يشكِّل البناء الفكري اليوم أحد ضرورات قيام أيّ تنمية مستدامة، وأهم محددات استقرار الأوطان، وقدرتها على تجاوز الاشكاليات الناتجة عن تشعب متطلبات الإنسان وتنوع احتياجات الشباب، فحالة الاستقرار التي تعيشها بعض الأوطان، إنما هو لوجود ثقافة معتدلة قادرة على تحقيق التنوع والاحتواء والدمج والتأثير، وخطاب وطني سياسي أو ديني، قادر على فهم متطلبات الإنسان ومحددات التطوير، ويمتلك أدوات تحقيق المواطنة الإيجابية الواعية في سلوك المواطنين، وتمتلك مؤسساته أساليب مقنّنة واضحة تُدرك مسؤولياتها في بناء أطر سليمة تقوم عليها برامجها التنموية المختلفة، بحيث يتقاسم الخطاب السياسي في وضوحه وثقته في أبناء الوطن وشموليته وتفهّمه لاحتياجات المواطنين واقترابه من خطاب المرحلة، مع الخطاب الديني المتجدد المتسامي فوق الطائفية والأيديولوجيات، واعتماده آليات متزنة في ضبط مسارات حياة الشباب وتوجيهها باختيار ورغبة دون مصادرة للفكر، نحو تحقيق تحّول في السلوك، وقدرة هذا الخطاب على الاهتمام بالأولويات الوطنية، وتعزيز روح الأخوة والشراكة والتواصل مع الدولة ومؤسساتها، وفهم المسؤوليات وفق أطر تشريعية محددة يضمن القانون مسارها وتوجيهها لخدمة المصلحة العامة.
والمتتبع للبناء الفكري يجد بأنه من أكبر التحديات التي تواجه البشرية، وهو أيضا ينبغي أن يكون أولوية عالمية يجب أن تتعاون قيادات العالم ودوله على تقنينها، بما يحفظ للخصوصيات الثقافية للشعوب مكانها، فإن أغلب الإشكاليات التي تعاني منها الإنسانية اليومراجعة إلى التحديات الفكري القائمة على تعميق المذهبية والطائفية وتعميق الاختلاف بين الشعوب، والتي تنتهج أساليب بعيدة عن نهج التكامل الإنساني وتقاسم المشترك بين الإنسانية، بما يضع قيادات العالم وحكوماته والمنظمات الدولية المختلفة في العمل على رسم خريطة واضحة يمكن أن تستند إليها سياسات الدول في مناهج التعليم والتثقيف ومحاضن التربية وآلية توعية الأجيال، بما لا يقيّد الحريات الفكرية، المعتدلة، ويؤصل في الوقت نفسه لمفهوم الاعتدال الفكري القائم على تعدد منابر الحوار، وتأكيد مفهوم الشراكة لتحقيق الوعي، والبناء على المشترك الإنساني بما يعزز روح المحبة والتآلف، ويسهم في بناء مناخات عمل مشتركة لثقافة الوئام الانساني والعيش المشترك في ظل حفاظ على الخصوصيات الثقافية، ومنح فرصة أكبر لتمكين الشباب من تحقيق مسارات مهنية راقية لديهم من خلال توظيف المهارات والخبرات والتجارب للقيام بدور أكثر فاعلية في إدارة برامج التنمية الوطنية، وهو أمر يجب أن تؤكد عليه منظومة العمل والتعاون والعلاقات الدولية في ظل منظمات الأمم المتحدة وأجهزتها المختلفة، وما تتطلبه من توفير القوانين والتشريعات الموجهة نحو تعزيز البناء الفكري المعتدل للأجيال باعتباره أولوية عالمية ووطنية، يظهر ذلك في مناهج التعليم وأدواته وثقافة العمل وأساليب التثقيف، ودور الاعلام في تعميق الخطاب السياسي المتصالح مع الآخر القائم على تأكيد الايجابية والترابط الفكري، وتوجيه الخطاب الديني لتعميق التكامل بين الشعوب ونبذ الفرقة، وتوظيف المناسبات الدولية والوطنية والإنسانية والدينية في تحقيق هذا الاستقرار، من خلال الدعوة المستمرة إلى وحدة الكلمة، ونبذ الاعتداء، ومنع الفرقة، وتطوير العلاقات الدولية بالشكل الذي يحقق للشعوب المزيد من التكامل والتعاون والاستقرار. وبالتالي منع كل التوجهات التي قد تثير مثل هذه الاختلالات في فكر الاجيال، وتنشر ثقافة الحزبية السلبية أو تعمق للمفاهيم الفكرية الخاطئة، والأخذ بيد من يقومون بمسؤولية الدعوة أو الظهورعبر مختلف القنوات الاعلامية والفضائيات أو شبكات التواصل الاجتماعي والمدوات الالكترونية وغيرها، وبالتالي وضع الجميع أمام مسؤوليته الأخلاقية والقانونية والإنسانية في ردع المفاسد التي تعمّق جوانب الفرقة بين أبناء الوطن الواحد والمجتمعات البشرية.إن الإنسانية اليوم بحاجة إلى أن تستفيد من كل الفرص المتاحة والمنابر الحوارية المتعددة بما يضمن استقرارها وتقدمها وتنميتها وتطورها، ويوجّه الجهود القائمة نحو ايجاد بدائل وفرص لمواجهة التحديات الماثلة في قضايا الأمن والأمراض والأوبئة والمياه، ومشكلات الجريمة، والارهاب، والفساد، والاحزاب المتشددة والجماعات المتطرفة، وغيرها.
إننا في عمان وبحمد الله ورؤية القيادة الحكيمة لحضرة صاحب الجلالة السلطان المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ نعيش استقرارا فكريا متوازنا وارتباط عميق بالوطن (الدولة والإنسان) في ظ لما تمتلكه عُمان من رصيد فكري راقٍ، وذاكرة حضارية رصينة، وثقافة وطنية معتدلة، وما تؤمن به الدولة من فكر التسامح والتواصل والشراكة والحوار والتعاون والوئام الانساني وتقدير الاخرين وثقافاتهم وهوياتهم وخصوصياتهم، ومبدأ حسن الجوار وعدم التدخل في شؤون الغير، للقناعة بأن البناء الفكري السليم للأجيال، وقدرتهم على استيعاب الواقع وفهم المستقبل ، وتعميق مسارات الوعي والفهم لديهم، إنما هو انعكاس لاستقرار الوطن وتحقيق السعادة لأبنائه ومنح الأجيال فرص أكبر للتنمية والتطوير وإدارة عالمهم في ظل السلام والمحبة والوئام.

د. رجب بن علي العويسي
[email protected]