[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/zohair.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]زهير ماجد [/author]
لي صديق احب الليل بكل نجومه فصار ليله نهاره ونهاره ليله..
يستيقظ عند السادسة مساء، وينام عند السادسة صباحا، يكتب خلال الليل ويقرأ ويأكل..
على سبيل المثال يبدأ فطوره عند يقظته ثم يقوم بترتيبات الصباح من حلاقة ذقن وحمام سريع يخرج بعدها الى اي مول مشهور حتى العاشرة مساء، ليعود بعدها الى بيته من اجل اتمام كتاباته باعتباره مثقفا كبيرا وكاتبا معروفا.
عندما أساله عن سبب هذا الانقلاب في أوقاته يقول لي على الفور " الجحيم هم الآخرون "..
تلك الجملة التي اطلقها الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر صارت مثله الآعلى، فصار بالتالي الناس هم المعنى المقصود..
ومع ذلك يفرح اذا ماجالسه احد اراد التعرف عليه نظرا لوحدته الدائمة..
لاشك ان العالم مليء بهذا الشبه، انه مقياس للهروب من الآخر، من الاحتكاك، به ثمة احساس عند هذا النوع من الناس ان الإنسان هو المشكلة التي لايجب ان يقترب منها.
لهذا الموقف تفسير عنده، ان هذا الآخر حشري بالطبع وغير حضاري ولا يمكن التفاهم معه لأنه غير مثقف بل أمي تماما ومغلق العقل الى آخر التسميات.
اقول له من باب الدعابة احيانا ومن نصبك حكما على البشر كي تقرر موقفا من هذا النوع..
واضيف القاضي لا ياخذ حكمه الا بعد ان يقرأ جيدا تفاصيل الدعوى ويستمع الى الشهود، ومن ثم فإن الحياة مليئة بالغث والسمين، فيرد على الفور: وهل امضي عمري بحثا عن هذا وذاك.
لهذا الصديق ستة كتب من تأليفه حتى الآن، ولشدة نهمه للقراءة فإنه يقرأ بطريقة سحرية لاتأخذ وقتا مهما كان حجم الكتاب.
في كل الاحوال المهم انه قاريء قديم منذ ان تعارفنا في بغداد في السبعينات من القرن الماضي..
منذ تلك الايام كان يقول لي انني ابني نفسي لأصير كاتبا..
وهكذا فعل، نظم قراءته على الطريقة المنهجية الاكاديمية، الى ان وصل الى ما أراد..
وتلك تحتاج لوقت طويل، ولصبر ليس بعده صبر، فأن تصير كاتبا يعني انك مررت بمراحل متعددة من القراءات التي يجب ان لاتتوقف..
لاشك ان التفكير بمشروع كاتب لايحصل بكبسة زر او بين ليلة وضحاها، هو مشروع العمر اذا فكرنا جيدا بأبعاده، اذ لايمكن لقراءة العناوين مثلا صناعة الكاتب..للكاتب صوته الخاص تماما كالشاعر الذي له صوته وأسلوبه..
استطيع مثلا التعرف على شعر محمود درويش حتى لو لم يضع توقيعه عليه..
كلما تقدم الكاتب في مهنة الكتابة ازداد خوفا من الخطأ..
ففي بداية تعاطيه الكتابة تكون مسؤولياته اقل، هكذا يشعر، وهكذا تقول ثقافته المبتدئة..
لكنه مع الوقت سوف ينحت الكلمات ويتمعن بها ويتأملها عن بعد وقرب..
لايعني ذلك ان يوقف الدفق الذي يتداعى من تفكيره، بل يهذبه ويشذبه.
واعود الى الصديق الذي اقاسي احيانا حتى اراه لأن وقتينا لاينسجمان، فأنا ككل البشر امارس ليلي ونهاري بشكل طبيعي.
ومع ذلك لا أرى شواذا في مذهبه وفي خياراته.
فلكل انسان حرية في اختيار مايحلو له وما يريحه، وان كنت لا اوافق على رأيه في الناس، مع علمي ان خيارات المرء في حياته قليلة جدا، وعدد الذين نصاحبهم قد لا يتعدى اصابع اليد الواحدة، واذا اردنا ان نطبق مفهوم الصداقة فقد لانجدها في حياتنا القصيرة، لان الصداقة فروسية قبل كل شيء، وصديقك من صدقك لا من صدقك كما يقول المثل، واذا كان قد قيل الصديق عند الضيق، فما أقلهم بل ما أندرهم في تلك الحالة.
ومع ذلك ثانية وثالثة لايمكن للمرء الذي ولد اجتماعيا بطبعه ان يتهرب من الآخر او يحكم عليه دون ان يحتك به.
محبة الناس جائزة ترضية كما يقال، ولان الانسان ولد كي يتناسل في آخرين، فإن مجرد وجود امرأة الى جانبه تشاركه حياته يعني انه اقترب من حقيقة كونه كائنا اجتماعيا قبل كل شيء..
واذا ماصار له ابناء، فيكون قد جلب لنفسه قوة حضور فكيف ان وصل به العمر ليكون له احفاد ايضا، تلك المهمة الاجمل، ان يكون قد كبر في السن ومع ذلك ثمة حفيد بمثابة ابن واكثر مازال في سن صغيرة فهذه نعمة سوف يحسد عليها..
ثم من قال له ان الطفل ليس رجلا، في رواية " الجحيم " يؤكد الكاتب ان الطفل هو ابو الرجل.
كلنا ابناء الحياة، هكذا بنى الزعيم الكوبي فيدل كاسترو شعبه، رغم الحصار الشديد الذي تعرضت له بلاده كوبا من قبل الولايات المتحدة، ظل شعبه الى جانبه بل واكثر، لأنه بنى الانسان داخل الانسان، وعرف كيف يصل الى هذا العمق وبأية طريقة، ربما بالمحبة، ربما بالتواضع، ربما بقراءة عقل الآخر وبماذا يفكر به..
اشياء عديدة تجعل من الزعيم متزعما بجدارة، وقابلا للسيطرة على الآخرين رغم كل الظروف الصعبة احيانا كما مرت به كوبا.
من النعم ان يتمكن هذا الزعيم وكل مسؤول عن شعبه ان يتحول الى محبوب من كل شعبه، ليس صعبا نيل رضا الناس، لكن الاصعب نيل رضى الجميع في عالم مفتوح الاتجاهات تنخره محطات التلفزة بكل كثافة اعلامها، منها المحرض بطريقة غير مباشرة، ومنها من يصب السم في الدسم، وبعضها لايصدق...
نحن كأبناء الشرق تبهرنا الموجات القادمة من الغرب فنتحول الى مقلدين.
لكن مايصلح لغيرنا قد لايصلح لنا، والعكس هو الصحيح..
لنا اخلاقنا وتربيتنا وعاداتنا ولنا سلوك لاشك اننا نفرد به..
قد يخطيء الانسان ان راح في ممارساته اكثر مما هو متفق عليه ومسيطر عليه في مجتمعه، اذ لا احد يحب ان يحترق لوحده ان هو تجاوز الحد المقبول اجتماعيا..
في مراحل متقدمة من العمر كأن يكون المرء قتى او شابا صغيرا قد تحكمه نظرة الاعجاب بما لدى الغرب فتراه يحاول التقليد واذا تمكن فقد يطالب به، لكن الزمن كفيل بأن يعيده الى الحقيقة الساطعة التي صنعت مجتمعه وواكبت اجيالا قبله وستواكب بعده..
فليس التحرر كما نعتقد فوضى، انه عملية ترتيب يجب ان لاتصل الى الأصول او ترفضها.
لقد نادى قاسم امين مثلا بتحرر المرأة، لكنه ظل ضمن الاصول الاجتماعية، مجرد تعليم الفتاة هو بحد ذاته اعتراف بأنها نصف المجتمع، مجرد عملها الى جانب الرجل يعني الوقوف في المكان الصح وممارساته بأحلى مايكون، مجرد ظهورها على التلفاز في برامج انتصار لمنطق المساواة..
واعود الى الصديق دائما، حتى اني احاوره عن بعد، احيانا عبر الهاتف، واحيانا من خلال معرفتي لتفكيره وافكاره، فهو يقطن في بلد غير بلدي، فكم من صحبة يجمعها جامع دون ترتيب.
حين هربت من الحرب الاهلية اللبنانية قاصدا العراق بحثا عن ملاذ آمن وكان ذاك البلد في قمة امنه واستقراره وكان الناس يعملون حيث لا بطالة تقريبا، واظن ان اجمل البيوت بنيت في ذلك الوقت، وكان رمزهم صدام حسين بكل ماقيل فيه وعنه.
تراني اجتمع بذاك الصديق الفلسطيني القادم من الكويت..
ليس بمقدور المرء ان يعرف احيانا اين يضعه مصيره، فنحن في عالم عربي متغير، ومتبدل، لايراد لنا ان نهنأ عيشا، او تستقر امورنا..
مجرد وجود اسرائيل يعني كل هذا واكثر.
فلا نحن بقابلين وجودها لأنها غريبة وقامت على العدوان واستمرت عليه، وتحمل ضد امتنا كل مايعكر صفوها وعيشها، بل تحمل افكارها العدوانية على مدار الساعة ضدها، وهي قامت على اغتصاب وطن كان يقيم فيه شعب عربي فلسطيني مازال يحلم بالعودة الى دياره ويعمد ذلك بدمه بطريقة او بأخرى.
اقول اذن ان الصدفة تجمع مالايجمع..
لعل مفهوم الزواج بحد ذاته من الصدف التي لاتخطر على بال..
لماذا يختار المرء هذه وليس تلك، ولماذا هي قبلت بهذا ولم تقبل بذاك..
ترتيب لانستطيع فلسفته سوى انها الصدفة كما قلنا..
وفيها بالتالي عبرة لمن اعتبر بأن ثمة ما يدخل على حياتنا مما لا نكون نفكر به كما كان يقول ميخائيل نعيمة، نشعر احيانا اننا مجبرون على سلوك معين كأن ينشد المرء الى فتاة بعينها، او الى رجل يختاره صديقا فيتحقق له استمرار طوال العمر، واحيانا تسقط الصداقة في اول الطريق او في منتصفه او لا تنجح نهائيا.
لكن الصدفة لاتكفي، اذا ما اعترفنا بان العقل مسير لها..
لاشك ان المجتمع تطورت مفاهيمه، لكنه لن يتخلص من عاداته وتقاليده، من المفترض ان لايكون التطور قفزا بل نموا متأنيا..
يجب ان لانحرق مانحن فيه بسرعة كي لانحترق نحن ويبقى هو على حاله..
الاشياء المتوارثة ثقيلة الحركة فيها جماليات مجتمعنا وانفاسه، وفيها من تاريخنا ما اصاب زمنه.
كلما تقدم المرء في العمر ردد كلام من سبقه بأن ماسبق كان اجمل من الحاضر، هكذا قال آباؤنا، وقبلهم اجدادنا، كل يرمي جماليات مجتمعه على ماسبق..
رغم تطورالحياة بمعنى العمران واللباس وغيره الا ان القيم الاجتماعية تظل صامدة بوجه الرياح القادمة من الخارج..
بكل اريحية الزمن الذي جمعني بذاك الصديق البعيد الذي كاد ان يمر مرور الكرام في حياتي والذي لولا الصدفة لما اجتمعت به، اظل احن الى وجوده، لأن مابيني وبينه من مودة كان خيارا عاقلا وليس مجرد صحبة تنتهي ما ان يفترق الاثنان.
والمودة هي الأبقى، لا تعتبر حياة المرء حياة سوية اذا لم يمارس ماهو مجبول فيه من قواعد سلوك مدروسة، تبدأ من احترام الذات وتنتهي عند ذاته ايضا..
فليس هنالك اعظم من ذات الانسان اذا ماتم بناؤها على قاعدة بسيطة لكنها مثمرة.
وفي النهاية تتوالد الاجيال، وكل جيل شعب جديد، لكنه مغروس فيه اسس قبل ان يبدأ مشواره الطويل او القصير.
والعمر في النهاية كما يقول احدهم قنطرة مابين أعمار وأعمار.