يقف المسلمون من جميع أصقاع وبقاع الأرض، ويأتون من كل حدب وصوب، وبكل لغات العالم، وتعدد أطيافهم، وثقافاتهم، وجنسياتهم، وألوانهم ، يوم التاسع من ذي الحجة المبارك، يوم عرفة، يوم الحج الأكبر ، الذي جعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم- بمثابة كل مراحل الحج، وضمَّنه كل شعائره ، حيث قال :" الحج عرفة"، نعم، الحج هو عرفة ؛ بسبب ما يتحمله هذا اليوم الكريم من دلالاتٍ ومعانٍ وقيمٍ وأخلاقياتٍ تبيِّن جمال الإسلام، وجلال تشريعاته، حيث حصر الرسول الكريم- صلى الله عليه وسلم- كلَّأعمال الحج بكلِّ مناسكه ووقفاته ونسكه في وقفة عرفة ، وهي ( الحج عرفة) جملة اسمية ، تحمل الثبوت والدوام، فهذا الحُكْم باقٍ ليوم عرفة ما بقيت في الأرض حياة، وما عاش مسلم يأتي عليه زمانُ الحج، بمعنى أن الذي لم يتمكن من الوصول إلى عرفة حتى انتهى فجر ذلك اليوم، فلا حج له ، وعليه أن يعود من قابل لإدراك وقفة عرفات بكل معانيها وجلالها وكمالها، نعم، إنَّ الحاج يعود بعد وقفة عرفة ،وانتهاء أعمال الحج كيوم ولدته أمه: أبيض الصحائف ، لم يعد عليه ذنوب مسجلة في صحيفته، فقد محاها الحج المبرور، وغسل أدرانَ صاحبها،وطهَّره وطهَّر فؤاده، وأعاده إنسانا آخر ، كأن لم يرتكب ذنبا طيلة حياته، ولوقفة عرفات عددٌ من الدلالات، نتوقف عند بعضها ، مما سمحت به الذاكرة، واستوعبه الذهن، وجادت به القريحة، من ذلك :*أن هذا الجمع الكبير الذي ليس له مثيل في الأرض كل الأرض،وهذا المؤتمر الكوني الواسع الذي استوعب مجموع البشر: بأشكالهم، وألوانهم، ولغاتهم، وجنسياتهم، وشرائحهم، وثقافاتهم - يجتمعون على صعيد عرفات في وقت واحد ، ومكان واحد ، من مطلع شمس عرفة ، حتى غروبها ، دون أن يَحدُث منهم جدال، أو نزاع ، أو خصام، أو احتراب، أو معارك، أو شجار، أو خلاف، أو ضجيج ، تراهم، وهم إخوة متحابون ، وهم متعاونون، وهم متسامحون، وهم مبتسمون،وهم متعارفون ، وهم متماسكون ، يخاف بعضهم على بعض ، ويعين بعضهم بعضا، ويدعو بعضهم لبعض ، ففي ذلك دلالة على أنهم أكثر الناس حرصا على التعايش الكريم ، والتآخي الفريد ، وأن ضيق المساحة ليس سببا في عدم التعايش ، وليس سبيلا إلى التناحر، والتخاصم، وهذا يجعلهم ينقلون هذا الشعور معهم في بلدانهم، ولا يسمحون بتشرذم ، ولا تدابر ، ولا تخاصم ، ولا تناحر، فقد تعلموا كيف يحسنون التعايش والوئام ، وهم ملايين ، وفي مكان محدود ، فلا يجوز أن يتفرق أبناء المجتمع الواحد، ولا أن يتخاصم المجتمع بشرائحه المختلفة ، تحت أيِّ سبب ، أو مسمًّى أو زعم ما ، وقفوا هناك فلا فارق بين غني وفقير، ووزير وخفير، وعالم وجاهل، وأبيض وأسود، وقوي وضعيف، كلهم سواسية :" الناس سواسية كأسنان المشط ، كلهم لآدم، وآدم من تراب، لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى" ، فيجب أن يظل هذا الشعور الذي جمعهم على الصعيد الطاهر ملازما لهم في أوطانهم وبلدانهم ومع أسرهم وذويهم، حقا، إنها دلالة قوية على وجوب ترك النعرات القبلية والمذهبية والإثنية والعرقية والطائفية، والمناطقية ، التي نراها تظهر بين الفينة والأخرى، تكاد تعصف بالمجتمعات ، وتقضُّ مضاجع أهلها ، وتحطم أركان البيوت والأمم، ولابد من الانصهار في جسد واحد ، يرشح بالحب والأخوة ، والتقوى والخشية من الله، قال - تعالى-:" فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج"، نفْيٌ قاطع جامع مانع ، يدفع بالمسلمين إلى تقوية روابط الأخوة ، وتمتين أواصر المحبة في بلدانهم، كما تعلموها من صعيد عرفات الطاهر، فلا تنازع ولا تحارب ، ولا تعارك، لا بين أبناء البلد الواحد ، ولا بين أبناء جميع البلدان الإسلامية.* ومن دلالات عرفات كذلك أن هذا العدد الهائل الذي يصل في تقديراته إلى الملايين، وهم في بقعة محدودة يجعلنا نتأمل : كيف أحسنوا هؤلاء التعايش والتراحم كل تلك الساعات، إنه يدل على أن المسلم يمكنه أن يتعايش مع غيره ، ولو في مساحة مكانية ضيقة ومحدودة في إحداثياتها ، دون أن يتسبب ذلك في عراك على الطعام أو الشراب، ودون أن يتسبب في جدال أو خصام، بل نرى الجميع منغمسا في طاعته ، مشغولا بعبادة ربه: ما بين تسبيح وتحميد ، وتهليل وتكبير، وتلبية وتلاوة للقرآن الكريم ، فهذه الدلالة تعلِّمنا معنى التوحد ، وجلال الأخوة ، وأن يسع بعضنا بعضا ، وإن ضاق بنا المكان، إنها روح الإسلام العظيم الذي علَّم أهله قمة التعايش ، والتسامح والتآخي، حيث حوَّل الأخوة من كلام نظري إلى واقع عملي ملموس ، وسلوك حضاري معيش.* ومن دلالات هذا الموقف الجليل أن الجميع يرتدي ثوبا واحدا من قطعتين: رداء، وإزار، لا يتكبَّر أحد على أحد، ولا يستعلي غني على فقير، الجميع في لباس الإحرام الجميل المَهيب، وتجمعهم الوحدة الإسلامية ، حيث ترى ثيابا واحدة ، وتنقلات واحدة بتلبيات واحدة، ومناسك مرتبة منظمة واحدة ، يتوجهون إلى رب واحد، ويستنون برسول واحد ، ومُتَّجههم واحد ، وذكْرهم واحد، ومشاعرهم في شعائرهم واحدة، فيهم جلال الوحدة، ونبل المساواة ، وجليل التكافل الاجتماعي، وصلواتهم واحدة : جمعا وقصرا، فهذا من أعظم دلالات وقفة عرفات؛ حتى يتدربوا لأن يعيشوا في أوطانهم متوحدين متآخين متحابين متكافلين مع ذويهم ومجتمعاتهم: المصغرة والمكبرة، إنه لا يوجد مثل هذا المؤتمر الكونيالعالمي مطلقا إلا عند المسلمين، وفي صعيد عرفات الطاهر، فهذا اليوم يباهي الله ملائكته بالحجيج الذين يقفون بمثل تلك الصفات طوال النهار، وبعض الليل ، وكثير من العلماء يلتقون ببعضهم ويتدارسون في مستقبل شعوبهم ، إن التاريخ كله، والكون كله يشهد جمال الإسلام وتوحيده لأهله، ويتذوق المسلم طعم قوله - تعالى- :" وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون".لابدمن عودة إلى روح الوحدة، وجلال الأخوة ، ونبل التسامح الذي تُمليه وقفة عرفات المباركة.* كما تدل هذه الوقفة كذلك على يوم البعث والنشور، يوم الحشر الأعظم، يوم العرض على الله- عز وجل-، حيث يجتمع ملايين البشر، وكلهم يجأر بالخلاص والتوبة، ويرفع صوته بالمغفرة والعفو ، وأن يرفع الله عنه ابتلاءاته، ويتجاوز عن سيئاته ، وأن يُقيل عثراته، ويمحو عيوبه وذنوبه وهفواته، وأن يستر عيوبه، وتراه يدعوه بدعاء خاشع جامع مانع وقلب صادق: أن يكتبه في المقبولين ، ويسلكه في عداد المخلصين الذين رجعوا إلى ديارهم كما ولدتهم أمهاتهم : بيض الصحائف، أطهار القلوب ، نقيِّي الأفئدة ، لهم في الحياة تصور جديد، كله ممتلئ بالنقاء والصفاء ، وحسن الطاعة لله ، وجلال الولاء.نتذكر ونحن واقفون جميعا ننتظر غروب الشمس والفيضان من البشر أمامنا ، ومهما رميتَ بالبصر وجدت أعداد البشر، كلهم يدعو ويرفع أكف الضراعة : أن يقبله الله في هذه اللحظات المباركة ، ومنهم من يبكي، ومن تحرق الدمعة عينيه ، ومن دخل في مناجاة وتبتل ، وكلهم يجأرون لربهم ، عندها تتذكر تماما يوم الحشر والجميع تشرئِبُّ منه الأعناق ، وتمتد اليدان بالدعاء: أن يغيثهم من هول ذلك اليوم ، وأن يصرفهم برحمته، إلى ظلال جنته،بعد أن غسل حوبتهم، وفرَّج بفضله كربتهم.*ومن دلالات عرفات تلك دلالة المقصودة بلفظ عرفة أو عرفات نفسه ، وأن يحققوها فيما بينهم، فيتعارفون فيما بينهم، وتتقارب قلوبهم، وتلتحم أفئدتهم، ويتقوون ببعضهم ، ويتعاونون ، يتعارفون تحقيقا لقوله - تعالى-:" يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم"،كما يتعاونون على المعرفة بأن يعلِّم عالمُهم جاهلَهم، ويتدارسون العلم والمعرفة كما كان مع سيدنا جبريل - عليه السلام- عندما كان يطوف بسيدنا إبراهيم - عليه السلام- ، ويريه المناسك والمشاهد ، ويعلمه، وهو يقول له:" أعرفت أعرفت"؟ فيرد :" نعم، عرفت عرفت"،يعلِّم بعضُنا بعضا ، ويبصر بعضُنا بعضا ، ويصبر أحدُنا على تعليم أخيه ، حتى تأتي طاعاتنا صحيحة سليمة فتكونَ أقرب إلى القبول والرضا، وكما يلتقي الرجالُ بالرجال في التعلم ، كذلك تلتقي النساء بالنساء، فتعلم إحداهما الأخرى ، وتتقرب من أختها ، وتعرِّفها ، وتبصِّرها فتلقي القلوب ، وتتحاب الأفئدة ، كما حدث مع سيدنا آدم عندما أهبط من الجنة ، هو وحواء في ذلك المكان ، التقيا فعرف بعضُهم بعضا ، عرَفها وعرَفته ، وأطاعا ربهما - جل جلاله- ، فلابد من إفساح مجال التعارف والتعلم والمعرفة لنحقق مدلول عرفة، كل ذلك وفق القرآن الكريم والسنة المطهرة.*كما أن من دلالات عرفة التصميم والعزم والدقة في المواعيد وفي الأماكن وفي كل المواقف ، فعرفة يبدأ بطلوع الشمس ، ويمضي الحجاج مع غروبها ، لا يشذ منهم أحد عن ذلك ، ويأخذون أنفسهم بالقوة والحزم، فيتعلمون فضيلة الالتزام في بقية أعمالهم، وأعمارهم، وكل شؤونهم ، فلا تساهل في أداء الواجب، ولا استهتار في عمل المطلوب والواجب مطلقا ، كما في بقية الفرائض كالصلاة مثلا التي يقول الله- تعالى- فيها:" إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا"، فكل شرائع الدين ، وخصوصا عرفات تعلِّمنا معنى الانضباط مع النفس ، ومع الناس ، ومع الله ، وأن نكون رجالا صادقين ، ونساء صوادق، وبقي أن نشير أخيرا إلى صيام يوم عرفات يكون أو يشرع لغير الحاج ؛ لانشغال الحاج بأعمال الحج ، وتحمُّله ، وجهاده ، وعطشه، فالمسلم غير الحاج يصوم ليعيش مع إخوانه من الحجيج جهادهم وصبرهم وجلادهم واحتمالهم للشمس والحر والعطش والتنقل والذكر والعبادة ، واستنشاق غبار المشي في صعيد عرفات، والرسول الكريم علَّمنا أن صيام عرفة يكفر سنتين: السنة الماضية والسنة الباقية ، كما روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي قتادة - رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- سئل عن صوم يوم عرفة ، فقال:" يكفر السنة الماضية والسنة الباقية"، وشرع لنا صيامه فهو أفضل أيام الدنيا ، بل يستحب صيام الأيام العشر كلها كما قال الإمام النووي- رحمه الله- :" صيام أيام العشر مستحبٌّ استحبابا شديدا" عرفة هو اليوم الذي ختم الله فيه جمال الإسلام وجلاله ، وأنه الدين المرتضى والكامل والمتمم بقوله -عز وجل-:" اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا".اللهم تقبل منا واقبلنا ، واغفر لنا وسامحنا ، وأَعِدِ الحجاج إلى ديارهم سالمين غانمين ، وارزقنا وإياهم العود الحميد إلى بيتك العتيق، مرارا وتكرارا: حَجًّا واعتمارا، وكل عام وأنتم بخير ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.د جمال عبد العزيز أحمدجامعة القاهرة- كلية دار العلومجمهورية مصر العربية[email protected]