[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/mohamedabdel.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]محمد عبد الصادق[/author]
” بدأ نبيل علي حياته العملية ضابطاً مهندساً بسلاح الطيران المصري عقب تخرجه من كلية الهندسة تخصص هندسة الطيران في ستينيات القرن الماضي, وفي السبعينيات ترك الطيران وعمل باحثاً متفرغاً في بحوث ثقافة المعلومات والذكاء الاصطناعي وتطبيقاته على اللغة العربية , وكان أول عربي يُدخل الحرف العربي جهاز الحاسوب بعد نجاحه في تصميم برنامج للكتابة الحاسوبية باللغة العربية,”

غيب الموت عالم الحاسوب والمعلومات المصري الدكتور نبيل علي , مات في صمت يوم الثلاثاء 26يناير الماضي , دون أن تنعيه وسائل الإعلام المحلية السيارة كما يليق بمقامه العلمي الرفيع, ولا انتبهت لرحيله وكالات الأنباء العربية والدولية بالقدر الذي يوفيه قدره, ولا شعرت بغيابه الفضائيات السابحة في ملكوته المعلوماتي وتقاعست أن تلقي بقعة ضوء كاشفة على من فك طلاسم اللغة العربية أمام لوحات الحاسوب, معبداً طريق المعلوماتية العربية للولوج إلى الفضاء الحاسوبي, حتى أصبحت اللغة العربية بفضل جهوده العلمية تحتل مكانة أساسية على قائمة محركات البحث على الشبكة العنكبوتية.
بدأ نبيل علي حياته العملية ضابطاً مهندساً بسلاح الطيران المصري عقب تخرجه من كلية الهندسة تخصص هندسة الطيران في ستينيات القرن الماضي, وفي السبعينيات ترك الطيران وعمل باحثاً متفرغاً في بحوث ثقافة المعلومات والذكاء الاصطناعي وتطبيقاته على اللغة العربية , وكان أول عربي يُدخل الحرف العربي جهاز الحاسوب بعد نجاحه في تصميم برنامج للكتابة الحاسوبية باللغة العربية, وتعددت ابتكاراته في هذا المجال وصمم أكثر من 20 برنامجاً تربوياً وتعليمياً وكان صاحب أول محرك بحثي للغة العربية على أساس صرفي, وأول قاعدة بيانات معجمية وأول برنامج حاسوبي للقرآن الكريم وأول قاعدة بيانات للشعر العربي, كما أدخل نظام الحاسب الآلي في "مصر للطيران" العام 1972م وكان أول من أدخل نظام الحجز الآلي بشركات الطيران في المنطقة العربية وهو صاحب فكرة إنشاء مشروع "صخر للكمبيوتر " عام 1983م بالتعاون مع رجل الأعمال الكويتي "محمد الشارخ" حتى أٌطلق عليه لقب "الأب الروحي للبرمجة العربية".
سعى الدكتور نبيل علي إلى توسيع قاعدة البحث العلمي العربي بشكل يقوي موقف العرب على خارطة المعرفة وذلك بالإشراف العلمي على كثير من رسائل الدكتوراه والماجستير لباحثين مصريين وعرب في مجال " النمذجة المعلوماتية" و"الخصائص المعجمية النحوية للأفعال" و"اللسانيات الحاسوبية العربية" وكان رئيساً لجمعية هندسة اللغة ونشر العديد من المقالات العلمية وقدم الدراسات المتخصصة للمنظمات العربية والإقليمية المهتمة بالحاسوب والمعلومات.
عشق نبيل علي المعلوماتية ودرسها بعمق وفهم ومن ثم قدمها في مؤلفاته وأبحاثه بشكل يندر أن تجده لدى المهتمين بهذا المجال البعيد عن الخيال والإبداع مستفيداً من تكوينه الأولي, فقد كان في صدر شبابه فناناً تشكيلياً يستلهم جماليات الحروف على المستوى الهندسي ونلحظ في لوحاته ميلاً هندسياً في التشكيل الذي يعبر عنه بأسلوب النحت, وكان يشعر بجرس اللغة وموسيقاها الآسرة ونبضها الحي في تشكيل الهوية والثقافة العربية وكان لديه إحساس مرهف بالهم المعرفي الذي يقود للانحياز السياسي الرحيم والاقتصاد المعرفي الذي أسس للعرب فيه منهجاً عظيماً وجعله حريصاً على تعليم البسطاء ومتوسطي التعليم مبادئ وأسس علوم الحاسوب, حتى أن أغلب من كانوا يعملون ضمن فريقه التقني من حملة الدبلومات المتوسطة وأصبحوا الآن موظفين كبار في كبرى الشركات الدولية.
كان طموحه غير محدود في إنجاز مشروعات لأمته العربية على مستوى اللغة العربية للحاق بركب التكنولوجيا الحديثة , لذلك تشعبت قراءاته في مجال اللسانيات والجينوم البشري وعلوم الأحياء والجولوجيا , بجانب دراسته للجغرافيا والتاريخ والعلوم الإنسانية التي فتحت له آفاقاً كبيرة لتأسيس مشروعه الذي طالما حلم بتنفيذه لإنقاذ التعليم بمراحله المختلفة في مصر والبلاد العربية من خلال إعادة هيكلة المناهج التي تساعد على الابتكار واستيعاب لغة العصر.
حصد الراحل الكبير العديد من الجوائز والتكريمات من أوروبا وأميركا ومعظم الدول العربية منها جائزة "الإبداع في تقنية المعلومات" من مؤسسة الفكر العربي وجائزة أفضل كتاب ثقافي في مجال "تحديات عصر المعلومات" وجائزة أحسن كتاب في مجال الدراسات المستقبلية , وكان آخر جائزة حصل عليها جائزة الملك فيصل العالمية التي تسلمها من الملك سليمان بن عبد العزيز, ولكنه توفي وفي قلبه غصة لعدم حصوله على جائزة الدولة التقديرية من بلده مصر رغم رفعه اسمها في كافة المنصات والمحافل العلمية الدولية.
حمل الراحل على عاتقه مهمة أن ينطق الحاسوب باللغة العربية فجاء أول مؤلفاته في عام 1988م "اللغة العربية والحاسوب" وهو دراسة بحثية عن التهيئة والمعالجة الآلية بواسطة الحاسوب للغة العربية أسوة بما اتبع في اللغات الأخرى ولأجل تحقيق هذا الهدف استغرق الراحل سنين طويلة من عمره في الكشف عن دخائل البنية الدقيقة للغة العربية وتحديد خصائصها ذات المغزى من أجل معالجتها آلياً وهو أمر معقد احتاج منه جهداً ووقتاً للتعامل مع اللغة على اتساعها: فقهاً وتنظيراً وتأريخاً وتعليماً واستخداماً.
هذا الحلم فرض عليه أن يتحرك بين العموميات والشموليات أحياناً والتفصيلات والتفريعات أحياناً أخرى واقتحام كثير من المناطق التي لم يتطرق إليها أحد قبله أو إعادة طرح لكثير من المفاهيم السائدة التي تعد من قبيل المسلمات اللغوية في اللغة العربية , وكان عليه اتخاذ مواقف محددة تجاه كثير من النقاط التي مازالت محل نقاش وخلاف , حيث كان من المتعذر عليه عرض تصوراته فيما يخص المعالجة الآلية للجوانب المختلف عليها في اللغة العربية وهي كثيرة , وكانت كتبه هي المرجع الرئيسي في البرمجة العربية والدراسات المتعلقة بحقل اللسانيات الحاسوبية العربية وسط غابة من التشابكات التي تغطي منطقة التداخل بين منظومتي اللغة والحاسوب , ونجح نبيل علي أن ينتقي من اللغة العربية ما يهم من أمور يسهل معالجتها آلياً وينتقي من الحاسوب تلك الجوانب الفنية ذات الطبيعة اللغوية متحاشياً الدخول في التفاصيل الفنية الأخرى , حتى يتيح لنا في الأخير إمكانية البحث عن معنى كلمة أو إعراب جملة أو تصريف فعل بضغطة زر.
وعى الراحل العظيم منذ وقت مبكر أهمية أن يتحدث الحاسوب اللغة العربية بطلاقة, فعمل على استنهاض همة المتخصصين في هذا المجال ودعاهم لضرورة تنمية القدرات الذاتية وسد الفجوات الحضارية وامتصاص الصدمات المستقبلية وسعى لاختصار الطريق بوضع يده على العديد من القضايا المجتمعية المعلوماتية وكذلك المفاهيم المحورية والتوجهات الرئيسية لتكنولوجيا المعلومات بعيداً عن المصطلحات المقعرة ومتاهات التفاصيل, سعياً منه لبلورة رؤية عربية موحدة بشأن القضايا الخلافية التي تمتلئ بها منطقة التداخل بين منظومتي المعلومات والمجتمع والتي تحتاج إلى توسيع دائرة الحوار وتأجيل حدة الاختلاف بين وجهات النظر المتعارضة بحثاً عن مواضع التوازن بينها.
لم يكن الراحل بعيداً أو منعزلاً عن المشهد الثقافي المصري والعربي والعالمي, فبعد أن ألقى كتابه "العرب وعصر المعلومات 1994م" حجراً في البحيرة الراكدة حيث حركت دواماته وردود أفعاله فكر الكثيرين على مستوى العالم العربي منبهاً لخطورة ما يحيط بالعرب من تحديات , داعياً فيه لضرورة تأمل موقعنا الراهن على خريطة التقدم ثقافياً وحضارياً , وأبعاد الصراع الذي لا مفر من خوضه في عصر المعلوماتية , بادر نبيل علي لاستثمار معرفته النظرية وخبرته العلمية في الاشتباك مع هذه الثورة المعلوماتية مجدداً عتاده المعرفي ليضعنا أمام حقائق ويطرح تصوره للثقافة من منظور هندسي باعتبارها منظومة شاملة مكونة من منظومات فرعية تتناول الفكر الثقافي واللغة والتربية والإعلام والإبداع الفني والقيم والمعلومات .