الأمل يقابله اليأس والإحباط، التفاؤل يقابله التشاؤم؛ وهنا نسأل: ماذا يحدث لو سيطرت مشاعر اليأس والإحباط والتشاؤم على حياة الأفراد والمجتمعات؟
باختصار، سيطرة تلك المشاعر السلبيَّة تقتل الرغبة في الحياة لدى الأفراد والبناء والتقدُّم لدى المجتمع، وماذا بعد ذلك الشعور المدمِّر سوى تحوُّل الإنسان والمجتمع إلى كائنات ومُدن تعيش في بيئة من الخوف والجريمة والسخط والامتعاض، أفراد ومجتمعات حاضرهم أقرب إلى الماضي، حديثهم جلد للذات وانتقاص لكُلِّ فعل. أنانيَّة مفرطة، لا ولاء ولا انتماء إلَّا للمادَّة.
سيسأل البعض: أليس الحكومات من يتحمَّل مسؤوليَّة انتشار تلك المشاعر السلبيَّة؟ إن كان الجواب أنَّها تتحمله وحْدَها دُونَ الأفراد والمجتمعات، فذلك سيكون ظلمًا وعدم إنصاف للحقِّ والحقيقة، ولكن نعم تتحمل الحكومات الجزء الأكبر من أسباب انتشار تلك المشاعر السلبيَّة التي سيطرت على الشعوب، الجزء الأكبر منه؛ لأنَّها من يحكم ويتحكم ويفترض أنَّ لدَيْها الحكمة للقيام بالتصرفات والإمكانات التي يمكن أن تقلص من انتشار تلك المشاعر السلبيَّة بَيْنَ المواطنين.
فليس من المقبول من الحكومة، أي حكومة، أن تطالب الأفراد بالتفاؤل في وقت تتراجع فيه إمكاناتها الماديَّة والإداريَّة بسبب سوء التخطيط وانتشار الفساد والمحسوبيَّة، الأمْرُ الذي ينعكس على حياة الأفراد ومعيشتهم واستقرارهم الاجتماعي، بل الأخطر من ذلك انتشار تلك المشاعر السلبيَّة بَيْنَ الأفراد بسبب الواقع السلبي المشاهد والمُعزَّز بتوجُّهات لا تراعي حياة الأفراد وما يحيط بهم من ظروف وعقبات وتحدِّيات ماديَّة ونفسيَّة.
ليس من المقبول أن تطالب الأفراد بالتمسُّك بالأمل في وقت يخرج عليهم من المسؤولين مَن يزيد احتقان وسخط الرأي العام بسبب التصريحات الاستفزازيَّة والمفردات التي هي أصلًا مليئة بالإحباط والسّخط والامتعاض، وحينها لا يكون نشر التفاؤل وزراعة الأمل في النفوس من قِبل الحكومات سوى وَهْم ومحاولة نشره بالقوَّة أشبه بلعبة من القش اليابس في مواجهة النار سرعان ما ستحترق. المواطن هو الآخر يتحمل جزءًا ليس بالهيِّن من المسؤوليَّة حيال نفْسه وأُسْرته ومُجتمعه، مسؤوليَّة دينيَّة أولًا؛ لأنَّ التطير والتشاؤم ليس من صفات المُسلِم، بل عقيدة جاهليَّة تؤدِّي إلى الموت المبكِّر، وأنَّ التشاؤم والسّخط لن يغيِّر من قضاء الله وقدره، ولكنَّه يقدح في الإيمان بالقدر، ومسؤوليَّة فكريَّة وعقليَّة ثانيًا؛ لأنَّ الإنسان المدرك الواعي لِما يحدث من حَوْله يعلم تمام العِلم أنَّ الدول والحكومات قد تمرُّ بالكثير من الظروف والمتغيِّرات التي قد تعيق حركة التنمية والتقدُّم فيها، فهل المطلوب حينها أن نفاقم تلك التحدِّيات والعقبات بمشاعر السّخط والامتعاض والإحباط وجَلْد الذَّات والاستسلام للظروف؟
نعم من حقِّ المواطن أن يوجِّه النقد للحكومة والمسؤولين فيها إنْ وجد تقصيرًا أو تهاونًا أو ضعفًا، فالمال العامُّ والثروات الوطنيَّة ليست ملكًا خاصًّا لأحد والوظيفة العامَّة لم تسلَّم بسند ملكيَّة لأحد. نعم من حقِّ المواطن أن يطالبَ بتغيير المسؤولين، وأن ينتقد المسؤول في عمله والمؤسَّسة والوزارة الفلانيَّة في أدائها، ولن يتحقق التقدُّم والنجاح الوطني إلَّا بالنقد البنَّاء والمصارحة والشفافيَّة، ولا غرابة إلَّا من مسؤول (يزعل) أو مؤسَّسة (ترفض النقد) في أيِّ أمْر تحت أعذار وشمَّاعات مضحكة وكأنَّ الوزارة أو المرفق العامَّ مهما كان تخصُّصه أو عمله ملك خاصٌّ لذلك المسؤول، على أنَّ النقد يجب أن يتمَّ باحترام وأدب دُونَ تهجُّم أو تناول قضايا شخصيَّة.
في ذات الوقت من الواجب والإنصاف علينا كمواطنين أن لا نعمِّم الأخطاء والتقصير، فكما يوجد المقصِّر المتهاون في أداء عمله، هناك مَن يعمل بجدٍّ واجتهاد وإخلاص لله والوطن، وتعميم الاتِّهامات هو ذاته دافع للإحباط واليأس لتلك الفئة المجتهدة، وما لا نرضاه على أنفسنا من غير المقبول أن نرضاه على غيرنا. ليس من الإنصاف أن نعلَم بتلك العقبات والتحدِّيات الاقتصاديَّة التي تعيق حركة البناء والتنمية في كُلِّ دوَل العالم، فنعذر فيها الآخرين ولا نعذر فيها أنفسنا. ليس من الإنصاف أن نترك عين السّخط والامتعاض والسلبيَّة توجِّهنا إلى عدم مشاهدة الأعمال الإيجابيَّة، وكما نطلب من الحكومة والمسؤولين العمل بجدٍّ وإخلاص وأمانة، فالمواطن هو الآخر مطالب بتقدير الضغوط التي تمرُّ بها الحكومة، خصوصًا تلك التي تلزمها بالموازنة بَيْنَ متطلبات التنمية والالتزامات الحكوميَّة.
كلمة أخيرة، قلتها وكرَّرت الحديث عنها أكثر من مرَّة ومقال طوال السنين الماضية، وهي أنَّ نشر التفاؤل والأمل بَيْنَ الناس مهمَّة وطنيَّة استراتيجيَّة، ولأنَّها وطنيَّة فهي ليست حكرًا على الجهاز الإداري للدولة أو الحكومة، وإن كانت الحكومة تتحمل الجزء الأكبر من هذه المهمَّة، حيث يجب أن يعمل عليها الجميع، إعلاميين وكتَّابًا وباحثين كُلًّا في مجال عمله، الطبيب والمهندس ورجل الأمن وأئمة المساجد والوعَّاظ، المُعلِّم في المدرسة، وغيرهم من أبناء الوطن.
هي مهمَّة يجب أن تركِّز عليها الحكومة عَبْر استراتيجيَّة إعلاميَّة ممنهجة تقوم على بثِّ الأمل والتفاؤل بَيْنَ الأفراد بالأقوال والأفعال، الكلمات المحفِّزة التي تبعث روح التفاؤل في الأفراد، الكلام الطيِّب الذي يشعر الإنسان بالقوَّة والأمل في المستقبل، والبُعد عن كُلِّ ما يمكن أن يزيد من الاحتقان والسّخط والامتعاض بَيْنَ أفراد المُجتمع.
والأهمُّ من الأقوال الأفعال، الفعل المشاهد والواقع الملموس؛ لأنَّ الفرد منَّا عندما يشاهد الاستراتيجيَّات والمرئيَّات تتحول إلى منجزات تُسهم في تعزيز حياته ومرئيَّات تساعد على تسهيل معيشته ويشاهد كيف وطنه يتقدم، حينها فقط يؤمن بأنَّ ما قيل من كلام المسؤولين والقيادات الوطنيَّة قد كان أصحابه بقدره، وعندما يشاهد ما سمع من حديث وأفكار قد تحوَّلت إلى واقع إيجابي ملموس حينها فقط سيؤمن بتلك القيادات، ولن يكون للسّخط والامتعاض طريق إلى نفْسه.


محمد بن سعيد الفطيسي
باحث في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية
رئيس تحرير مجلة السياسي – المعهد العربي للبحوث والدراسات الاستراتيجية
[email protected]
MSHD999 @