كادت القضيَّة الفلسطينيَّة تُطوَى تدريجيًّا في بساط النِّسيان، وانصرف الجمع، دوَلًا وشعوبًا، إلى مشاغلهم وتحقيق مصالحهم وتنفيذ خططهم وإمضاء سياساتهم، بوسائل وطُرق تُعبِّر عن الأنانيَّة والاستئثار وحُب النَّفْس، وتجاهل حقوق الشَّعب الفلسطيني، وما يتعرض له من إذلال وامتهان. فالعصر ـ كما يدَّعون ويروِّجون ـ عصر سلام وتطبيع وتعايش وانصهار وذوبان مع «الآخر»، وانفصال عن الماضي وملفَّاته وقضاياه، ومِثله وما سُمِّي بـ»الحقوق المشروعة»، الَّتي تعيق عجلة التنمية، وتمنع نُمو الاقتصاد وتقف عقبة أمام الحداثة والعصرنة والازدهار وقِيَم العولمة... وأوشكت ملفَّاتها الفخمة ـ أي القضيَّة الفلسطينيَّة ـ وأرشيفها العامر بالوثائق والحجج، وحراكها الدِّفاعي النَّشط ـ قَبل سنوات ـ في أروقة المنظَّمات والكيانات الدوليَّة، وعواصم العالَم، على مدى عقود طويلة، أن تتلاشى في ذاكرة تشيخ بمرور الأيَّام، فتدخل شيئًا فشيئًا إلى مَرض الزهايمر المدمِّر للحافظة وما وثَّقته من كنوز ثمينة، تفيض بالأدلَّة والبراهين والقرائن والصوَر، الَّتي تتحدَّث عن الحقِّ الفلسطيني وتاريخيَّة فلسطين، وتثبت يقينًا أنَّها أرض لشَعب، ارتبط بها، وطنًا وثقافةً وروحًا ومسمًّى وحياةً، هو الشَّعب الفلسطيني، ولا أحَد يشاركه في هذا الحقِّ سواه... وكشفت الأحداث المتسارعة، وتطوُّرات العصر السِّياسيَّة والاقتصاديَّة والعلميَّة، وتداخُل وتشابُك المصالح بَيْنَ الدوَل والشركات واللوبيَّات، والغزو الفكري والثقافي الهائل، وغسيل العقول عالَميًّا وإقليميًّا، وانهيار الأمن العربي، وتمزُّق كياناته، واختلاف أنظمته حدَّ القطيعة أحيانًا، عن نيَّة مبيَّتة وخطط موضوعة مقرَّة؛ لإنهاء ووأْدِ وقتْلِ تطلُّعات وحلم الفلسطينيِّين، في قيام دَولة مستقلَّة عاصمتها القدس، وضمان أن يحققَ كيانها ومساحاتها وحقوقها، العدل والطموح والحياة الكريمة، واستيعاب جميع أطياف وفئات الشَّعب الفلسطيني، وجمع شتاتهم في وطنهم المسلوب، واستعادة الأرض والمقدَّسات المستباحة، ذلك، في مقابل مؤامرات ومُخطَّطات شيطانيَّة، تستهدف المزيد من التهجير وتشتيت وتصفية الشَّعب الفلسطيني، والتمدُّد والاستعمار والاستيلاء على أراضٍ أخرى جديدة... وأوشكت معاناة الشَّعب الفلسطيني، الممزَّق بَيْنَ المهجر والشَّتات والسجون الإسرائيليَّة المُدمِّرة لروح ونَفْس وجسَد الإنسان، المُسبِّبة للعاهات والآفات والعاقات، الملاحق في أرجاء هذا العالَم بتُهَم وتحقيقات وتلفيقات شتَّى، المُضيَّق عَلَيْه في تنقُّله داخل بلده، وفي عباداته والصلاة في الأقصى، الممنوع من الاجتماع واللقاء بأهله وأبنائه وأحبَّائه وأفراد أُسرته، والاستمتاع بما يملكه من أرض وأملاك خاصَّة، المُحارَب في لُقمة عيشه، المحروم من أبسط حقوقه، الحُريَّة والحياة الكريمة والخدمات الإنسانيَّة المتواضعة، أن تهملَ ويتمَّ تغافلها والتشاغل عَنْها والتفريط فيها... فالدوَل العربيَّة، صغيرها وكبيرها، المرتبطة بحدود مع فلسطين، والبعيدة عَنْها جغرافيًّا، ذات الثقل والتأثير أو الَّتي لا أثرَ لقراراتها وسياساتها، من التزمت بتعهُّدات ومسؤوليَّات في الدِّفاع عن القضيَّة الفلسطينيَّة وحقوق الفلسطينيِّين، أو مَنْ تنصَّل عَنْها منذ زمن، جميعها تسرع الخُطى وتحثُّ السَّير، وتتجاوز المتخيّل في تطبيعها مع الكيان الإسرائيلي، متجاهلةً للحقِّ الفلسطيني وقضيَّته الثَّابتة... فماذا بِيَدِ الفلسطيني، فردًا وشَعبًا ومقاومةً، أن يصنعوا أمام هذا الواقع المُؤلم والمُخجل، وقَدْ تركوا وحْدَهم في مواجهة إعصار جارف، إمَّا أن يقتلعَهم من جذورهم فتمحى فلسطين وقُدسها وأقصاها من الوجود، وإمَّا أن يثبتوا ويواجهوا ويقاوموا ويصمدوا، ويتسلحوا بثبات العقيدة، وإرادة المجاهد، وصلابة المقاوم، وسِيرة القادة العظام، الَّذين لَمْ تثنهم الشَّدائد والمعيقات والمستحيلات وتفوُّق العدوِّ وقوَّته التسليحيَّة والعدديَّة وغطرسته وظُلمه وعنجهيَّته عن مواصلة الجهاد وتحرير الأوطان والمقدَّسات... صحيح أنَّ التضحيات المتوقعة عظيمة، والخسائر مهولة، والآلام والأحزان والأوجاع مُدمِّرة، ولكن هل أبقى لَهُم العالَم الظالم والجائر من خيار آخر يلجؤون إليه؟ لقَدْ حسمت المقاومة الفلسطينيَّة الأمْرَ، واتَّخذت القرار، وأخذت خيارها اليتيم في استعادة الوطن وتحرير الأرض، فكان السَّابع من أكتوبر الزلزال الأوَّل من نَوْعه الَّذي تميَّز بالعبقريَّة في التكتيك، والبراعة في إعداد وتنفيذ الخطَّة، والصَّلابة والقوَّة في الإرادة، إلى جانب الجرأة العالية، الَّتي اهتزَّ لها عرش النظام في تل أبيب، وأفقدته توازنه، وجعلت مِنْه أضحوكة عالَميَّة. فلا غروَ أن يتمثلَ انعكاس ذلك ونتيجته، في الحقد المقيت، والكراهية السوداء، والانتقام المروِّع، والشَّر المشوِّه للإنسانيَّة، الَّذي قاد إلى تدمير غزَّة وارتكاب أبشع المذابح في العصر الحديث، وأكثرها دمويَّة وقتامة، وأوفرها مثالًا ونموذجًا على الخطر العظيم الَّذي يُمثِّله وجود الكيان الإسرائيلي على البَشَريَّة، في رُقيِّ وسُموِّ ونُبلِ إنسانيَّتها ومُثلها، ومبادئ التَّعايش والتَّسامح والتَّقارب، وسماحة عقائدها السماويَّة، وقوانين منظَّماتها وكياناتها الدوليَّة، في استقرار العلاقة بَيْنَ النُّظم الحاكمة وشعوبها، وثبات وقوَّة الاتحادات والعلاقات والاتفاقيَّات والمصالح بَيْنَ الدوَل، ونُمو الاقتصادات والتجارة الدوليَّة... الَّتي اهتزَّت حَوْلَها الثِّقة وتحوَّل اليقين إلى شكٍّ، وصل درجة الكفر بتلك النظريَّات والمبادئ، بفعل الحُمق الإسرائيلي وتحقيرها لكُلِّ مَنْ لا يَسير ويقف في صفِّها ويؤمن بأفعالها المنكرة... فهل كان قرار المقاومة، بالشروع في تنفيذ عمليَّتها الجهاديَّة الَّتي أحدثت زلزال السَّابع من أكتوبر صائبًا سديدًا، وخطوة في الاتِّجاه الصحيح، يُعبِّر عن الرَّصانة والحكمة والوعي بنتائج المشروع وانعكاساته على القضيَّة والشَّعب الفلسطيني، أم غير ذلك؟. في حقيقة الأمْرِ لا أسوِّغ لنَفْسي ولا لأيِّ كائن في هذا العالَم يعيش بحبوحة العيش وأمان الحياة واستقرار الوطن وسلامة كيان الأُسرة، بالإجابة عن هذا السؤال الخطير والحسَّاس والدقيق في تاريخ الجهاد الفلسطيني. فالمواطن الفلسطيني الَّذي ينزف دمه منذ عقود، وبُترت أعضاؤه، وتحوَّل جسَده إلى أشلاء وإعاقة، وفقَدَ أطفاله وأحبابه، في أبشع مجزرة أو مذابح يشهدها العصر الحديث، واكتوى بنار العدوِّ الاستيطاني وسمومه، ودُمِّرت كُلُّ سُبل الحياة وطرائقها وخدماتها الَّتي تُعينه على العيش، وتُرك وحيدًا أمام عدوٍّ حانقٍ لا يعرف الرحمة والشعور الإنساني الطبيعي... هو فقط المخوَّل الَّذي يحقُّ له الإجابة عن السؤال المطروح، ومَنْ له الحقُّ في اختيار شكلِ وطريقة أسلوب المقاومة، وتحديد توقيت عمليَّاتها ومكانها، لاسترداد وطنه وحقِّه ومقدَّساته، وهو مَنْ له الحقُّ أخيرًا في اختيار مَنْ يُمثِّله وشكلِ النِّظام السِّياسي الَّذي يتولَّى شؤون الحُكم على أرضه...وللمقال بقيَّة.




سعود بن علي الحارثي
[email protected]