إن ما تعرضه هذه البرامج يضعنا أمام حقيقة دامغة أننا سُلبت منا إرادتنا وسُلمت للآخرين، وأننا أمام مشكلة تنتظر الحل الذي قد يكون نابعا من قدرتنا على اكتشاف التأثيرات القصيرة والطويلة الأجل المترتبة على أفعالنا وأفعال الآخرين من تلك البرامج..

عندما ندرك كيف استطاع الآخرون التوغل بهذا القدر ليشكلوا حياتنا، نشعر بالسخط الشديد من هذا الأمر ونصفه بالشيء المخيف الذي ينتهك إرادتنا، وقد يكون هذا اختصارًا لما يشعر به الكثيرون في مجتمع ما يسمى برامج “التواصل الاجتماعي”، وإن كنت أفضل أن أسميه برامج “الفضائح الاجتماعي”، بعد أن أصبح بوابة مفتوحة لاختلاس التنصُّت على الآخرين، وفتح الأبواب دون استئذان للتأثير في شكل إبداء النصح والرأي، تظن أنه آتٍ من متنفذين، خصوصا في الرد على المشاركات المنشورة من أناس تحولت كلماتهم لرأي أو نصيحة تعكس الطابع الشخصي للأصدقاء، فيتحول الأمر مزاجيا أو مجرد رغبة لمجاراة الآخرين، وجميعهم يتلاعبون بوجهات نظرنا ــ وحالتنا المزاجية ــ ويستغلونها، هذا إذا اقتصر الأمر في الحدِّ الأدنى على مجموعة الأصدقاء المدونين بقائمة العناوين الخاصة بالمتصفح.
أما إذا كان الأمر مرتبطا بالخادم فهو الأكثر استفزازًا؛ لأنه يضعنا أمام العديد من علامات الاستفهام بسبب التنصُّت على اهتماماتنا من خلال الدعاية والإعلان لحث المستهلكين على التشوق إلى استهلاك المنتجات ـ المعلن عنها ـ سواء سيارات، أجهزة كهربائية، مواد غذائية، مواد ثقافية، والعديد من الأشياء الاستهلاكية الأخرى التي يصعب حصرها، فيتم عرض الخيارات الاستهلاكية على الناس بشكل مستمر في أول لحظة لبدء التصفح، وينتهي الأمر بعرض أنواع جديدة من السلع تشير إلى تجنب السلع المعروضة سابقًا لصالح اختيار سلع أخرى، تحت حُجة عرض الحديث والجديد في سوق المشتريات، ومع كثرة الإعلانات عن هذه المنتجات يظل المتصفح في حيرة أيهما يختار وأيهما أفضل، ليفقد رويدًا رويدًا حاسته على الاختيار ويقع تحت طائلة جذب الإعلان وإغراء السعر وتسهيلات السداد ليتشكل ويصبح فريسة للإغراء فيفقد السيطرة على حس الاختيار، نتاج قوة خارجة عن نطاق السيطرة جعلتنا نسيء اختياراتنا.
وعلى نحوٍ مماثل، لا يختلف الأمر كثيرًا مع بقية البرامج، كمثال إذا فضلنا اللجوء إلى برامج البحث عن معلومة معينة أو تفضيل لشراء معين، السؤال: هل سيفصح لنا عن الأفضل؟ أم أنه سيقوم بالتعريف بما لديه من منتج يتوفر لديه إعلانات؟ بطبيعة الحال سيقوم بتوصيلك للمنتج الذي يقدم إعلانًا لديه؛ لأن العملية في أصلها تعامل تجاري قائم على الربح المادي، وهذا ما نشاهده أيضًا على قنوات “اليوتيوب” حين نتابع أيًّا من البرامج فنجد الإعلانات تستحوذ على مساحة أكبر من المادة المقدمة. ووصل الأمر أن العديد من أصحاب هذه القنوات الذين بدأوا عملهم من خلالها في تقديم برامج تثقيفية أو توعوية، جذبهم الربح المادي الذي يُقدم إليهم نظير تلك الإعلانات التي تبث من خلال قنواتهم. فأهملوا الرسالة الأساسية لإنشاء القناة ببث مواد جادة على حساب جني الأرباح، ليستمر الاستهانة بعقلية المتصفح ما دام أصبح أداة للربح المادي، وهو ترجمة عملية بأنه في عالم الدعاية والإعلان يكون التلاعب والاستغلال علنيا، ويؤكد ذلك فضائح “التيك توك” الذي ذهب بالبعض لعرض بضائعهم اللاأخلاقية عليه من أجل حصد نسب مشاهدة عالية تدر عليه أرباحا مادية، حتى أن بعض الفتيات الصغيرات ـ حين علمنا بالمكسب المادي السريع من هذا البرنامج ـ أخذن لا يتورعن في عرض مفاتنهن من أجل رفع نسبة المشاهدة في محاولة لجني الأرباح، فتكسرت أمام هذه البرامج أخلاقيات مجتمعات محافظة كانت ماضيًا تنوء بنفسها عن هذه الأشياء.
إن ما تعرضه هذه البرامج يضعنا أمام حقيقة دامغة أننا سُلبت منا إرادتنا وسُلمت للآخرين، وأننا أمام مشكلة تنتظر الحل الذي قد يكون نابعا من قدرتنا على اكتشاف التأثيرات القصيرة والطويلة الأجل المترتبة على أفعالنا وأفعال الآخرين من تلك البرامج، مع تحسس قدرتنا على الذهاب إلى المعرفة التي تنبع من قِيَم مجتمعاتنا وتعاليم ديننا لنأخذ ما يناسبنا ونترك ما لا يعنينا وغلق الباب أمام العبور غير الآمن لثقافتنا.

جودة مرسي
[email protected]
من أسرة تحرير «الوطن»