والفعل:(كان) فيه تقديرٌ لصاحبه، ورفعة لمقامه، وعُلُوِّ منزلته، وأنه معترَفٌ بإيمانه منذ نَوَى، ورَجَا الله واليومَ الآخرَ، وذكر ربَّه كثيرًا، وهي كناية عن سعة فضل الله، ورحمته بقبول رجاء العبد، وعبادته، وذكره لربه، وخشيته من اليوم الآخر.
والفعل:(يرجو) واردٌ بالمضارع الذي يفيد الاستمرار، وتواصل الرجاء، واللفظ الكريم:(الله) يثلج الصدر، ويشعر بجمال الجلال، وتمام الكمال، وأن العبد يرجو مولاه، فما أجمل من رجاء!، وما أكمله من هدف!، وما أعلاه من غرض سام!، وما أجله من غاية، وأسماه من قصد!.
وتأتي واو العطف لتبين منظومة الكمال من العبد القاصد مولاه، الراجي نداه، والذي يخشى يوم يلقاه، وهو في عبادته يأمل في مغفرة الله، ويعمل ألف حساب لهذا اليوم العصيب، الرهيب، الرعيب، والفعل:(ذكر) واردٌ بالفعل المضارع، فقد ذكر الله، وقَبِلَ منه مولاه، وأقرَّ له بذكره، وشكره، فهو كناية عن الفرحة بالقبول، من رب كريم مأمول، وخيرِ إلهٍ مسؤول، والفاعل مستتر جوازًا (أي: ذكر هو الله) يعود على العبد المُسْتَحْيِي من ربه، المضمِر نفسه حياءً من ربه، وخشية، وَوَجَلًا، والمفعول به:(الله) يفيد الجلال والكمال، والجمال كله، وقوله:(كثيرًا) صفة مشبهة، فالكثرة موفورة على الدوام، موجودةٌ على الأزل، ومستمرة على السرمدية، وهي كذلك نكرة، والنكرة تفيد الشيوع، والعموم، كما أن هناك إيجازًا بالحذف، وأن الأصل:(وذكر الله ذكرًا كثيرًا)، فاستعيض عن الموصوف بصفته، والصفة والموصوف ـ في عالم النحو ـ كالشيء الواحد.
وهذه الآية الكريمة في مجموعها تبيِّن علاقة المؤمنين برسولهم الكريم، المرتضى من ربه أسوةً لهم، وقدوةً، وأن ارتباطهم برسولهم إنما هو ارتباط القلب بالجسد، والعقل بالروح، والفرع بالأصل، والجزء بالكل، وهي في الوقت نفسِه تقرِّر وجوب أسوة الرسول، وفريضة قدوته، وذلك لمجموع المؤمنين، في كل مراحل الحيوات، وعلى مر العصور، ومُضِيِّ السنوات، وتعاقب الأزمنة في الخلوات، والجلوات، وفيها كذلك كناية عن علوِّ شأنه الشريف، وسموِّ قدره المُنِيف عند ربه الكريم اللطيف، وفيها كناية أيضًا عن حبِّ المؤمنين لسيرته العطرة، وانظرافهم فيها، وحبهم لها، وعشقهم لكلِّ ما ورد فيها، وحياتِهم القائمة بها، والماضيةِ معها في كل شؤونهم، وفيها كل الصفاتُ التي يمكنهم الإفادة منها، ومن أسوتها، إنهم أولئك الذين جَمَعُوا (بواو العطف) بين رجاء الله، ورجاء اليوم الآخر، وذكر الله الكثير، فمَنْ حَقَّقَ هاتيك الأوصاف جاءتْه الأسوةُ، وتمكنتْ منه القدوةُ، واتخذ من شخصه الشريف كل معاني الأسوة، ودلالات الأسوة.
وقد نهضتْ كل من حروفُ المعاني في الآية الكريمة، وكذلك الأساليبُ اللغوية بتلك الدلالات السامية، وهذه الأهداف العالية، فترى ـ على سبيل المثال ـ أسلوب القسم، وأسلوب التحقيق، وأسلوب البدل، والتراكيب الوصفية، والإضافية، وتراكيب العطف، وأسلوب الحذف، والإيجاز، ومعاني كلٍّ من:(اللام)، و(قد)، و(في)، و(الواو) كلُّ ذلك تراه قد تعاون، وتآخى، وتناغم، وتآزر في سبيل إبراز المقصود الرباني، والهدف القرآني.


د.جمال عبدالعزيز أحمد
كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة - جمهورية مصر العربية
[email protected]