ليس من السَّهل أنْ تهضمَ الرُّوح البَشَريَّة إعلان منظَّمة «اليونيسف» استشهاد (45) طفلًا فلسطينيًّا خلال أقلَّ من يومَيْنِ، في عدوانٍ متواصل وحرب إبادة جماعيَّة تُنفِّذها دَولة الاحتلال الصهيونيّ على قِطاع غزَّة المحاصَر! فهؤلاء الأطفال الَّذين استشهدوا لم يقتلوا في معركة، ولم يكونوا أهدافًا عسكريَّة، بل كانوا نائمين، يلعبون، أو يركضون بحثًا عن قليل من الحياة تحت سماء لا تعرف إلَّا أصوات الانفجارات، ورائحة القتل.
إنَّ هذه الأرواح البريئة، الَّتي سقطتْ عمدًا من دَولة قاتلة، لا يُمكِن التَّعامل معها كأرقامٍ، بل وجوه صغيرة، دفاتر مدرسيَّة مفتوحة، ملابس محروقة، وعيون ما زالتْ تتساءل عن معنى العالَم مِنْ حَوْلِها؟ ولعلَّ اعتراف منظَّمة أُمميَّة بهذا العدد المُخيف من الشُّهداء تأكيد على الجُرم الَّذي تكتفي الأُمم المُتَّحدة بتوثيقه، عَبْرَ شهادة مُوَثَّقة على جريمة مكتملة الأركان. لكنَّ المأساةَ لا تكمن في الإعلان، بل في ما بعده، لا حراك فعلي، لا محاسبة، لا قرارات دوليَّة مُلزِمة، ولا حتَّى خطوات لحمايةِ مَنْ تبقَّى على قَيْدِ الحياة.. وبهذا الصَّمْت، تتحوَّل الاعترافات الأُمميَّة إلى مشاركة في الجُرم، خصوصًا عِندَما يتحوَّل الدَّوْر الأُممي إلى توثيقِ جريمةٍ تُضاف إلى أرشيف الكارثة الفلسطينيَّة المفتوح منذُ عقود.
إنَّ ما يحدُث في غزَّة وباقي الأراضي الفلسطينيَّة لا يُمكِن توصيفُه أكثر من مشهدٍ عبَثي صارخ، فحين تقف الشَّاحنات المحمَّلة بالمساعدات الإنسانيَّة على أبواب غزَّة، محجوزة، معلَّقة، بَيْنَما يموتُ النَّاس في الدَّاخل جوعًا ومَرضًا واحتياجًا لأبسطِ مُقوِّمات البقاء، والأُمم المُتَّحدة بِنَفْسِها تُقرُّ بأنَّها تمتلك كُلَّ ما يلزم لدعمِ المَدَنيِّين، لكنَّها تقفُ عاجزةً عن إيصال هذه المساعدات نتيجةَ تحكُّم الكيان الصهيوني في المعابر والمعايير! والمأساة هنا ليسَتْ في قلَّة الإمكانات، بل في إفراط الحواجز، فليس هناك ما يُبرِّر هذا الموت البطيء الَّذي يعيشُه أكثر من مليونَي إنسان، مُعْظمهم من النِّساء والأطفال، وكيف يُمكِّن للعالَم أنْ يقفَ مكتوف الأيدي أمام هذه الجريمة الجماعيَّة اليوميَّة؟ كيف يفهمُ أنَّ المنظَّمة الأُمميَّة الأكبر في العالَم تعرف أنَّها قادرة ولا تتحرك؟ إنَّنا لَسْنا أمام عجزٍ إداري، بل أمام إقرار بفشَلٍ أخلاقي وقانوني لنظام عالَمي باتَتْ فيه حياة الفلسطيني مرهونةً بمزاج دَولة الاحتلال ومُجرِمِيها، والقضيَّة لم تَعُدْ إنسانيَّة فقط، بل سياسيَّة حتَّى النُّخاع. ويبدو أنَّ الإنسانيَّة وحْدَها لم تَعُدْ كافيةً لكسرِ هذا الحصار الجائر.
ورغم أنَّ الأُمم المُتَّحدة قَدْ أعلنتْ أخيرًا عن رفضِها الخضوع لآليَّة دَولة الاحتلال في توزيع المساعدات، عادَّةً أنَّ هذه الآليَّة لا تَفي بالمعايير الإنسانيَّة، وتخضع لتدخُّلاتٍ سياسيَّة هدفها السَّيطرة على مَجرَى الإغاثة والتَّأثير في القرار الأُممي، إلَّا أنَّ هذا الرَّفضَ الَّذي جاءَ متأخرًا، يفضح بوضوحٍ محاولات الكيان الصهيوني توظيف العمل الإنساني كسلاحِ ضغطٍ، وتقنين الحصار بغطاء إداري، ويبقى أنْ تعلنَ المنظومة الأُمم عن موقفٍ جادٍّ بعد هذا الردِّ، فهل ستَقُومُ المنظَّمة بخطواتٍ مُستقلَّةٍ تَضْمنُ دخولَ المساعدات دُونَ إذنٍ من الجلَّاد؟ وهل سيكُونُ هناك تحرُّك دولي حقيقي لدعمِ هذا الموقف؟ أم أنَّه مجرَّد تصريح ضِمن لائحة بيانات الشَّجب والإدانة؟ الحقيقة أنَّ الموقف الأُممي حتَّى اللَّحظة لا يرقَى لِمستوَى الجريمة المرتكبة. لا يكفي أنْ ترفضَ، يَجِبُ أنْ تُقاوِمَ، ولا معنى لحيادٍ يُساوي بَيْنَ الجلَّاد والضَّحيَّة. إنَّ استقلاليَّة العمل الإنساني لا تُمنح، بل تُنتزع، وما لم تملكِ المنظَّمة الجُرأة لمواجهةِ دَولة الاحتلال سياسيًّا وقانونيًّا، فإنَّ هذا الرَّفضَ سيتحول إلى احتجاجٍ ناعمٍ لا يُغيِّر شيئًا في الواقع الدَّموي المتواصل.
رُبَّما لا توجد مأساة في العصر الحديث تُعرَض بهذا الوضوح، وتُقابَل بهذا القدر من البرود، كما يحدُث الآن في غزَّة، يوميًّا تنقُل عدسات الصحفيِّين وبيانات وكالات الأنباء مشاهدَ لمنازل تنهارُ فوق رؤوس أصحابها، لأُمَّهات يحتضنَّ جثامين أطفالهنَّ، لأجسادٍ لا تجد قبرًا في أرضٍ لا تَسْلَمُ من القصف، ومع ذلك لا يتحرك العالَم، وكأنَّ هناك اتفاقًا غير مكتوب على تطبيع الموت الفلسطيني، لا مجلسَ أمْنٍ يجتمع بصورةٍ طارئة، ولا عقوبات تُفرض، ولا محكمة جنائيَّة تُحرِّك دعواها ضدَّ قادة الكيان الصهيوني الَّذين يُفاخِرون بقتلِهم العلَني، وعَلَيْه، ما معنى وجود منظَّمة أُمميَّة إذا كانتْ عاجزةً عن وقف المجازر؟ وما جدوى القانون الدّولي إذا لم يكُنْ له مخالب على الأرض؟ وما قِيمة مبادئ الإنسانيَّة إن لم تطبقْ على الجميع؟ في غزَّة، لم يَعُدِ الفلسطيني ينتظر رحمةَ أحَدٍ، بل فقط أنْ يتوقفَ هذا القصف الأعمى.