الخميس 15 مايو 2025 م - 17 ذو القعدة 1446 هـ
أخبار عاجلة

في العمق : جراثيم خطرة تهدد أعمدة البناء الداخلي فـي مؤسسات الجهاز الإداري للدولة.. من المسؤول؟

في العمق : جراثيم خطرة تهدد أعمدة البناء الداخلي فـي مؤسسات الجهاز الإداري للدولة.. من المسؤول؟
الثلاثاء - 13 مايو 2025 12:12 م

د.رجب بن علي العويسي

390


رغم أنَّ الآمال تتَّجه إلى أن تعكس التَّوَجُّهات المفاهيميَّة والأُطر التَّشريعيَّة المرتبطة بمسار إعادة هيكلة الجهاز الإداري للدَّولة ورؤية «عُمان 2040»، وما أكَّدتْ عَلَيْه من مفاهيم الحوكمة والشفافيَّة والنَّزاهة وتقييم الأداء الفردي والمؤسَّسي، وما تبعها من مسارات تنفيذيَّة تُعزِّز من مفاهيم الابتكاريَّة والتَّجديد والتَّطوير المستمر، وتُعلي من شأن القِيمة المُضافة في الوظيفة العامَّة والمُجتمع الوظيفي بما يَضْمن النُّزول بهذه المفاهيم والقِيَم الإداريَّة والتَّنظيميَّة إلى ميدان الممارسة المؤسَّسيَّة، إلَّا أنَّ ما يُظهره الواقع وما تتحدث عَنْه الممارسة يعكس نمطًا آخر، يَقُومُ على استمرار تلك التشوُّهات والجراثيم الإداريَّة حاضرة في منظومة الجهاز الإداري للدَّولة، وأحَد الأسباب في تقديرنا الشَّخصي يَعُود إلى غياب وجود فلسفة إداريَّة مؤطّرة وواضحة المعالَم تلتزم بها مؤسَّسات الجهاز الإداري للدَّولة جميعها بلا استثناء في إدارة منظومات عملها وتفاصيلها الدَّاخليَّة، وما تبعه من غياب وجود مسار رقابي كفء وفاعل للممارسة المؤسَّسيَّة الدَّاخليَّة بما فيها من قرارات وزاريَّة وإداريَّة وتفاعلات وأساليب العمل ولُغة الخِطاب وأدوات العمل الدَّاخليَّة والخطط والبرامج، وعدم وجود إرادة مؤسَّسيَّة نَحْوَ إعادة تصحيح الواقع المؤسَّسي من خلال تعظيم منصَّات الحوار المستدام والكفء وتعزيز التَّعايش المعرفي والتَّسامح المهني والوظيفي وترقية مفاهيم الابتكاريَّة والتَّجديد في مواجهة الأنماط التقليديَّة، وما يظهر لا يعدو أن يكُونَ مبادرات اجتهاديَّة لبعض المؤسَّسات وليس كحالة وطنيَّة تبرز فيها ملامح العمل لدى جميع المؤسَّسات.. فكُلُّ مؤسَّسة تعمل بطريقتها الخاصَّة وآليَّاتها الَّتي يُحدِّدها رئيس الوحدة أو كما تَقُومُ على البركة لِمَا يفقدها عمليَّات التَّخطيط والتَّأصيل العلمي والمفاهيمي لطبيعة الممارسة. لذلك يعاب عَلَيْها كثرة التَّغييرات وعدم ثبات الإجراءات، فهي ممارسة متقطعة ووقتيَّة وغير منتظمة أو مستديمة تتغيَّر بتغيُّر الأشخاص وفق ممارسة تقليديَّة تنعدم فيها مبادئ التَّعاون والوفاق والتَّكامل والحوار والمهنيَّة بَيْنَ مختلف المسارات والمنظومات والدَّوائر في المؤسَّسة الواحدة.. وما زالت لُغة الشَّخصنة وتَوَجُّهات المسؤول الأعلى وطريقة تعبيره عن مسار هذه المنظومة وتعامله مع مفرداتها هي مَن تُحدِّد بوصلة العمل وتوَجّه مسار الإنجاز، بَيْنَما لم تزلِ الممارسات النَّوعيَّة الَّتي أوجدتها الظُّروف أو تحاول أن تفرضَ واقعًا حديدًا في فطرتها وطبيعتها وكينونتها تغرِّد خارج السِّرب ليس لعدم جديَّتها، بل لتحكُّم المتنفِّذين في عمل المؤسَّسة وعدم اعترافهم بمساحة التَّغيير.

ومع الإيمان بأنَّ هناك العديد من التَّوَجُّهات النَّوعيَّة الَّتي تحاول أن تنشطَ في سُلوك المؤسَّسات، إلَّا أنَّها تواجِه مقاوَمة التَّغيير وحوائط الصَّد من بعض الشَّخصيَّات المتنفِّذة أو الوجاهيَّة في المؤسَّسات، الأمْر الَّذي يجعل مِنْها مساحة للصِّراع وفرض العضلات وإثبات التَّحدِّي؛ ما يضع المؤسَّسة على مفترق طُرق وفي حالة من التَّصادم والتَّباين السَّلبي المُفضي إلى تعزيز الهُوَّة السَّحيقة بَيْنَ القيادة الإداريَّة في المستويَيْنِ الأوَّل والثَّاني وعلاقته بالمسار التَّنفيذي الَّذي يتموضع فيه المُجتمع الوظيفي حتَّى يصبحَ ضحيَّة هذا الصِّراع، مشهد يعيدنا إلى حقبة البيروقراطيَّة والتَّقليد وما تعيشه من أحداث اللوبيَّات والتَّحزبات المؤسَّسيَّة الَّتي تحاول أن تقضيَ على كُلِّ فرصة تتَّجه نَحْوَ المُوَظَّف أو تسعَى لأن تمنحَه مساحة أمان لإبداء الرَّأي والمشاركة في تطوير، فتجتهد في تفسيرها بطريقتها الخاصَّة حيثُ تحجب عن المُوَظَّف كُلَّ ما هو محفِّز ودافع ومعزِّز لإيجابيَّة المُوَظَّف، بَيْنَما تُطبق عَلَيْه بمواد القانون كُلّ ما يُسيء إلى المُوَظَّف حتَّى يصنعَ مِنْه أداة عاجزة عن تحقيق والأمان الوظيفي والأمان الَّذي يشعر خلاله المُوَظَّف بأهميَّة القانون وتعظيم أثَره في حياة المُوَظَّف المهنيَّة وأنَّه جاء محققًا للعدالة مؤطرًا للنَّزاهة ميسرًا النِّظام في حياته فيوجّه الفرص الَّتي تقرُّها القوانين واللَّوائح والأنظمة لتعظمَ من دَوْره وحضوره النَّوعي وتقرأ في مبادراته وطموحاته روح التَّغيير النّموذج الَّتي تسري في فكر وقناعة كُلِّ مُوَظَّف لِيصنعَ لمؤسَّسته القوَّة ويمنحَها الأولويَّة.

بَيْدَ أنَّ الصُّورة القاتمة الَّتي تواجهها بعض المؤسَّسات، والممارسة المترهلة الَّتي يعيشها البيت الدَّاخلي، وحجم التَّذمُّر والاحتقان والصُّورة السَّلبيَّة الَّتي باتَتْ تُسقطها على قناعة المُوَظَّف وثقته وانتماؤه لمؤسَّسته أمْر يدقُّ ناقوس الخطر ويُنذر باختلالات غير محسوبة في منظومة الأداء، وارتفاع في مؤشِّر الفساد وتغييب للنَّزاهة والشفافيَّة واختلاس للمال العامِّ وتجاوز للصلاحيَّات، وتراكمات إداريَّة وسُوء استغلال للسُّلطة والنُّفوذ، لذلك لم تكُنْ هذه الصُّورة القائمة ترفًا معرفيًّا، بل مشاهد واقعيَّة وممارسات حاصلة، وهي بوصفها وأوصافها وطبيعة الممارسة تتقاطع كُليًّا مع التَّوَجُّهات الوطنيَّة وتنحرف أيَّما انحراف عن المسار الوظيفي الَّذي يتَّجه نَحْوَ الابتكاريَّة والاستدامة والرّيادة المهنيَّة المؤطّرة بمبادئ الحوكمة والعدالة والنَّزاهة وكفاءة الأداء ورفع درجة الاستحقاق للكفاءات، وتعزيز وجود بيئة عمل محفِّزة ومنتِجة تمتلك ممكنات التَّحوُّل ومقتضيات الفعل التَّطويري، وقادرة على صناعة الإلهام محفِّزة للعمل الجادِّ المخلِص ومؤصِّلة للقِيَم والأخلاقيَّات والمبادئ الَّتي أصَّلها النِّظام الأساسي للدَّولة وجملة القوانين والأنظمة المرتبطة بالوظيفة العامَّة والسُّلوك المهني وأكَّدتها مدونة قواعد السُّلوك الوظيفي للمُوَظَّفين في الجهاز الإداري للدَّولة، والصُّورة الَّتي يَجِبُ أن تتقنَها المؤسَّسات في صناعة مُجتمع وظيفي كفء ومنتِج قادر على الانتقال بالممارسة الوظيفيَّة من التكراريَّة إلى الإنتاجيَّة، ومن الوقتيَّة إلى الاستدامة، ومن المزاجيَّة إلى التَّأطير؛ باعتبارها ثقافة مؤسَّسيَّة وأُسلوبًا رياديًّا في صناعة القوَّة المؤسَّسيَّة، ومع ذلك ما زالت بعض المؤسَّسات ـ وللأسف الشَّديد ـ تعيش الصُّورة السَّابقة الَّتي أسدل الزَّمن عَلَيْها السِّتار، إلَّا أنَّها ظلَّتْ بفعل ما أشَرنا إِلَيْه سلفًا من تغييب لمبادئ الحوار والشَّراكة المؤسَّسيَّة، وغياب المصداقيَّة والنَّزاهة في اختيار شخوص الإدارات بالمؤسَّسات وحجم الصلاحيَّات غير المقررة قانونًا الَّتي منحتْ للقائمين على هذه الإدارات داخل المؤسَّسات في اتِّخاذ ما يحلو لها من قرارات، وغياب وجود فلسفة إداريَّة مؤسَّسيَّة نابضة بالحياة مراعية للمشاعر عادلة في القرار، وتحتوي المُوَظَّفين وتقرأ منظومة العمل في إطار الاختصاصات والمسؤوليَّات برُوحٍ وطنيَّة قوامها الحقُّ والعدل والمساواة باتَ الكثير من المؤسَّسات يعيش حالة من الخمول الفكري والجمود المؤسَّسي والتَّراجع واستغلال بعض القائمين على هذه الإدارات لتصفيةِ الحسابات وإثبات سُلطويَّة التَّأثير والقرار والنُّفوذ الوظيفي في العبث بموارد المؤسَّسة والتَّسلُّط على رقاب الكفاءات، لِتتَّجهَ إلى التَّهميش والإقصاء والسَّحق الوظيفي الَّذي باتَ الشُّغل الشَّاغل لهذه الإدارات.

أخيرًا، يبقَى المشهد الوظيفي في ظلِّ ارتفاع مؤشِّر التَّرهُّل في البيت الدَّاخلي في بعض مؤسَّسات الجهاز الإداري للدَّولة وحالة الإقصاء والتَّهميش الَّتي تتعامل بها مع المُوَظَّفين، في ظلِّ غياب وجود فلسفة إداريَّة صانعة للتَّغيير، وفرض سُلطة الأمْر الواقع، وسياسة الباب المُغلق وتقزيم صورة المُوَظَّف المنتِج في ظلِّ مشوِّهات منحنى إجادة، ولُغة الأنانيَّة والفردانيَّة والسُّلطويَّة الَّتي باتتْ تتحكم في المسار الوظيفي بما باتَ يفرضه المتنفِّذون فيها من قواعد وممارسات تنتفي فيها كُلُّ الخيارات والبدائل والاستراتيجيَّات الحديثة، وتتكاثر فيها جراثيم الهدر ولُغة التَّطبيل وغياب الانتماء المؤسَّسي والشُّعور الجمعي بالرَّابطة المؤسَّسيَّة الَّتي يفترض أن تحتضنَ الجميع ويتفاعلَ معها الكُلُّ، ولُغة الأمْر والنَّهي والتَّحكُّم والتَّصرُّف في التَّرقيات والمكافآت بحجبها عن البعض وتشريعها للبعض الآخر. لِتظلَّ هذه اللَّطائف المشهودة والحقائق المعلومة، والهموم والهواجس اليوميَّة المعايشة، دعوةً للجهات الأمنيَّة والرَّقابيَّة والحقوقيَّة والتَّشريعيَّة والضَّبطيَّة بالدَّولة في الوقوف على هذه التَّراكمات، وإعادة تقييم الوضع الكارثي الَّذي قد يُنذر على المدى البعيد بمخاطر كبيرة تتجاوز ثقة المُوَظَّف وحقَّه الوظيفي لتتجرَّأَ على سُمعة المؤسَّسة وموقعها في منظومة الدَّولة والصُّورة التقزميَّة الَّتي باتَتْ تُسقطها الممارسة غير المسؤولة على التَّوَجُّهات الوطنيَّة والأولويَّات المعزّزة للحوكمة والنَّزاهة والشفافيَّة ومنظومة تقييم الأداء الفردي والمؤسَّسي؛ مرحلة تفتح فيها بكُلِّ شفافيَّة ووضوح، ملفات الوظائف والتَّرقيات والمكافآت والدَّوْرات والبرامج التَّدريبيَّة ومهام السَّفر الخارجيَّة والَّتي أصبحتْ تُدار بمعيار الأشخاص، وتقييم ما يجري من مناورات داخليَّة تعسفيَّة في قرارات التَّثبيت والتَّعيين والتَّرقية والتَّسكين على حساب المُوَظَّف المُخلِص المُجتهد الأمين، ومراجعة تصحيحيَّة للسُّلوك المؤسَّسي ومحاسبة ومساءلة المسؤولين في هذه المؤسَّسات ممَّن صدرتْ مِنْها هذه التَّجاوزات والإخفاقات على شكل قرارات أو إجراءات أو أسدلوا ستار التَّجاهل والتَّستُّر عَلَيْها.

د.رجب بن علي العويسي

[email protected]