إن النظر إلى عتبات الديوان "انشغال الغيم" للشاعر أحمد بن محمد المعشني بإمعان سيوصلنا إلى احتمالات ظنية تسلط إَضاءة خافتة على التجربة الشعرية للشاعر، فالعنوان يتكون من مفردتين مسند ومسند إليه، فقد أسند الشاعر مفردة الغيم إلى انشغال، وانشغال صيغة مشتقة من انشغل / انفعل، وصيغة "انفعل".. أكثر الصيغ قربا إلى العامية في التذوق اللغوي، إلا أنها فصيحة، وزاد الشاعر على مبنى هذه الصيغة انفعل فأصبحت ( انفعال) أي انشغال وليس انشغل ومن المعروف أن أي زيادة في المبنى تدل على زيادة في المعنى، ومعنى انشغل في المعجم يأتي على تركيبين متضادين في الدلالة، الأول: انشغل به، والثاني انشغل عن، فالفعل انشغل ينشغل انشغالا، والمفعول منشغل به ويقال: انشغل بالُه أي: قلِق واعتراه همّ وفكر.
فانشغل بالشيء أي أصبح هذا الشيء همه واهتمامه، وانشغل عن الشيء: انصرف عنه وأهمله وتركه لاهتمامه بغيره، وأحسب أن المعشني أراد الانشغال الأول إذ لا معني (للانشغال عن) في هذا العنوان بل أن الانشغال به هو الذي يهيئنا له الشاعر من خلال إشارة العنوان الموحية، ومن خلال الإهداء، ومن خلال محتوى القصائد كما سنرى.
المفردة الثانية الغيم ويطالعنا الغيم في الديوان على مستويين المستوى الخارجي في الطبيعة وقد تمثل في كثير من قصائد الديوان مثل قصيدة ( انشغال الغيم، مدائن النور، فوضى نسايم، عرس المطر، نرجسية، ليلة مطر، نشاز، خلي المطر يحكي، وجه السحاب. بوح الثرى)، ولهذا المستوى دلالات الفرح بالغيث الذي يحيي الأرض، حيث أن الغيم يقوم بتغيير إيجابي ظاهري في الطبيعة خاصة في منطقة يرتكز جمالها واقتصادها على حضور الغيم كظفار الإقليم الذي ينتمي إليه الشاعر، لكن من الواضح أن الفعل الخارجي للغيم يعقبه دائما المطر الذي يغير الطبيعة ويجملها متجاوبا في فعله مع نفسية الشاعر محدثا بها التغيير أيضا:
(للمطر حس آخر غير سقي التراب
هكذا علمتني وحفظتني ظفار)
وسنلاحظ ان كل قصائد هذا المستوي مشتركة بين الحالتين الخارجية للطبيعة والداخلية للشاعر:
( هـ المسا حس المطر فرحة يتيم
للثرى يهمس برقة وانسجام
وانشغال الغيم في عبث النسيم
تستغله الشمس في رد السلام)
إن تكرار مفردة حس وربطها بالمطر في اكثر من قصيدة
وفي قصيدة عرس المطر تؤكد ذات الظاهرة المزج بين فعل المطر الخارجي وفعله الداخلي بالشاعر:
(المطر غطى تجاعيد الكهوف
ياترى من خوله ؟
والجبال تمد للغيم الكفوف
كنها متسولة)
هذا فعل خارجي ثم ينتقل الشاعر
آه ياكثر الحنين... اللي ملا وجه التراب
والمطر جرح وأنين... صاح في ظلم الغياب )ً ص 43
المستوى الثاني للغيم هو دلالة داخلية نفسية بحتة، تدل على أن الشاعر يمر نفسيا بحالة من الغيم الذي لايتبدد بل يخيم على سماوات الفرح داخله فيسبب التعتيم والهم والكدر والألم والجو المشحون بالحزن، وهذا نجده في غلبة مفردات مثل الفقد، اليتم، الاغتراب، الجرح، الظلم، الهم، ويخلق الشاعر من الغيم في هذا المستوى معادلا موضوعيا لحالته، فالغيم هنا ليس مطرا، بل هو الهم المتراكم على الشاعر، والشاعر هوالمنشغل بالشيء الذي فقده، الأمر الذي يسبب اِضْطِرابَ البالِ قَلَقاً وَهَمّاً وَحزنا.
من قصيدة نرجسية:
( خلف هذا الغيم فمي
وخمس أطفال ومدينه
وكل تفكيري وهمي
كيف توصلني يدينه )
رغم كل هموم الشاعر إلا ان تفكيره منحصر في فقد من يحب الذي أشار له بجملة المجاز ( كيف توصلني يدينه )
ومن قصيدة ليلة مطر
( ليلة مطر / برق ورعد / في خافقي / ليلة مطر / قبايل ذكريات أشواق / غزتني والجروح عتاق / وانت الحلم والمنفى / وبسمة جرحي الدامي / يداهمني حزن ظالم / يحاصر كل شيء فيني ) ص 51.
إن المطر هنا ليس المطر المتعارف عليه بل هوحالة نفسية من الحزن الذي يحاصر كل شيء في الشاعر، وقد أجاد بوصفه حزن ظالم. ( والمطر جرح وأنين / صاح في ظلم التراب )
ونلاحظ ان الشاعر في كلا المستويين يعاني من الفقد ففي المستوى الاول يخشى فقد الغيم الماطر الذي يبهج الأرض والنفس الانسانية، جالبا الفرح، لأن هذا الغيم المرتبط بالفرح مهدد بالفقد بعد زوال موسمه القصير ( الخريف ) ومن ثم زوال الفرح والجمال،وفي المستوى الثاني يخشى فقد شخص ما، شيئ ما،
وقد لخص الشاعر مأساة فقده في التجربة بقوله:
( شاعر كل عمره بين جرح وخصام ) ص 31
والخصام هو حالة الفقد التي اوضحت جملة (كل عمره ) انه خصام ممتد ممزوج بالجراح.
فإن أضفنا انشغال إلى الغيم على المستويين الخارجي والداخلي سنجد جملة ذات دلالة واضحة، بل وجدنا تركيبا شعريا يلقي بضوئه على محتوى الديوان لأن الغيم في حالة انشغال بالتغيير الخارجي الحاصل في الطبيعة، والانشغال بالتغيير الداخلي الحاصل في نفسية الشاعر، وهنا نجد أن اختيار العنوان جاء مدروسا بوعي. صحيح أنه عنوان قصيدة داخل الديوان لكن الشاعر تخيره لينسحب على التجربة الشعرية ككل انسحابا موفقا.
العتبة النصية الثانية التي تستوقفنا قبل الدخول النصي للمحتوى هي الإهداء الذي جاء مختصرا في جملة ناقصة ( إليهم أينما كانوا... ) ورغم غموض الدلالة المتجسدة في حيرة الضمائر وحيرة التساؤل: من هم هؤلاء ؟ وما الذي يهدى إليهم ؟؟ إلا أنه عنوان موحي باشعاعات دالة وكافية، وهو إهداء ينصب مباشرة على مفردة الفقد، فالشاعر يفتقد أحبة، وهم أينما كانوا فالشعر مهدى إليهم، وسنرى أن هذا الفقد هو مرتكز التجربة الأساسي وهو المسبب لتداعيات الحزن والألم والجرح والغربة، والسبب الرئيسي لانشغال الغيم ( الشاعر ) واحساسه بالملل الوجودي الذي لخصه في قصيدة عنوانها ملل، وقد أحسن صنعا حين وضعها في ختام الديوان كأنه يلخص رؤيته الشعرية،قائلا: ختاما الحياة ملل، وهذا الملل هو سبب الغيم الجاثم على النفس:
( ملل أكتب بلا خاطر
وأخون الشعر والشاعر
مديح وغزل وسوالف
تضيق بروح قايلها ) ص 156
يتكون الديوان من 59 قصيدة في مختلف الأغراض الشعرية، لكن القصيدة العمودية لها الغلبة إذ بلغت 34 قصيدة مع ما تقارب منها في الشكل البنائي واختلف في قوافي المقاطع.
وهذه القصائد ال (34) تسير وفقا لقاعدة الشعر النبطي إذ تشتمل القصيدة على قافبتين مختلفتين ينتهي بها كل شطر ويلتزم بها الشاعر التزاما تاما، وباقي القصائد جاءت على التفعيلة أو ما شابهها من القصائد ذات التنويع في القوافي, والتوحيد في التفاعيل أحيانا، وإذا أعملنا النظر في القصائد العمودية النبطية نجد الشاعر يحاول أن يتقمص روح البداوة التي اتخذت من هذا الشعر نمطا معروفا، لكن نظرا لثقافة الشاعر المعاصر واختلاف بيئته الحضرية الريفية، واختلاف عوالمه الإبداعية، اتسع معجمه واختلفت مفرداته ولغته و صوره ورؤيته عن أصول القصيد النبطي، فإذا عملنا قراءة مقارنة بين القصيدتين النبطية العمودية، والقصيدة العامية التفعيلية لدى المعشني سنجد أن أبرز الفروق بينهما تتمثل في الجوانب التالية: أولا البناء: من المعروف سلفا أن بنائية القصيدة العمودية تقوم على توازن الشطرين ايقاعيا وتفعيليا، فالوحدات الايقاعية واحدة في كلا الشطرين وكل شطر يحتفظ بقافية يلتزم بها الشاعر طول بنائية النص، أما بناء النص التفعيلي فهو قائم على اختلاف عدد الوحدات التفعيلية في الاشطر، وعدم الالتزام بوحدة القوافي، ورغم قلة النصوص التفعيلية في الديوان إلا أن توجه الشاعر إليها يبدو قويا، وهنا نستطيع أن نقول بأن الشاعر قد ضاق بالقيود الصارمة التي تفرضها القصيدة النبطية الكلاسيكية، باحثا التعبير عن ذاته في حرية تليق بشعريته،لذا توجه توجها مغايرا عما اعتاد عليه.
ثانيا اللغة: في القصيدة العمودية تهتم اللغة بالبلاغة الفخمة والتراكيب البيانية الناصعة التي تستقطب اعجاب المستمع وتجعل التجاوب بين الشاعر المنبري وبين الجمهور المعتاد على التلقي السمعي مدهشا لتنتزع منه كلمات الاستحسان، وهي قصيدة ذات جرس موسيقي عال ينبع من التزام الوزن المنتظم الايقاع تماما ومن رنين القافيتين الملتزمتين طول القصيدة،
أما في قصيدة التفعيلة فنجد لدى الشاعر تلك اللغة البسيطة الرقراقة المنسابة بدون تشنج وبدون ضجيج ايقاعي، هي لغة ذاتية هامسة ناعمة هادئة تعبر عن ما بداخل الشاعر من أوجاع دفينة وأنين خافت الصوت، يتضح في التراكيب البسيطة القصيرة، وفي القافية المتنوعة المتغيرة التي يغيب عنها الضجيج والجرس العالي للموسيقى، وفي المفردات والتراكيب الهامسة، من قصيدة هذا جرحي سنلاحظ التمرد على بنائية النص النبطي واستبدالها بقصيدة تفعيلية سردية، ويتضح بالنص تخلص الشاعر من القوافي الصارمة والميل إلى لغة منخفضة النبر ايقاعا ومفردات وأساليب.
( هذا جرحي / ذاكرة عمر المدينة / سوالف الليل وانينه / ما نسى شيء من قديمه / الأسامي... والشوارع / والشبابيك الحزينه / وليلة الفرقا ووعدك / وعدك الذابح سجينة ) ص 39
هذه السمات الفنية سنجدها في كل نصوص التفعيلة انظر نص فيني حنين ( فيني حنين / وشعور كله عاطفه / مدري لمين / هذي المشاعر نازفه / بس المهم والمختصر في السالفة / هذا المساء كلي على بعضي حنين ص 101
ثالثا الصورة:
نجد أن صور القصائد العمودية جزئية بيانية في إطار التشبيه والاستعارة والكناية والمجاز، وهي صور جميلة وجديدة تحمل خصوصية الشاعر المعشني، لكنها تنتهي بانتهاء البيت الشعري عادة، حيث الحرص على اقتناص صورة عجيبة مدهشة لتمثل وحدة البيت كما هو في الموروث العربي، وعادة ما تكون هذه الصور ذات التقاطات خارجية من محيط الشاعر مثل:
لوعيوني سيل من شوق ونظر...
خلي قلبك أرض وتركني أسيل
وقوله:
من جمَّل الشمس غير الظل وعيونك
من هذب الريح غير إحساسك الراقي؟
لو قلت لك روح صحي الليل بجفونك
لا تلتفت لي عجب أو باكشف الباقي
هذه صور راقية وجميلة وسنلاحظ أن جل عناصرها خارجية ملتقطة من الطبيعة حوله: الشمس/ عيونك، الريح / جفونك / ارض / سيل ) هي صور جميلة لالتقاطات خارجية، لاتنم عن معاناة الشاعر النفسية، بل ان الشاعر لم يوظفها للتعبير عن مكنوناته ووقف بها عند جمالية الامتاع الفني للتشبيه والاستعارة.
أما الصورة في قصيدة التفعيلة فهي صورة نفسية تلتقط أغلب عناصرها من ( جوانية ) الشاعر لذا هي صور معبرة عن حالة الذات الشاعرة المتوهجة بما تحمله من تناقضات وشجن وألم واغتراب وأحزان وفقد، وهي عكس الصورة السابقة، فهي صورة ممتدة لاتقف عند بيت واحد أو اثنين، فقد تمتد امتدادا طوليا على مدار عدة أشطر، وقد تمتد لتتحول لصورة كلية تستقطب القصيدة منذ أول شطر فيها إلى نهايتها، وطبعا تبرز هنا ظاهرة ( التدوير ) بشكل واضح حيث تطغى السردية أحيانا فنجد الحوار والشخصيات والمكان والزمان والحدث عناصر متكاملة للقص كما في قصيدة ( عرس المطر )45
( إيه أذكر قبل عام... / جيت في ليلة شتا / شاعر عاشق حزين / ممتلي جوفي غرام / وبين همسي والسكون / وتمتة برد الشجون / صاح في وجهي غريب / ايه... ايه ؟ وين ي العاشق تهيم ؟ برد... والشارع خلي / والليالي ماتحفز للسهر والانعتاق ) هذه حالة شعورية جسّدها الشاعر في صورة ممتدة جميلة، وهي أقرب للقص بكل عناصره.
ومثل هذه قصيدة ليلة مطر ( زحمه وناس / ماهم بناس / تراب وأحجار وسما / بس مو وطن / غربه وأنا بداري غريب) ص52.
واضح تجسيد الفقد واغتراب الذات وهي بين أهليها ومحبيها، وهو في هذا يجسد فلسفة ابي حيان التوحيدي في كتابه الإشارات الإلهية ( هذا غريب لم يتزحزح عن مسقط رأسه، ولم يتزعزع عن مهب أنفاسه، وأغرب الغرباء من صار غريبا في وطنه، وأبعد البعداء من كان بعيدا في محل قربه، الغريب من إن حضر كان غائبا، وإن غاب كان حاضرا )
وهذا هو أقسى أنواع الاغتراب لأنه اغتراب الوعي وهو سبب مباشر من أسباب الفقد.
ومثل القصيدة السابقة، قصيدة نرجسية ص48،وقصيدة شباك المنافي ص 65، وفي مثل هذه القصائد نحصل على صورة متكاملة لما يعتمل في نفس الشاعر، وهي صورة بشكل عام بعيدة عن البيان بتفرعاته المختلفة، أنظر قصيدة حبيبتي ( هذي البيوت / كانت أمان / كانت تشع انوارها / ياطيب ظل أسوارها / وانا الوله والاشتياق / اللي زعج جدرانها ) ص 88
هنا الصورة لم تكتمل من الشطر الاول ولا الثالث بل امتدت لنهاية المقطع ليمنحنا الشاعر هذه الالتقاطة الجميلة الدالة المحملة بالشجن.
وكذلك قصيدة (عرس المطر) حيث رسم لنا الشاعر صورة كلية يتحرر فيها الشاعر من كل قيد ويتدفق في رسم المشهد حتى تكتمل الصورة باكتمال القصيدة. والجميل أن هذا العرس يعزف على مستويين متضادين، ليربط المستوى الاول الخارجي (عرس الطبيعة) بالمستوى الثاني النفسي كأن حزن النفس مضادا لعرس الطبيعة وفرحها.
الظواهر الفنية في الديوان:
تجتاح الديوان ظواهر فنية جدير بنا ان نقف عند ابرزها:
من حيث الأساليب واللغة نجد ظاهرة تكرار بعض الاساليب لدرجة واضحة ومملة احيانا مما يحيلنا الى امرين اما ان التكرار يعني تثبيت الدلالة والتاكيد عليها كما في تكرار مفردة الجرح والجراح، اذ ازعم انه لاتخلو قصيدة في الديوان من هذه المفردة واحيانا يكررها الشاعر في القصيدة الواحدة في أكثر من موقع وأكثر من اشتقاق.
ومثل مفردة حزن، ألم، فقد، أنين، حنين، ومفردة غريب غربة اغتراب، ومن هذي المفردات قبايل، وقوافل ( قبايل ذكريات اشواق / واحمل جروحي قبايل / هذا الوفا ياكيف جرحه قبايل )، ( وتاهت قافله من وراه / وقوافل آهات روحي باعماق وجدي تنوح / في عيوني قوافل ليل غافي )
وهناك تكرار أسوء هو التكرار على مستوى التراكيب مثل: اسراف الشاعر في استخدام تركيب أول وآخر:
( اول تضاريس حبك / آخر الارض قربك / واصل آخر مداه/ وساحل آخر جنوبه / لين آخر مرحلة / أنا من جيت من آخر حدودي / وفي آخر هدب غافل بكاها / من صباح الخير لاخر وجه خير / من أول خطوتك لآخر حدود الطيب )
هذا التكرار يدل أحيانا على فقر المفردات وفقر التراكيب مع ان معجم الشاعر غني، بل بالغ الثراء.
ظاهرة التماس بالتراث:
نستطيع أن نقول في هذا الديوان تماس مع التراث فالمعشني له التقاطات من التراث لكنه وقف عند الالتقاط الشكلي الظاهري، بمعنى انه لم يوظف الشخصية التراثية في بنائية النص، ولم يدمجها مع هموم الذات، لترجمة الأثر النفسي الذي انعكس من خصائص الشخصية الموظفة، انظر على سبيل المثال توظيفه لشخصية زرياب:
خلف اغنيات الليل وآثار ركبك
(زرياب ) شوقي ريشته من جفوني
هنا لم يأخذ الشاعر من زرياب سوى الوصف الخارجي المتمثل في الأغنيات والريشة، وجاء التوظيف متكلفا، لاجمالية فيه، ومثل هذا قوله:
حكاية من قصص ( ليلى ) عبث فيها شقي جارح
صحا في ركن متناثر وجرّ الريح هذيانه
فلم يوظف الشاعر هنا الا اسم ليلى، ولم يوضح من هي ليلى معتمدا على شهرة حكاياتها مع المجنون، ومثلها قوله:
اذا بتراب ( غرناطة ) بقى حافر مهر ( طارق )
هنا من الواضح أنه يحيلنا إلى فتح طارق بن زياد لكنه لم ينم الصورة، ووقف عند حدود الإشارة الخاطفة لاسم غرناطه وطارق، لذا لانستطيع ان نسمي هذا توظيفا للتراث، بل هو مجرد تماس خفيف لشخصيات وأمكنة من التراث، أقرب إلى الاستعراض لمخزون ثقافة الشاعر فقط.
جدة الصور والابتكار:
يلتقط المعشني صورة من مخيلة ذهبية يقظة، وهو لايرضى بالصور السهلة الملقاة على قارعة الطريق، بل لايرضى بالصور التي استهلكها غيره، ويعرف أن الصورة الجديدة هي معيار الشعرية لدى الشاعر، فمن هذه الناحية نقر بأن أحمد المعشني شاعر متميز وصاحب بصمة خاصة تؤهله لارتقاء مجد الموهبة الشعرية، ففي الديوان كثير من الصور الجديدة بل المدهشة، وقد مر علينا كثير منها سابقا، وفي ص 27 يقول لمن ارادته حبيبا:
باكر إذا ما أوفيت في حُسن أملك
موقد عتب هـ الارض فيني تشبه
ومثل صورته المدهشة التي تجسد الفقد والاغتراب الحاد، في ص 54
هذا الطريق من اوله لين آخره
فاضي وأنا وحدي وأشعر بالزحام
ومن صوره المبتكرة، ص 115
لو عيوني سيل من شوق ونظر
خلي قلبك أرض وتركني أسيل
لكن نتيجة لرغبة الشاعر الملحة في اقتناص صورة مدهشة وفريدة يبالغ أحيانا في تركيب عناصر متنافرة بمعنى ان اجزاء الصورة التي ركبها غير متسقة او متكلفة او هناك ما يعكر جمالياتها مثل:
نورك طغى والليل في عش عصفور
كلما تنهد ضاع في نجم وشهاب
هنا الصورة تكاد عناصرها تتفلت من يد الشاعر لم يستطع الشاعر ان ينميها أو يكون صورة متسقة النسيج.
ومثلها قوله في ص 117
في عيونك كل مافيني حضر...
ولا نشدتك عن كريمك والبخيل
هنا العجز منبت الصلة بالدلالة السابقة في الصدر، وهكذا تجبر القافية الملتزمة مرتين في البيت، الشاعر إلى تكلف صور ضعيفة أحيانا، وأحيانا متنافرة العناصرغيرمتسقة فيما بينها.
لكن من الجيد ان الشاعر في طريقه للتخلص من امثال هذه التراكيب والصور خاصة كونها تشيع في القصيدة العمودية القائمة على البحث عن الصورة البيانية ذات البلاغة اللغوية المعجزة، وتكاد هذه الصور المتكلفة تقل بل تنعدم في القصيدة المتحررة من سطوة البيت الواحد إذا يستريح الشاعر هنا ويستعيض عن تلك الصور، بالصورة الممتدة أو الكلية في القصيدة ذات النفس السردي كما قلت سابقا، مثل ( خلي المطر يحكي / فيني معاه أبكي / محتاج قلبي صمت / وغياب عن كلي / الليلة ياهمي)
القوافي المتكلفة:
هذا أحد عيوب القافية في الشعرالعمودي الملتزم بقافية موحدة حيث تضيق الدلالة امام القافية التي لاتناسب ما يشعر به الشاعر، فيضطر أن يسد الفجوة بأي كلمة من نفس الروي فقط لانه ملتزم بها طوال القصيدة.. وهو بهذا كمن يلقم البيت حجرا غير متسق مع المادة الخام المستعملة في البناء ككل، الأمر الذي يجعل القارئ يشعر بخفوت جمالية الفن، ويظهر هذا العيب لدى احمد المعشني في القصيدة العمودية النبطية التي لاتقيدها قافية آخر البيت بل تقيد بقافيتين اشبه بالبيت المصرع في الفصحي الذي يفتتح به القصائد فقط لمزيد من الربط النغمي للمستمع، في القصيدة النبطية يضطر الشاعر إلى التقيد بقافيتين طوال القصيدة، كأن الشاعر قد ألزم نفسه بلزوم مالا يلزم، وهذا ارهاق لامبرر له إلا انه موروث، وهو قد يأتي في كثير من الأحيان على حساب الفن الشعري، وعند استخدام تلك القوافي نشعر بعدم مناسبتها للمعني واضطرار الشاعر لوضع هذه الكلمة لأنه لابدائل لديه ولا خيارات أمامه: ففي ص 58 نجد هذا البيت:
وأعتقد لا ابالغ لو ركبت السميح
غلطة الصبح إنه مستعيرك جناح
ولا أجد معنى للسميح إلا كونها متسقة مع قافية مثل نصيح فصيح مريح.... الخ
وقوله في ص96
ظلل شجوني بفي حسك وأهدابك
ماهو عشاني مجرد أستفز صيفي
ايضا صيفي هنا مجرد تناغم مع ريفي، طيفي، سيفي... الخ
وهي قوافي اقل مايقال فيها انها متكلفة قلقة ليست في مكانها المناسب.
الخلاصة:
قدم لنا المعشني في ديوانه تجربته الذاتية مجسدا معاناة الإنسان المعاصر وأزماته المتمثلة في الفقد والاغتراب والقلق والملل الوجودي، وقدم لنا شعرا صافيا وفنا متميزا وإبداعا خالدا لما فيه من نبض إنساني مشترك، ومن تجديد وخلق وابتكار يليق بصاحبه أن يواصل هذا العطاء الإنساني المتميز.

د. سعيدة بنت خاطر الفارسية