حصيلة مسوحات ومكتشفات أثرية في السلطنة أجريت على مدى أكثر من ربع قرن

مسقط ـ (العمانية):
لا يبدو كتاب "في ظلال الأسلاف .. مرتكزات الحضارة العربية القديمة في عُمان" للمؤلفين سيرج كلوزيو وموريسيو توزي مجرد كتاب عابر يلقي الضوء على المكتشفات الأثرية العمانية عبر الحقب التاريخية، بل هو كتاب أثمن من ذلك بكثير، كتاب يستعيد الأسلاف من النفس الأول لهم في عُمان إلى أن أصبحت عُمان حضارة لها مرتكزاتها ودورها في الحضارة العربية والإسلامية الأم.ولا يمكن أن يتعرف أي قارئ أو أي مُحب لتاريخ عُمان الأثري بكل تجلياته دون أن يقرأ هذا الكتاب الواقع في أحد عشر فصلا ًوالذي أصدرته وزارة التراث والثقافة. يعد الكتاب حصيلة مسوحات ومكتشفات أثرية في السلطنة أجريت على مدى أكثر من ربع قرن ويضم بين غلافيه نتائج المسوحات الأثرية التوثيقية للمواقع والشواهد الأثرية والدراسات العلمية الناتجة عن التنقيبات الأثرية التي أجريت في مواسم منتظمة في مختلف مناطق السلطنة مع التركيز على محافظة الشرقية بصورة خاصة.والكتاب بهذا المعنى يمكن اعتباره قصة للحضارات التي تعاقبت على المنطقة بكل تراثها الحافل ثقافياً والذي ساهم في التبادل والتلاقي مع مراكز الحضارات القديمة المجاورة. وهو يحمل أيضا بين طياته إجابات عن الأسئلة التي تدور حول الحضارة العمانية، مثل: ما هي أدلة عراقة عمان عبر التاريخ وعبر الحقب الزمنية الطويلة؟ ولم يقتصر كتاب في (ظلال الأسلاف) على دراسة تاريخ السلطنة فحسب بل تناولت محتوياته الحضارات المجاورة عبر تحليل مقارن لتاريخ تلك الحضارات والدور البارز الذي لعبته في اقتصاديات الشعوب المجاورة كبلاد ما بين النهرين وبلاد السند ومملكة دلمون، كما يظهر ذلك جلياً في الصناعات الحرفية الممارسة في تلك الفترة وفي معتقدات الحياة ما بعد الممات. يتطرق الفصل الأول من الكتاب إلى الطبيعية الجغرافية لعُمان، ومدى قدرة الإنسان في تطويعها واستخدام ثرواتها الطبيعية، إذ تميزت عمان بترابطها وعن وجود الجبال التي تشكل معظم تضاريسها فقال: الوصول إلى البحر في متناول الجميع، بينما الموقع الجغرافي لعُمان المطل على المحيط الهندي جعلها بوابة التواصل والتبادل التجاري مع الحضارات العريقة التي نشأت وتزامنت مع حضارتها الراسخة في القدم. ويُعرفنا الكتاب بالهجرات الأولى لمجموعة "الإنسان الواقف" من شرق أفريقيا سالكاً مسارين: الأول على امتداد النيل وعبر سيناء الى بلاد الشام وشمال شبه الجزيرة العربية، والثاني عبر باب المندب الى اليمن ومنها الى شمال شبه الجزيرة العربية.
ويتتبع المسار من خلال البحث عن المؤشرات الدالة على وجود الانسان عبر الادوات الحجرية ثنائية الوجه التي تؤرخ لأكثر من مليوني سنة وتنتمي الى الحضارة الأشورية طبقاً للموقع الذي اكتشف فيه لأول مرة في فرنسا في القرن التاسع عشر الميلادي وتؤرخ الى فترة (البليوسين) وتم بذلك الكشف عن العديد من هذه الأدوات في جبال (القرا) في محافظة ظفار. ويكشف السجل الأثري عن حضارات وقصة نشأة الجنس البشري وحضارته وما يتصل بتأسيس الدويلات المبكرة في جنوبي وادي الرافدين والذي بعد عقود شمل واديي النيل والسند التي فيهما اخترعت الكتابة وكان التحول الكبير، ففي بداية (الهولسين) نحو 8500 ق.م تحولت حياة الناس في أنحاء الشرق الأوسط وظهرت الابتكارات وترسخت في مناطق واسعة من العالم القديم وكانت الزراعة هي أقدم تلك الابتكارات وتلتها حرف النسيج والغزل والحياكة وصناعة الفخار والحجارة التي استخدمت كأدوات منزلية بعد الفخار وتلتها المعادن وتطورت المستوطنات وتوسعت قاعدة الاقتصاد وظهرت المعابد والمحاكم والمكاتب والأسواق والمخازن وادارة المياه والخزانات والثكنات العسكرية والمصانع والورش وأحياء سكنية، وفي هذا الخضم الهائل من الابتكارات التي انبثقت من البيئة الزراعية منها، ظهرت المدن.
وفي الفصل الخامس من الكتاب والذي حمل عنوان "مجتمع عظيم يلوح دون عيون السلاف" يتحدث الكتاب عن المقابر التي وجدت في مختلف مناطق السلطنة، والتي تشبه الأبراج وظهرت عام 2700 ق.م، كما ظهر نوع من المدافن يسمى "أم النار" ونوع آخر يسمى "مدافن حفيت" التي أصبحت تمثل في مجملها مراكز مهمة للمستوطنات والتي توزعت في المرتفعات وعند سواحل البحار وأسفل التلال، وتبعا لأماكن تواجدها، تعتبر هذه المدافن نموذجاً هاماً للشعائر الدينية التي تؤكد معنى المساواة والعدل.
لكن دراسة مخلفات العادات الجنائزية كما يشير الكتاب ربما كانت أداة فعالة لفهم بعض الجوانب الاجتماعية والسياسية في حياة المجتمع، وكذلك الحال بالنسبة لمجتمعات الألفية الثالثة قبل الميلاد. وتعكس نوعية المدافن طبيعة الحياة الاجتماعية. وقد قاد هذا إلى تمييز بعض المدافن على أنها تخص شيوخا أو طبقة عليا في المجتمع كما هو الحال في مصر وفي وادي الرافدين. ويتتبع الكتاب (نظام الري) الذي أدى إلى ازدهار الزراعة بمختلف العصور عبر أنماط متعددة كالآبار والقنوات والبرك، فتاريخ عمان تاريخ من العبقرية في مجال تطوير تقنيات الري تمثلت في الهندسة الزراعية التي تميزت بها الواحات العمانية والتي بفضلها تعددت المحاصيل الزراعية وتعتبر شجرة النخيل العنصر الأساسي في تشكيل النظام الزراعي المبتكر وتثير إن نظم الري المستخدمة في السلطنة الدهشة لما تمثله من إبداع متقن يعود لبداية الألف الأولى ق.م وتعتبر الألف الثالثة ق.م فترة رئيسية للإبداع في الشرق الأوسط وفي مختلف المجالات إذ تنوعت تقنية الفخار لتشمل أدوات متعددة تستخدم بشكل يومي وبمختلف الأماكن بالمنزل والمزرعة وأصبحت لها حلقات خاصة تتبعها تقنيات غاية بالإبداع والابتكار. "عمان" هي "بلاد مجان" التي عرفت في وادي الرافدين منذ ظهورها الباكر في السجل التاريخي، وبهذا الاسم، دخلت التاريخ المكتوب في أوج حضارة العصر البرونزي المبكر خلال النصف الثاني من الألف الثالثة قبل الميلاد.فالمواقع الأثرية بثقافتها المادية معروفة في كل أنحاء عمان، كشفت عن الدور الكبير لعمان في نظام التجارة العالمية من وادي الرافدين وسوريا إلى إيران وحضارة السند وجنوب شبه الجزيرة العربية، والاحتمال الأكبر أن هذه التجارة قد وصلت إلى القرن الأفريقي.ويتطرق المؤلفان في هذا الفصل إلى محافظة ظفار التي تشارك شمال عمان الكثير من اوجه الشبه التي تعود الى الالف السادسة ق.م. وهي الأرض التي قادت الى نمو حضارات مختلفة رغم ظروفها المناخية الخاصة التي توزعت على اربعة نطاقات مناخية كل منها بملامحه المتميزة وهي السهل الساحلي والجبال والنجد والصحراء، وقد تضمن الفصل عناوين فرعية مختلفة سلطت الضوء على الصيادين وجامعي الثمار بمحافظة ظفار حيث عثر على الادوات المختلفة المستخدمة لصيد الحيوانات، وتشير الدراسات إلى أن أقدم المواقع المعروفة يرجع تاريخها نحو 9000 ق. م. في (حبروت).ويعد العصر البرونزي في ظفار فترة انتشار تجارة اللبان مع بلاد الرافدين واليمن ومصر وتم ذلك عبر شبكات البر في شبه الجزيرة العربية والبحر عبر البحر الاحمر خلال الالف الثانية والألف الثالثة قبل الميلاد، وقد انتشرت العديد منذ المواقع من الألف الثالثة ق. م. تم تحديدها على طول الأهوار الساحلية شرق وغرب صلالة، وعثر على مواقع مماثلة في موقع (المغسيل) وفي قمم الجبال التي تطل على البحر عند مدخل (خور روري)، والجزء الداخلي على المصاطب شمال طاقة، وفي (الحقف)، حيث وجدت مواقع لمنازل دائرية الشكل صممت بأسلوب الميغاليث "حجر ضخم غير منحوت" والذي ربما يعود أيضا للعصر البرونزي ، اعتمادا على أدواتها الصوانية وقليل من القطع النحاسية.