[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/zohair.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]زهير ماجد [/author]
ثمة تأثير متبادل بين الإبداع وبين حالة المجتمع والسياسة.. تقتحم الأفكار حالة المجتمع فتؤدي الى تبدل فيه، وأحيانا تؤثر الحياة السياسية في الأفكار فتصنعها فتعود هذه بدورها لتقديم خدماتها الفكرية لها. المبدعون والمثقفون عادة هم مناطق الحس في تلك المجتمعات يلتقطون على الطاير مايجب فعله أو مايوجب فعله. يضعون الفكرة مثلما تضع الدجاجة البيضة، وقبل الوضع يتأوهون لأن حالهم من حال المجتمع.
ثمة غرابة، احيانا يكون المجتمع في ذروة نشاطه ونجاحه وفي حياة سياسية هادئة ومع ذلك فهو غير منتج ثقافيا وفنيا، وقد يحصل العكس في مكان آخر، في بعض الأحيان لا تكون دنيا المجتمع بخير فنراه يضع اللبنة الأولى في عملية التغيير عندما يساهم بأفكاره في صناعتها.
لا يمكن لرواد السياسة الطلب من المبدعين والمثقفين كيفية رؤية الواقع وإظهاره في إبداعهم.. تلك العملية الميكانيكية تسيء أحيانا لمن هم يتأملون المشهد عن بعد او عن قرب، التأمل صفة مهمة يعول عليها جان بول سارتر مثلا في صناعة الفكرة، بدون التأمل يصعب انتاج افكار ملائمة.
حاول العصر الستاليني في الاتحاد السوفياتي ان يصنع ثقافة خاصة كأن يقنن مبدعيه ومثقفيه، فوضع على رأسهم مسؤولا متشددا يدعى جدانوف، الى جانب شخصية مخابراتية صارمة هي بيريا، مما ادى الى اكبر نسبة انتحار في العالم تقريبا في صفوفهم خلال تلك الفترة.
بمقاييس العلاقات والانسجام بين السلطة السياسية وبين المبدعين والمثقفين تبرز المرحلة الناصرية في الطليعة منها.. فلقد كان عبد الناصر صديقا لهم، يتابع نشاطاتهم، ويتعرف على كل صغيرة وكبيرة تخصهم، ويهتم جدا في متابعة أوضاعهم الصحية والمالية وغيره اضافة الى رعايته لنشاطاتهم. ولهذا نجحت تلك المرحلة بأن انتجت فنا مهما على اكثر من صعيد، وأدبا مرموقا، وصحافة مميزة.. ولم يكن عبد الناصر يعاينهم عن بعد، بل قرب عديدين اليه، فكان محمد حسنين هيكل على سبيل المثال، وكان ثروت عكاشة، ثم هاهي أم كلثوم حاضرة بشكل يومي في الاتصالات الهاتفية بينه وبينها، وكذلك مع عبدالحليم حافظ وغيره من الفنانين. واذا احصينا المرحلة تلك، سوف نجد هذا الكم الكبير من الكتاب الذي كان شبه مجاني بأسعاره، والمجلات المتخصصة وهي كثيرة، والأفلام الملتزمة، والفن التشكيلي الراقي، والقصة والرواية، ولشدة قربه من الثقافة والمثقفين والفن والفنانين، اثيرت ضجة كبرى حول فيلم " شيء من الخوف " الذي اعتبرته الرقابة يومها وكأنها تجسيد لمرحلة عبد الناصر الذي برأي الفيلم اغتصب مصر التي رفضته، ورفضت انزال الفيلم في صالات السينما، فما كان منه الا ان طلب مشاهدته شخصيا، ثم أمر بإنزاله في الصالات..
اما تجارب اميركا اللاتينية في هذا المجال فهي كثيرة ومتعددة، هنالك دائما شبه تمازج بين الحاكم والمثقفين والفنانين، هنالك رعاية والتزام ومناقشة افكار بين طرفين: الحاكم والمحكوم المثقف او الفنان.. كان مثلا غارسيا ماركيز صاحب الروايات المميزة، شديد الصلة بالزعيم الكوبي فيدل كاسترو الى الحد الذي كانا يتقابلان دوما وخلال مرات في الشهر الواحد يتبادلان ليس فقط الانتاج الادبي، بل الرأي في شؤون السياسة وشؤون بلديهما باعتبار الكاتب من كولومبيا والزعيم كوبي.. بل ان جل المغنين في كوبا هم اصدقاء كاسترو، وكذلك بقية الكتاب الذين كان يرعاهم عن بعد، ويعمد احيانا الى جلسات خاصة جماعية معهم.. وحين استلم الحكم في نهاية الخمسينات، كان اول فعل فعله ان طلب من شعبه ومن مثقفيه خاصة النزول الى المزارع للمساهمة في زراعة البلاد وتحصينها، فكان هو على رأسهم ومعه طبعا تشيء غيفارا. وعندما تسلم الحكم في تشيلي الشخصية الوطنية سلفادور الليندي، كان اول مافعله توزيع مايملكه من اراض على الفلاحين الفقراء، ثم عمد الى تجربة فريدة حين اراد ان يبث التعليم في الارياف الفقيرة البعيدة عن العاصمة مركز الثقل، فطلب من اشهر مغني بلاده فيكتو جارا ان يقوم بهذه المحاولة، فنزل عند رغبته وباشر على الفور بالذهاب الى ذلك الريف ومعه غيتاره، فكان يعلمهم بواسطة الموسيقى.
يأخذنا هذا الكلام الى القول ان مايظل قائما في احداث التاريخ هم المبدعون، نحن لانتذكر من بريطانيا مثلا ومن مراحلها سوى ان نردد اسم شكسبير، ومن فرنسا فيكتورهيغو وجان جاك روسو.. وما زال الادب الروسي العظيم يلاحقنا منذ ماقبل الثورة البولشفية وفيه اسماء محفوظة في التاريخ لايمكن تجاوزها لكل من يريد قراءة تلك الكلاسيكيات الهائلة، امثال دوستويفسكي وتولستوي وغوغول وليرمنتوف ومكسيم غوركي... ومع ذكرى الحرب الاهلية الاسبانية التي حصدت الملايين في ذلك البلد وانتهت بإعادة فرانكو الى الحكم، ماتزال ذكرى مقتل الشاعر لوركا هي الأبرز لدينا وهو ينادي " تعالوا وشاهدوا الدم في الشوارع "، بل ماتزال لوحة " غورنيكا " للعبقري بيكاسو تجسد تلك الحرب وتكاد تنطق بهولها، يومها لم يكن هنالك " داعش "، فيما يبدو ان ممارسات " داعش " الاجرامية موجودة في كل زمان ومكان، وينطق التاريخ العالمي بها في اكثر من مكان سواء في اوروبا او في الشرق.
وفي هذا الصدد لابد من الملاحظة، ان عصر الانحطاط العربي مثلا، اصيب في الفترة العثمانية، عندما كان الحديد والنار مصير شعوب المنطقة.. مجتمعات الخوف لاتصنع ادبا وفنا مرموقين، قد تصنعهما سرا في البيوت، تخبأ الى يوم يشهد فيه نقاد على اهميته في مرحلته، لكنه يظل سريا نائما في الخزائن الى اللحظة التي يفرج عنها.
في العصور الشبيهة بـ " داعش " يموت الرزق وتموت الطبيعة، وترفض الافكار الخروج الى النور او هي تموت ايضا في رأس صاحبها، ثمة سكين يلاحق الجميع، وثمة فوهة بندقية تدق رؤوسهم، وثمة خراب في كل مكان، هنالك فوضى في كل شيء، لامؤسسات ولا انسان قويم، ولا عالم متحرر من عقده.. القوة متحكمة، والارهاب يطال الرقاب والنفوس.. بعض النقاد يعتبر ان هذه المرحلة على قساوتها مهمة في انتاج ثقافة وفن راقيين لكن بشكل سري. بعض المبدعين يهتمون جدا بان يعيشوا تلك المرحلة عن كثب كي يفهموا تماما الجانب الآخر منها وكي يتمكنوا من كتابة او تصوير ماعاشوه بعدما تمكنوا من الاحتكاك به وكأنه عالم سوريالي يستحق فهمه عن قرب.
ونعود الى موضوعنا، ففي أصعب لحظات المجتمع العراقي وهي الحرب مع ايران، شجع الحكم العراقي آنذاك كل مقاتل في الجبهة يمكنه ان يقدم انتاجا راقيا، واعتمد في ذلك على لجنة خاصة تزعمها طارق عزيز ورأسها كبير المثقفين جبرا ابراهيم جبرا كي تبت بأفضل قصة او رواية او لوحة تشكيلية او سيناريو سينمائي وغيره، وقد وزعت الجوائز آنذاك والحرب مازالت قائمة، وعندي بعض من هذا الانتاج.
اقتراب المثقف والفنان من السلطة الحاكمة يكون احيانا تبعية كما في حال الشعراء القدامى او الكتاب والمثقفين ايضا، واحيانا مساهمة في نشر افكارها وانتاجها وخططها كما في حال المرحلة الناصرية حيث تعتبر اغاني عبد الحليم حافظ الوطنية مثلا تاريخا مهما للمرحلة الناصرية وتعبيرا دقيقا عما قدمته لمصر.. تماما اذا ماقرأنا الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري فيكون لدينا جانب مهم من تاريخ العراق ايضا من خلال تلك الأشعار.
اذا احصينا اليوم ماكتب في الوطنيات والانسانيات لما تمكنا من تعدادها، الكاتب واحد من الشعب، لكنه طليعي في ابراز الجوانب التي يتمثلها المجتمع.. ان مفهوم الفن للفن قد يصلح في مجتمعات وقد لايصلح في اخرى، في مايشبه مجتمعاتنا العربية لابد من فن ملتزم وثقافة ملتزمة، هي حاجة المجتمع، وهي ثروته في مرحلة من المراحل وهي تعبيره.
ان كل كلمة او جملة ذات طابع وطني تضاف الى تحقيق ماتصبو اليه البشرية.. الفنانون الكبار وكذلك المثقفون يصنعون تصورات ماسيأتي ليبنى على الشيء مقتضاه. تظل الافكار العظيمة قائمة في الكتب محفوظة كسجل انساني متاح ليس لأصحابها فقط بل لكل البشر على اتساع الارض.. اذ ماكتبه غارسيا ماركيز ترجم الى كل لغات الارض، وكثير من الانتاج الابداعي الراقي اصبح متاحا لجميع سكان الكرة الارضية.. مايثلج قلب المثقف والفنان ان يتحول من رقم في بلده الى ماهو متسع في الكثير من بلدان العالم. نحن العرب اليوم نتعرف على الكثير من الاسماء المهمة في عالم الابداع، نقرأ لهم باللغة العربية، نستمتع كما لو اننا نقرأ بلغاتهم، ونتأمل احيانا الصور التي تتراءى امامنا من خلال هذا الفن الراقي او الأدب العظيم.
كان عبد الناصر شغوفا بالعلم فأسس عيدا خاصا سماه عيد العلم كان يحضره شخصيا ويخطب فيه وإحدى كلماته طلبت من طلبة الثانوية العامة كمادة إلزامية. بل مرة قال لي رئيس حزب مصري عين في حكم عبد الناصر وزيرا للتربية ان اجمل مشهد رآه في حياته كان عند زيارته لأحد الأرياف، وعندما خرج في الليل يتمشى، رأى مشهدا مثيرا، مجموعة كبيرة من الرؤوس تذهب وتجيء بين سنابل القمح وتحت اضواء الشارع وهي تحمل كتبا وتقرأ بصوت عال، كان هؤلاء من الطلاب، لكن هذا المشهد لم يكن احد ليراه في الحكم السابق حين كان التعليم حكرا على فئة من الشعب ولم تكن الكهرباء متوفرة في البيوت والشوارع.
يسجل التاريخ عظماءه ممن تركوا بصماتهم في حركة الواقع وفي متغيراته.. هؤلاء الذين عبروا عنه او ساهموا في صنعه هم الباقون في سجل الخالدين وفي الذاكرة الحية للشعوب. المبدعون هم القلم الذي تكتب به الشعوب تاريخها، وهم مرآتها، وهم صورتها الثابتة والمتغيرة.. قد ننسى اسماء عظماء في السياسة، لكننا لاننسى ابدا اسماء شعت في التاريخ فنا وثقافة ملتزمة. في البدء كانت الكلمة، وفي التاريخ الانساني يظل صاحب الكلمة الإرث الذي تتناقله الأجيال وتهفو إليه كلما حاولت الغوص في واقعها.