قراءة ـ أحمد بن سعيد الجرداني:
يتميز الإنسان عن غيره من الكائنات التي تعيش معه في هذا الكون بأنه يحيا ويتصرف في إطار مجموعة من القيم الخلقية التي تهذب روحه وتحكم تصرفه، لذا جاءت ندوة (القيم العمانية ودور المواطن في التنمية) التي أقيمت بقاعة المؤتمرات بجامعة السلطان قابوس والتي كانت على مدار ثلاثة ايام من تاريخ 2 ـ 4 رجب 1432 هجري الموافق 4 ـ 6 يونيو 2011 ميلادي بتنظيم من وزارة الأوقاف والشؤون الدينية.. لتعطي الإنسان دافعا وتذكيرا في المحافظة على الإرث الحضاري القيم وكيفية التعامل مع المحيطين به.
وحول ما قدم في هذه الندوة من بحوث واوراق عمل كانت لنا هذه القراءة في بحث بعنوان: (دور الدين والخلق والتقاليد في الحياة والمجتمع) للدكتورة سعاد الحكيم.

الأمانة في التوظيف
وبعد أن تحدثنا أخي القارئ اختي القارئة في الحلقة الماضية عن دور الإحسان في رقيّ الإنسان وكذلك عن القيم وترسيم ودور الخلق في حصانة الفرد وفي استقرار المجتمع.. نواصل اليوم الحديث في هذا البحث، حيث تقول الدكتورة سعاد الحكيم: (ونطلُّ على مشهد الأمانة من عشر نماذج تطبيقيّة).. لولا أمانة المرسلين لما وثق بهم الناس وصدّقوهم في إخبارهم عن الله تعالى.. والآيات القرآنية عديدةٌ التي يشهد فيها الرسول لقومه على نفسه أنه أمين. يقول تعالى ذاكراً قول نوح لقومه في سورة الشعراء الآية: (107): (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ)، ومثله قول هود في لقومه في سورة الشعراء (125)، ومثله قول صالح لقومه (الشعراء 145)، ومثله قول لوط لقومه (الشعراء 162)، ومثله قول شعيب لقومه (الشعراء 178)، ومثله قول موسى لقومه (الدخان الآية 18).
موضحة بأن الأوراق والمعلومات المتضمّنة لأسرار العمل تعدّ أمانةً عند الموظّف، وأيّ إفشاءٍ لسرٍّ من هذه الأسرار فهو خيانةٌ للأمانة، يقول الله تعالى في (سورة المؤمنون 8): (وَالَّذِينَ هُمْ لآمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ).
حيث إن الشخص الذي يستخدم وقت المؤسّسة للقيام بأعماله الخاصّة، فقد خان الأمانة في الوقت.
وقالت: غن من أشكال الأمانة: أمانة الموظّف على الممتلكات العامّة للمؤسّسة، وحرصه على عدم إتلاف شيءٍ استهتاراً، وعلى عدم التفريط بشيءٍ إلا في إطار عملٍ يخصّ المؤسّسة.
ومن أشكال الأمانة أيضاً إن كان الشخص صاحب سلطةٍ توظيفيّةٍ في مؤسّسةٍ، فمن الأمانة أن لا يُؤثر القريب والصديق على صاحب المؤهّلات الذي يفيد الشركة وينمّيها.
ومن الأمانة في التوظيف أيضاً أن يُنظَر في طالب الوظيفة من جانبين: جانب المؤهّل الماديّ للوظيفة، وجانب المؤهّل الأخلاقيّ للوظيفة بكلامٍ آخر، يحرص صاحب سلطة التوظيف على أن يوظّف الكفؤ الخلوق معاً، ولا يكتفي بالأهليّة العلميّة أو الأهليّة الخلقيّة، وهذه فتاةٌ لم تتجاوز مسافةُ وجودها حدود قريتها حين التقت بموسى ورغم ذلك قالت لأبيها ترشّح له استخدام موسى (وتذكر جمعه للمؤهّليْن معاً: المؤهّل المادّيّ للوظيفة (القوّة) والمؤهّل الأخلاقيّ لها (الأمانة)، يقول تعالى ذاكراً قول الفتاة التي أصبحت زوجة موسى كما ذكر في (سورة القصص 26): (قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأمِينُ).
ومن أشكال الأمانة: الأمانة في التعليم، والغريب أنها ترد في القرآن الكريم في معرض تنبيه الملكيَن ببابل لكلّ من يريد أن يتعلّم منهما السحر، يقول الله تعالى ذاكراً قول الملكَين، كما جاء في (سورة البقرة 102): (وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ).
ومن أشكال الأمانة: أمانة الأهل على الولد، فالولد أمانة عند الأهل، وهما مؤتمنان على تربيته وتهذيبه وعدم تدميره وقهره نفسيّاً باستعمال ألفاظٍ مؤذية، إنّهما مؤتمنان على إنتاج كائنٍ سويٍّ أخلاقيّاً ونفسيّاً واجتماعياً، ولا تقف مسؤوليّة أمانتهما عند حدود تلبية الحاجات الماديّة للولد، بل تتعدّاها إلى الاهتمام ببناء باطنه وبعدم إذلاله وتحطيمه بعباراتٍ تدميريّة كأن يقولا أو يقول أحدهما له: أنت فاشلٌ، لن تحقّق شيئاً يذكر، وغير ذلك.
ومن أشكال الأمانة: الأمانة في أداء المهمّة.. ومثالٌ عليها هو العفريت من الجنّ الذي عرض على سليمان (أن يأتيه بعرش بلقيس وضمن له إيصاله سالماً لأنّه يتمتّع بخلق الأمانة)، يقول الله تعالى ذاكراً قول العفريت من الجن، كما جاء في (سورة النمل 39): (قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ) ومن أشكال الأمانة: الأمانة في النصح.. يقول تعالى ذاكراً قول هود لقومه في سورة الأعراف (68): (وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ). ومن أشكال الأمانة: عدم ادّعاء التخصّص والبراعة عند التصدّي لممارسة مهنة، فقد يتسبّب هذا الادّعاء بخسارةٍ للغير، وهنا هو مكلّفٌ شرعاً بأداء بدل الخسارة.
ونشهد في حياتنا اليوميّة العديد من أصحاب الحرف والمهن الحرّة (كالطبّ والهندسة والزراعة وأعمال السباكة والكهرباء وإصلاح الآلات.. وغير ذلك) يستبيحون أموال الناس بالغشّ ويدمّرون صحّتهم بالاستهتار، وهذا مشهدٌ من تجلّيات خلق الأمانة في المهن والحِرَف.
لقد أردنا من جولة الأفق هذه مع خلق الأمانة، إظهار غنى النصوص وجهوزيّتها للاستنباط، وصدق الرسول الكريم في قوله: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق".. فكل خلقٍ كريمٍ مدوّنٌ في النصّ الإسلاميّ، وما علينا إلا أن نثوّر النصوص، على نهج ابن مسعود في قوله: "ثوّروا القرآن".

دور الخُلُق في استقرار المجتمع
وحول دور الخلق في الاستقرار كما بينته الباحثة في بحثها قائلة: إنّ المجتمع في الإسلام هو تعدّديٌّ، هو مساحةٌ مكانيّةٌ مشتركةٌ للناس على تنوّع أعراقهم وتعدّد مللهم.
ومن هنا، فإنّ الخلق في الإسلام ليس وقفاً على التعامل بين المسلمين ولكنّه فريضةٌ مع الناس جميعاً، فالمؤمن صادقٌ بشكلٍ متساوٍ مع صديقه ومع عدوّه، مع أخيه المسلم ومع أخيه في الوطن غير المسلم.
وبناءً عليه، فإن الأداء الأخلاقيّ لأبناء مجتمعٍ واحدٍ يؤدّي إلى أربعة صنائع في هذا المجتمع وهي:

ـ الأداء الأخلاقي يُوجد مادّة اللحمة الاجتماعيّة: إنّ الأداء الأخلاقيّ في مجتمعٍ ما يشيع الثقة بين الناس، وحين تشيع الثقة يأمن الإنسان للإنسان، فإن أمن له ترك تحفّظاته وحسّن ظنّه وأصبح مستعدّاً للتماسك معه والتلاحم، وهذه اللحمة الداخليّة من جملة آثارها، أنها تزيل الفجوة بين الشعب والسلطة، أو بين الراعي والرعيّة وبإزالة الفجوة يتحقّق الاستقرار الداخلي وتُقطع الدرب على أيّ تدخّلٍ خارجيّ.
ويدلّنا على دور الخلق في تآلف الناس والتفافهم على بعضهم البعض وتلاحمهم، نصوصٌ عديدةٌ من القرآن الكريم ومن السنّة النبوية، نختار منها قوله تعالى ذاكراً خلق رسوله الكريم ودوره في تكوكب الناس حوله كما جاء في سورة (آل عمران 159): (وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ).
وقد اخترنا هذا النصّ لنقول بأن الخلق لا يلعب دوراً في المجتمع إن كان برسم الرعيّة فقط وليس برسم الرعاة، فالنصّ يدلّنا على أن أعلى سلطةٍ هي التي تحلّت بالخلق العظيم فأدّى ذلك دوراً في الترابط والتآلف، ومن هنا فإنّنا نرى في القرآن الكريم أن الرسل كانوا إن طالبوا أقوامهم بأمرٍ يسبقونهم إلى تنفيذه، ويعلنون أنهم أول من يلتزم به.. إذن إنّ الأداء الأخلاقيّ الذي يؤثّر في المجتمع هو الأداء الذي يجذب إليه أكثريّة المجتمع، ولا نقول كلّه.

ـ الأداء الأخلاقيّ يصنع السلام الاجتماعي
إنّ نظرةً متأنّيةً في أسباب الحروب المعاصرة الحدوديّة والأهليّة، ترينا أنها تبطن طمعاً في ثروات الآخر، أو تخفي نزعةً غريزيّةً لإنشاء امبراطوريّةٍ عالميّةٍ ضمن شروط القرن الواحد والعشرين، وما يصدُق على القرية الكونيّة يصدُق على مجتمع أو مجتمعات الدولة الواحدة، فحين تتهذّب النفوس، ويُحسن الإنسان التعامل مع غرائزه وأهوائه وأنانيّته وحبّه للتملّك، ويتّصف بالأمانة مع الغير، فيعطي كلّ ذي حقٍّ حقّه.. عندها، تتحقّق العدالة التي هي شرطٌ بنيويٌّ للسلام المستدام، وكلّ سلامٍ مع غياب العدالة فهو سلامٌ هشٌّ ومؤقّت.
ونقول: إنّ الثورات لا تحدث بين ليلةٍ وضحاها، بل تتحضّر في وجدان الناس عشرات السنين، إذ تتراكم المفاسد والخروقات والأوضاع الشاذّة لتفجّر الغضب المتراكم في جوّانيّة الناس، وإن اقتربنا لنلتقط شذراتٍ من هموم الناس نسمع عباراتٍ من أمثال: أهل الكفاءة في بيوتهم، أبناء الحاكم وعائلته استولوا على الدولة وسيطروا على تجارة البلد، الانتخابات مزوّرة، الفساد على طول الدولة وعرضها، ترتيب ديونٍ على الدولة بسبب الهدر والسرقات.. وغير ذلك.

ـ الأداء الأخلاقيّ يحقّق التوازن الاجتماعيّ
إنّ الخلق يدعو إلى الوسطيّة والاعتدال في كلّ شيء: اعتدالٌ بين الإفراط والتفريط، بين الاهتمام بالماديّ والاهتمام بالمعنوي ّ.. اعتدالٌ في التوظيف الماليّ في البحث العلمي بين حقل العلوم التطبيقيّة وحقل العلوم الإنسانيّة.. اعتدالٌ في السياسة بين الانفتاح على العلاقات الخارجيّة وبين الانكفاء على الوضع الداخليّ للمجتمع.
باختصارٍ، إنّ حُسن الخلق يدفع الإنسان إلى عدم التطرّف في مطلق شيءٍ، لأنّ التطرّف نقيضٌ للعدل وللإحسان.
وهذه الوسطيّة تحقّق التوازن للجماعة الاجتماعيّة، وتشيع جوّاً من الرضا والاكتفاء والإيجابيّة، والمدهش هنا أنّ ناس المجتمع جميعاً من المستحيل أن يُجمعوا على رأيٍ واحدٍ ـ في الشأن الاجتماعيّ ـ مهما كان بديهيّاً وظاهراً لأولي الألباب، لذا تأتي الوسطيّة لترضي الأطراف الاجتماعيّين الذين ينقسم إليهم المجتمع تلقائيّاً حول كلّ شأن، مثلاً البعض يستحسن الانفتاح على الخارج وفي المقابل توجد فئةٌ لا تحبّذ الانفتاح وتُفضّل أن تعكف الحكومة على الشأن الداخلي، فهنا تأتي الوسطيّة لترضي الطرفين وتحقّق التوازن الاجتماعيّ.

ـ الأداء الأخلاقيّ يحقّق النجاح للمجتمع وللدولة
لقد أصبح بيّناً أنّ الأداء الأخلاقيّ في المجتمع يحقّق السلام والتوازن والاستقرار، وهذا كلّه يخفّف الفجوة بين الناس ويزيل مسبّبات التنازع، ومتى ارتفع التنازع بين أهل المجتمع الواحد، تماسكوا وحقّقوا النجاح.
يقول الله تعالى في كتابه المعصوم في (سورة الأنفال الاية 46): (وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ)، وهكذا فإنّ الإسلام كلٌّ حيويٌّ متكامل.. تتداخل فيه القيم وتتساند لتؤسّس مجتمعةً نسيجاً متآلفاً من خيوطٍ مختلفة.. والخلق ليس وعظةً قوليّةً تحمل كلُّ قيمةٍ فيه معنىً واحداً، بل تتفتّح المعاني من القيمة الواحدة لتصبح كأشعّة الشمس التي تلامس كلّ سطحٍ تشرق عليه.

دور التقاليد
وللتقاليد دورته كما توضحه الدكتور سعاد في بحثها بقوله: إنّ الدين والخلق لهما نصوصٌ واضحةٌ أصيلةٌ، ولهما تاريخ نشأةٍ ومسار.. أما التقاليد فنولد ونراها موجودةً في تلافيف الحياة العامّة، وإن سألنا عن نشأة تقليدٍ منها، فقد تقول لنا الأم أو الجدّة: لقد وجدنا آباءنا عليها.
ونجد أنفسنا منساقين ـ طوعاً أو كراهيةً ـ إلى تمريرها لأولادنا عبر التنشئة. لقد اكتسبت التقاليد قوّةً وسلطةً لأنها تعبّر عن رأي الجماعة، عن إجماعهم على أمرٍ ما.
والغريب أن أبناء مجتمعٍ واحدٍ أو بيتٍ واحدٍ قد يختلفون على تفسير آيةٍ قرآنيّةٍ أو قولٍ نبويٍّ، ولكن ما السرّ في إحكام التقاليد فلا يختلف في فهمها وتفسيرها اثنان على امتداد مجتمعٍ كاملٍ؟!.
وما السرّ في تمسّك الإنسان بتقاليده لكأنّها جزءا من جسده، والمدهش أنه حين يشفّه الوجد في الغربة إلى أهله ووطنه، تنهمر دموعه أمام صورةٍ لشيءٍ من تراثه، حتى لو كان عصاً أو طوقاً أو سبحةً، ولماذا حين يدركه العيد في أرض غربةٍ ترتفع في الفضاء الفسيح مرآةٌ تعكس تقاليد العيد ومراسمه في أهله وناسه، ويبدأ بالمقارنة ويتعمّق شعوره بالغربة؟!.
رحلنا بعيداً مع التقاليد عسانا نصل إلى إدراك علاقتنا بها، وأرجّح أنها تشكّل انطباعنا الأول عن الحياة، لأنه منذ ولدنا رشفْنا ذوق الوجود من كأسها.. فقد ننتقدها، ونريد تغييرها، ولكن إن بهتت قليلاً وزاحمتها عاداتٌ جديدةٌ نجدنا نذكّر بها في كلّ مناسبة، لكأننا نخشى أن تذهب من الذاكرة، ويذهب معها جزءٌ من هويّتنا ووجودنا.
إذن التقاليد هي التي تجسّد خصوصيّتنا، وتحمل ملامح شخصيّتنا كجماعةٍ، كشعبٍ.. ولذا، فإنّ لها سطوةً على الفرد، لا تقلّ عن سطوة الدين والقانون. إنّها تمثّل سلطة الجماعة للحفاظ على نمط التعايش الذي ورثوه عن الآباء وارتضوه ويحرصون على تمريره للأبناء.

حسبنا أخي القارئ الكريم أختي القارئة الكريمة هذا اليوم وللقراءة بقية بإذن الله تعالى..