاح الديب[/author]
” إن الوئام والانسجام له حقيقة وواقع يعاش على كافة ربوع السلطنة يراها الجميع بصورة واضحة كوضوح الشمس البازغة فى كبد السماء وتضربُ عمان مثلاً ساميًا في الانسجامِ والتناغم والتآلف الاجتماعي إذ إن المجتمع على الرغم من تشكُّلهِ من قبائلَ ومذاهبَ إلا أنَّ التجانس صفته الظاهرة والباطنة وهذا ما قوَّى عُرى اللحمة الوطنية ووثق وشائج القربى بين سائر أطياف المجتمع .”

استكمالا للمقالات السابقة والتي بدأنا الحديث فيها عن أسرار الشخصية العمانية والتي نري أنها تستحق إلقاء الضوء عليها لما تتصف به من عادات وقيم نبيلة مازالت تحتفظ بها بل وتعتز بأن تظل باقية وتتوارثها الأجيال جيلا بعد جيل .
استهل مقالتى هذه بتوضيح أنه في المقال السابق الحديث الذي تم ذكره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي ذكر فيه أهل عمان هو، كما يرويه الصحابي الجليل أبو برزة رضي الله عنه فيقول: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا إِلَى حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ ، فَسَبُّوهُ وَضَرَبُوهُ ، فَجَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَه. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَوْ أَنَّ أَهْلَ عُمَانَ أَتَيْتَ مَا سَبُّوكَ وَلَا ضَرَبُوكَ" ( رواه مسلم).
جعلت العقلانية والتبصُّر الذي يتسم بهما الشعب العماني على مر التاريخ ان يتأنى في حكمه للأشياء قبل قبولها أو رفضها ويشهد التاريخ أن العمانيين لبُّوا نداءَ الإسلامِ طواعية بعد تفكيرٍ وتمعُّنٍ في الرسالة المحمدية التي أرسلها على يد الصحابي عمرو بن العاص رضي الله عنه ذلك لأنَّهم رأوا الحقَّ باهرًا فلم يماطلوا في قبوله ورأوا النور مشرقًا فلم يجادلوا في تصديقه بل تركوه يبسطُ خيوطه على هذه الأرض الكريمة ليتخلَّل قلوب ساكنيها قبل مدنها وصحاريها وقُراها وبياديها حتى ظفروا بالشهادة المحمديَّة الشريفة: «لو أنَّ أهل عمان أتيت ما سبُّوكَ وما شتموك» حديثٌ شريف كما تم الإشارة إلى هذا الحديث سابقا .
فقيمة العقلانية والرزانة التي يتحلَّى بها العماني جعلته يتبصرُ في الأمور وفي عواقبِ الأفعال والسياسات وهذا جليٌّ في السياسة العمانية التي لا غموض فيها بل أن لها خطوطًا معروفة منذ أن قامت الدولة العمانية الحديثة في 1970م حيث جنَّبت عمان نفسها الدخول في الصراعات الإقليمية والدولية واتخذت النأي بنفسها عن النزاعات منهجًا آمنت به وطبَّقته فعليًّا في انضمامها لدول عدم الانحياز وتعتبر حركة عدم الانحياز، نتيجة مباشرة للحرب الباردة التي تصاعدت بين المعسكر الغربي (الولايات المتحدة الأميركية وحلف الناتو) وبين المعسكر الشرقي (الاتحاد السوفيتي وحلف وارسو) حال نهاية الحرب العالمية الثانية وتدمير دول المحور، وكان هدف الحركة هو الابتعاد عن سياسات المحاور والحرب الباردة. فكانت هذه السياسة التى أنتهجتها سلطنة عمان موضع التقدير والثناءِ من الدولِ المحبَّةِ للسلام .
وتعد مساعدة الآخرين من السمات المشرقة التى يتميز بها الشعب العماني على مر العصور ولا يفزع الإنسانُ العماني لإغاثة غيره الذي يستنجدُ به من أجلِ حفنةٍ مالٍ أو استغلال ثروةٍ أو كسبِ خيرات أو استعمارِ شعوب إنما لأجل الإنسانيةِ وإحقاق العدلِ والحقِّ والسلامِ.
لهذا تُعلن شواهد التاريخ عن نجداتهِ التي تسطِّر بطولاتٍ وملاحم منها نجدةُ الإمام الصلت بن مالك لأهالي جزيرة سقطرى حين غزاها الأحباش عام 851 م فبغوا فيها وطغوا كذلك استنجد أهل البصرة في العراق بالإمام أحمد بن سعيد لتخليصها من الغزو الفارسي عام 1775 م فأرسل ابنه هلال على رأس أسطولٍ من ثمانين سفينة .
وها هي قيمة المبادرة إلى مساعدة الآخرين وإغاثة المحتاجين والوقوف إلى جانب المظلومين سمةً من السمات البارزة للإنسان العماني في العصر الراهن فكثيرًا ما نسمع عن الهبات التي تقدّم لشعوب تواجه أزمات طارئة أو طويلة المدى.
وعلى مستوى المجتمع فإن هذه السمة تبرزُ واضحةً في مناسبات مختلفة كمراسم الزواجِ ومآتم العزاء وغير ذلك من الطقوس الاجتماعية .
أن الوئام والانسجام له حقيقة وواقع يعاش على كافة ربوع السلطنة يراها الجميع بصورة واضحة كوضوح الشمس البازغة في كبد السماء وتضربُ عمان مثلاً ساميًا في الانسجامِ والتناغم والتآلف الاجتماعي إذ إن المجتمع على الرغم من تشكُّلهِ من قبائلَ ومذاهبَ إلا أنَّ التجانس صفته الظاهرة والباطنة وهذا ما قوَّى عُرى اللحمة الوطنية ووثق وشائج القربى بين سائر أطياف المجتمع .
وهذه القيمة العالية تدلُّ على ما يتمتع به الإنسان العماني من سماحةٍ وسعة أُفقٍ وبُعد نظرٍ وقدرةٍ على التعايش السلمي وتطلُّع إلى مصيرٍ مشتركٍ والتي يصعب أن نراها في الكثير من بلدان العالم .
لهذا أصبحت هذه السمة الوطنية من أُسس الدولة الوطنية ومن مبادئ نظامها الأساسي وهو في العرف الاجتماعي خطًّا أحمر لا يمكنُ المساسُ به أو تجاوزه .
يعد السمتُ والصرامة من الملامح التى تميز الشخصية العمانية على مر السنين وبين مختلف الأعمار فلقد كان للسبلةِ العمانية وهي مجلسٌ يجتمعُ فيه سكَّانُ القريةِ في الأريافِ أو الأحياءِ في المدن ـ دورٌ بارزٌ في تربيةِ النشء على العديدِ من القيم المُثلى وأهم قيمها السمتُ والصرامة ذلك لأن مجمل الموضوعات المطروحةِ للنقاشِ الشعبي جادَّةٌ تتعلَّق بمصائرِ الناس ومصادرِ معيشتهم لهذا لا يجوزُ الهزرُ أثناءِ تداولِ النقاشِ فيها .
هذه المكتسبات أورثت جديَّةً في التعاطي مع القضايا والحزم والصرامةِ في تبني كل رأي وقرار من شأنه إحداثُ نفعٍ، وتحقيق مصلحة .لذلك تجدُ ملامحَ السمتِ والصرامةِ جليَّةً واضحةً في قسمات العمانيين في مجالسهم العامَّة والتي يتضح فيها أن النظام التزم بالتقليد والمحافظة على الشكل والهيئة وأدق التفاصيل المتعارف عليها .
لقد ميَّزتهم هذه الصفة فيما يتعلَّق بتعاملاتهم مع الآخرين لهذا تعتبرُ «المراسم السلطانية» من أدق الوحدات تنظيمًا في المنطقة اقتداءً برجل المراسم الأول جلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم ـ حفظه الله ورعاه .
ومن كل ذلك تتضح بعض أسرار الشخصية العمانية والتي حرصنا على إلقاء الضوء عليها علنا جميعا نضع هذه العادات والقيم نصب أعيننا ولتمتاز شعوبنا العربية جميعها بهذه الصفات والمميزات التي جعلت لسلطنة عمان وللشعب العماني هوية خاصة يسهل على الجميع التعرف عليهم بوضوح بتمسكهم بعاداتهم وقيمهم وتقاليدهم التي أصبحت موروث يحرص الأجداد والآباء أن يتوارثه الأبناء والأحفاد .
وللحديث بقية أن كان في العمر بقية .