ينظر الكثير من المحللين السياسيين والعسكريين إلى أن التراجع الأميركي عن الهجوم الغاشم الذي كانت تنوي شنه الولايات المتحدة على سوريا على خلفية الهجوم الكيماوي الإرهابي الذي نفذه معسكر التآمر والإرهاب على الغوطة لتبرير مخطط استهداف سوريا عسكريًّا بصورة مباشرة، ينظر إليه على أنه جنب المنطقة والعالم كارثة جديدة من الكوارث التي لا تزال تمتهنها الولايات المتحدة في إطار فرض هيمنتها على العالم عبر قوتها العسكرية الغاشمة المدمرة.
هذه الكارثة ما كان لها أن تتوقف عند حدود قبول سوريا تسليم ترسانتها الكيماوية لمنظمة حظر الأسلحة الكيماوية لولا المسؤولية الأخلاقية المشتركة الروسية والسورية بأهمية تجنيب الشعب السوري والمنطقة بل والعالم أجمع نكبة يلحقها بهم الكاوبوي الأميركي مثلما ألحقها بمن قبلهم من الشعوب العربية كالشعب العراقي والشعب الليبي بصورة مباشرة، والشعب الفلسطيني بدعمه غير المحدود العسكري والمالي والسياسي لكيان الاحتلال الإسرائيلي، وغيرها من شعوب العالم التي لا تزال تعاني ويلات الكوارث التي ألحقتها بها الولايات المتحدة.
لقد أفرزت الأزمة السورية طوال السنوات الخمس والنصف إرادتين؛ إرادة الحرب والتدمير والتخريب والتفتيت بقيادة الولايات المتحدة التي تقود حاليًّا معسكرًا معبَّأً بالأحقاد والكراهيات والفتن الطائفية والمذهبية، ينطلق من أيديولوجيات مؤدلجة وراديكالية متطرفة متعطشة دومًا للدماء والنزعة نحو التطرف والتفجير والتدمير. وإرادة السلم واحترام القانون الدولي وسيادة الدول ورفض التدخل في شؤونها الداخلية، وتقود هذه الإرادة روسيا الاتحادية ومن معها من الدول التي تتمتع بالكياسة والحكمة السياسية. صحيح أن روسيا تنطلق من خلال رؤية تستهدف تحقيق مصالحها، وليس من خلال قرارات وإملاءات القوى الأخرى التي تسعى إلى محاصرتها وإضعاف موقفها سياسيًّا وإلحاق الضرر بأمنها القومي، إلا أنها تعد جزءًا مهمًّا من تسوية قضايا المجتمع الدولي، فتجنيب سوريا كارثة حقيقية ومدمرة بالمقارنة مع ما أحدثته آلة الحرب والدمار الأميركية الغاشمة من كوارث ومآسٍ إنسانية لا تزال فصولها المؤلمة مستمرة ويدفع فاتورتها أثمانًا باهظة الشعبان العراقي والليبي وقبلهما الشعبان الياباني والفيتنامي خير برهان على حقيقة دور روسيا الاتحادية التي تمارس دورًا فاعلًا في رفض المواجهة والتصدي للتحديات وانتشار الأسلحة النووية والنزاعات والأزمات الإقليمية والإرهاب وخطر المخدرات. وهنا تكمن حقيقة الإرادة الروسية القائمة على احترام المصالح والاستقرار والسلم والأمن الدوليين وعلو كعب السياسيين الروس على العكس تمامًا من مستوى التفكير السياسي الأميركي القائم على نهج القوة، لينطبق عليهم وصف ونستون تشرشل بأنهم "لا يفكرون بل يجربون حتى يفشلوا"؛ ولذلك من يتابع هذه الحقيقة يجدها متجردة تمامًا على مساحة المشهد الدولي والواقع المتجسد في كل من أفغانستان والعراق وليبيا وغيرها، حيث الفشل والانحطاط الأخلاقي والقيمي، وتسلط فكر الحرب والتدمير والتخريب والقتل ماثل في النكبات المركَّبة لشعوب الدول الثلاث التي طاولها هذا التجريب الخالي من أي منطق وعقلانية والسائر على طريقة رامبو.
إن ما يدعم هذا الانطباع وهذه الحقيقة النسخ المتوالية من التصعيد الأميركي للأزمة السورية والتي تشي بأن عقلية الكاوبوي ورامبو لا تزال هي المتحكمة في مستوى التفكير الأميركي، حيث تواصل واشنطن مستويات الدعم المقدم للتنظيمات الإرهابية بعد أن وجدت ذاتها ـ مع تهاوي "دومينو داعش والنصرة" وانعدام مساحة "الاعتدال" التي أصمت آذان العالم بها والترويج لها ـ في حلب خارج المساحات السياسية على الخريطة السورية والعالمية أيضًا. لذلك فالتذكير بين الحين والآخر الذي يوالي المسؤولون الروس سرده على رؤوس الأشهاد من خطر التدخلات العسكرية الأميركية ـ الغربية الغاشمة، وسياسة تأبط الإرهاب ودعمه هي من الخطر بمكان تهدد استقرار الشعوب وبقاء الدول والسلم والأمن الدوليين، فما قاله سيرجي لافروف وزير الخارجية الروسي يوم أمس كفيل بقراءته وإعمال التفكير فيه حول عقلية الغربيين حيث قال "يبدو أن شركاءنا الغربيين لم يدركوا حتى الآن كامل العواقب الناجمة عن عملياتهم العسكرية في الشرق الأوسط وإفريقيا خلال السنوات الأخيرة. إنهم كانوا يعتقدون أنه فور تدمير نظامي صدام حسين ومعمر القذافي، أن الديمقراطية ستتغلب في العراق وليبيا. وبدلًا من الديمقراطية، سادت الفوضى هذين البلدين، وتم نهب مخازن الأسلحة بما في ذلك أنظمة الدفاع الجوي ومئات الأطنان من الذخيرة، اختفت بلا أثر" موضحا أنه في ليبيا وحدها اختفى ما لا يقل عن 500 نظام محمول للدفاع الجوي من طرازي "ستريلا" و"إيجلا". فأين اختفت هذه المنظومات؟ دون شك إنها بأيدي التنظيمات الإرهابية التي أنتجها الغرب أو المحاربون والتي باتت تمثل خطرا محدقا بالطيران المدني وباستقرار دول.