ما بَيْنَ مقتلِ سبعةٍ من عمَّال الإغاثة الدّوليِّين في غزَّة في الثاني من أبريل ـ نيسان 2024 ومقتل المتضامنة الأميركيَّة إيسينور إزجي إيجي بطلقةٍ في الرَّأس من قوَّات الاحتلال في الـ(6) من سبتمبر ـ أيلول 2024 قتلَ خلالها مئات الآلاف من الأطفال والنِّساء والمَدَنيِّين الفلسطينيِّين العُزَّل في غزَّة والضفَّة دُونَ أن نسمعَ إدانةً واحدة من أيِّ مسؤول غربي لقتلِ كُلِّ هؤلاء الفلسطينيِّين المَدَنيِّين الأبرياء العُزَّل! وفي الوقت الَّذي نُدين به بأشدِّ العبارات قتْلَ عمَّال الإغاثة الأُمميِّين وقتْل َالمُتضامِنة الأميركيَّة بدمٍ باردٍ من قِبل قوَّات الاحتلال وقتْلَ أيِ إنسان بريء، فإنَّ السُّؤال البدهي الَّذي يطرح نَفْسه هو: لماذا كُلُّ هذه الاستهانة بالدَّم الفلسطيني العربي من قِبل دعاة حقوق الإنسان الغربيِّين؟ ولماذا لا يستدعي سفكُه ذات الإدانات الَّتي لا يتوانَى الغربيُّون عن إطلاقها لدَى سفْكِ دَمِ أيِّ إنسان ذي سحنة بيضاء وعيون زرقاء؟ أوَلَيْسَتْ هذه هي العقيدة العنصريَّة الاستعماريَّة بذاتِها والَّتي تُبرِّر إبادة الشُّعوب غير الأوروبيَّة؟ ولكنَّ المُشْكلةَ أبعدُ من ذلك بكثير وهي ذاتُ وجْهَيْنِ أساسيَّيْنِ:
الأوَّل: هو أنَّ أبناء جلدة الفلسطينيِّين من العرب والمُسلِمِين لم يُظهروا أيضًا ما يُشفي الغليل وما يُمكِن فعلًا أن يُشكِّلَ عاملَ ضغطٍ لإيقاف هذه المجازر الوحشيَّة الَّتي تُرتكَب بحقِّ شَعبٍ عربي أعْزَل لِمَا يقارب من عام كامل الآن تحت عناوينَ وحججٍ واهية وغير مقبولة. والوَجْهُ الثَّاني والأخطر هو الانفصام الخطير الَّذي شهدناه على مستوى الدوَل الغربيَّة بالأخصِّ، وعلى مستوَى العالَم بشكلٍ عامٍّ بَيْنَ ضمائر النَّاس وتحرُّكاتهم العفويَّة والمشكورة لوقفِ هذا العدوان الظَّالم على الشَّعب الفلسطيني وبَيْنَ دوائر القرار في هذه الدوَل والَّتي دأبتْ على قمعِ هذه الإدانات الشَّعبيَّة لجرائمِ الحرب والإبادة الصهيونيَّة والَّتي دأبَ أيضًا إعلامها وسياسيُّوها على استخدام سرديَّة تُعَدُّ بحدِّ ذاتها شريكةً في هذا الإجرام وتسويقه على المستوَى العالَمي. إذ إنَّني ـ ومن خلال متابعتي للإعلام الغربي ـ لا أجدُ ما يُشير إلى الأزمة الإنسانيَّة الكُبرى الَّتي تسبَّبَ بها العدوان «الإسرائيلي» على الفلسطينيِّين، بل تتمُّ الإشارة إلى «دعمِ حقِّ «إسرائيل» في الدِّفاع عن نَفْسها» أو إلى «حرب عملاء إيران ضدَّ إسرائيل» و»قرصنة الحوثيِّين للسُّفن في البحر الأحمر» وإلى ما هنالك من عبارات مُضلِّلة لا تلامس حقيقة ما يجري على أرض فلسطين من سفكِ دماءٍ وتجويعٍ وحصارٍ وتنكيلٍ وجرائم ترتكَب يوميًّا ضدَّ مليونَيْنِ من البَشَر وإبادة غير مسبوقة في العصر الحديث لشَعبٍ كامل.
في 1/9/2024 نشرَتْ ذا ناشنال THE NATIONAL مقالًا مُهمًّا بعنوان: «من غزَّة إلى أوكرانيا إلى السودان: لماذا ستترنح الصِّراعات حتَّى عام 2025» وإن كان مقيَّدًا أيضًا بالسرديَّة الغربيَّة والمصطلحات المُضلِّلة ذاتها ولكنَّه توصَّل إلى استنتاج أنَّه «سيكُونُ من المفيد إذا اتَّخذتِ القوى العالَميَّة كُلُّها قرارًا غير محتمل بأن تفكرَ بنتائج استجابتهم الصَّامتة للسِّياسات الكارثيَّة والمغامرات في اليمن والسودان وغزَّة ولبنان» والحقيقة المُهمَّة في هذا الصَّدد هو أنَّ البَشَريَّة بِرُمَّتها ستدفع ثَمَنَ هذا الصَّمتِ على مدَى عقودٍ قادمة بطريقةِ لم تخطرْ لَهُم على بالٍ ولهذا مؤشِّراته الَّتي يُمكِن لنَا اليوم أن نستقرئها بسهولة إذا ما تعاملنا مع الأحداث الجارية بصدقٍ وشفافيَّة بعد أن نحرِّرَ أنْفُسَنا من كُلِّ اللُّغة والمصطلحات والسرديَّات السِّياسيَّة الغربيَّة المُضلِّلة الَّتي تعمدُ إلى نشْرِ الوهْمِ والتَّعمية على حقيقة ما يجري عَبْرَ إعلامِها المُتصهينِ ظنًّا مِنْهم أنَّ هذا سيوفِّر الحماية لَهُم ولِمُخطَّطاتهم الَّتي ستنزلق في متاهاتٍ مختلفة لن يملكوا أيَّ قدرة على إيقافها أو وضعِ حدٍّ لها.
وأوَّل هذه المؤشِّرات هو الانفصام الواضح بَيْنَ الطَّبقات الحاكمة والشُّعوب المحكومة في الغرب وتتساوَى في هذا الدوَل الَّتي تدَّعي الديمقراطيَّة وغيرها الَّتي لا يحقُّ لهَا استخدام مِثل هذا المصطلح إذ إنَّ الضَّمائر الحُرَّة الَّتي تتحرَّك وتدفعُ أثمانًا وتستقيل وتُسانِد الشَّعب الفلسطيني وهُمْ كُثر بالفعلِ ويملؤون السَّاحات في العواصم والمُدُن الغربيَّة لا تلقَى آذانًا مُصغية أبدًا ولم تتمكَّن من إحداث أيِّ أثَرٍ على السِّياسات الظَّالمة الَّتي تَسير بها الحكومات المُتصهينة في بُلدانهم، مِثلهم مِثل المواطنين الَّذين توصف حكوماتهم بالدكتاتوريَّة والفَرق الوحيد هو أنَّ ناشطي الديمقراطيَّات يُمكِنهم النُّزول إلى الشَّارع والتَّعبير عن آرائهم فقط وحتَّى هذا الأمْرُ تمَّ قمعُه مؤخرًا بطريقةٍ بشِعَة في الجامعات الأميركيَّة والغربيَّة.
لماذا أعدُّ هذا المؤشِّر في غاية الخطورة؛ لأنَّه يعني أنَّ الشُّعوب هائمة على وجوهها لا راعيَ لهَا وأنَّ الحكومات المُتصهينة منشغلة بمسارٍ آخر يخدم أهدافها الَّتي هي أهداف الزمّرة المُنتمية إِلَيْها والَّتي تشترك معها في المصالح بغَضِّ النَّظر عن رأي واحتياجات وآلام وآراء المحكومين والواهمين أحيانًا بأنَّهم ينتخبون ممثِّليهم وأنَّ هؤلاء المنتخَبِين سيسعونَ جادِّين من أجْلِ تحقيقِ مصالحهم ومعالجة قضاياهم المُجتمعيَّة والمعيشيَّة وغيرها. وهذا يعني أيضًا في السِّياق ذاته أنَّ مسألة الانتخابات والَّتي تعَدُّها ما تُسمَّى بـ»الأنظمة الديمقراطيَّة» حجر الزَّاوية في هذا النِّظام الَّذي تتفاخر به أصبحتْ مسألة استعراضات إعلاميَّة وبناء صوَر زائفة واختلاق مؤهِّلات وقِيَم وقدرات لا تتقاطع أبدًا مع ما هو فعلًا موجود ومتاح على أرض الواقع. وهذا يعني أيضًا بداية أُفول الكذبة «الديمقراطيَّة» الَّتي اعتاش عَلَيْها الغرب للسبعين عامًا الماضية ونهبَ بحجَّتها وما زال ثروات البُلدان الأخرى وكمَّ الأفواه وعملَ على أن تبقَى الشُّعوب المستضعفة ترزح تحت سيطرته وهيمنته.
والسَّبب الثَّاني هو أنَّ هذا المؤشِّر يجِبُ أخذُه بجديَّة مُطْلَقة من قِبل النُّخب والشُّعوب الَّتي تربَّت على اعتبار الغرب هو العادل وأنظمته هي الَّتي تُمثِّل صوت النَّاس وتُعبِّر عن آرائهم وطموحاتهم وتطلُّعاتهم. وأنَّ هذه النُّخب والشُّعوب المستضعفة عَلَيْها أوَّلًا أن تتحرَّرَ من كذبِ وتشويهِ الإعلام الغربي المُتصهيِن للحقائق المعاشة واستهتاره بصدقيَّة وخطورة ما يحدُث؛ لأنَّه منشغل فقط بتحقيق مصالح الطَّبقة الصهيونيَّة الحاكمة في هذه البُلدان الَّتي تُموِّله وتضْمَن استمراريَّته وأنَّ كُلَّ ما قرأناه في السبعين عامًا الماضية عن حُريَّة الإعلام الغربي ومصداقيَّته هو محض هراء أثبتَتِ الأحداث الأخيرة في هذا العام أنَّه فعلًا حِبر على ورق.
والسَّبب الثَّالث والأخير هو ما عبَّر عَنْه المَثَل الإنجليزي وهو:
«What goes around comes around» أي أنَّ ما تنشرُه للآخرين يعُودُ بالنَّتيجة إِلَيْك. وهُنَا يتلاقى مع المَثَل العربي أنَّ كُلَّ إنسان «يحصد ما يزرعه» وإذا كان الغرب قد زرعَ في هذا العام وفي قلب فلسطين الجريح أبشعَ أنواع القتلِ والعذابِ والتَّنكيل والاستهانة المَقيتة بحياة الأطفال والرضَّع والنِّساء والرِّجال فإنَّ عواقب جرائم الحرب والإبادة هذه ستصلُ إلى الصَّامِتِين عَنْها والعامِلِين على استمرارها والَّذين يقولون ما لا يفعلون والَّذين تراهم في كُلِّ وادٍ يهيمون. لذلك قال الله ـ عزَّ وجلَّ ـ في كتابه الكريم: «مَن قتلَ نفسًا بغير نَفْس أو فساد في الأرض فكأنَّما قتلَ النَّاس جميعًا» فما بالكم بقتلِ مئاتِ الآلاف من المَدَنيِّين والأطفال والنِّساء الأبرياء والتَّسبُّب بفقدٍ وكوارثَ إنسانيَّة يبغضُها الله ورسلُه وكُلُّ إنسانٍ مؤمن بقدسيَّة حياة الإنسان بغَضِّ النَّظر عن لَوْنه وأصْلِه أو معتقدِه. الغرب الَّذي يُكرِّر كالببغاء العبارة الكاذبة عن «حقِّ «إسرائيل» في الدِّفاع عن نَفْسها» لن يجدَ مَن يحميه من سخطِ الله والكون والشُّعوب حتَّى تحلَّ به عواقب صَمْتِه ودعْمِه لأشنعِ جرائمِ الإبادة الَّتي شهدتها الإنسانيَّة في هذه الألفيَّة.
بإمكانكم متابعة مقالات الدكتورة بثينة شعبان باللغتين العربيَّة والإنجليزيَّة من خلال الموقع الإلكتروني:
أ.د. بثينة شعبان
كاتبة سورية