ظاهرة اللبس غير المحتشم مثل “الشورتات الشفافة والقصيرة، والتنورة الضيِّقة والقصيرة، والسراويل القصيرة فوق الركبة، والقمصان ذات الألوان والأشكال الصارخة والتي تكشف الصدر والكتفين بدون أكمام، وإظهار الوشم لدى البعض في أماكن ظاهرة من الجسم، وإظهار الملابس الداخلية في شكل لافت للنظر من الجنسين، ولبس الفتيات للبنطال الضيِّق الذي يصف تقاسيم الجسد أو ما يحصل من تغليفه بعباءة مفتوحة كليا من الأمام لتُسقط رداء الحياء والخجل، وغيرها من الأشكال التي تقع ضمن دائرة الملابس الفاضحة وغير المحتشمة؛ باتت تُمثِّل اليوم إحدى الظواهر السلبية المنتشرة في مجتمع سلطنة عُمان بين الكبار والشباب، والرجال والنساء، على حدٍّ سواء، والتي قد تأخذ منحى التعدي أو تجاوز الخطوط الحمراء للمبادئ الأخلاقية وانتهاك صارخ لمكوِّنات الهُويَّة العُمانية، وتراجع في قِيَم الالتزام الأخلاقي والقِيَمي في المجتمع العُماني، ومع أن اللبس المحتشم في صفته العامة يُمثِّل إحدى القواعد المهمَّة المعبِّرة عن الالتزام القِيَمي والأخلاقي والمحافظة على الهُويَّة العُمانية، لذلك كان خروج اللبس عن الشروط والمعايير تجاوزا للهُويَّة يبعث على عدم الارتياح، خصوصا في ظل سرعة انتشار هذه الظاهرة واتساع مساحة تداولها، بما تعكسه من انحراف عن الفطرة، واختلال في موازين العفة، وانتقاص لفضيلة الستر ولبس الحَسن من الثياب الذي يعبِّر عن رُقي الفطرة وذوق السلوك.
وعلى الرغم من أن الذين يمارسون هذه الظواهر السلوكية هم نسبة قليلة من أبناء المجتمع العُماني من الجنسين مقارنة بالوافدين المقيمين أو الزائرين إلى سلطنة عُمان، إلا أن اتساع الظاهرة واختلاط الأمور ببعضها وتجاوز قواعد الذوق والرُّقي بات يُمثِّل تحدِّيا اجتماعيا يجب التعامل معه، واتخاذ إجراءات واضحة نحوه وبناء أطر وطنية نافذة على هيئة سياسات أو تشريعات أو ضوابط أو تعميمات أو إجراءات تقنينية وضبطية للحدِّ من انتشارها بين أوساط الفتيات والشباب في الأماكن العامة المفتوحة، سواء في الأسواق والحدائق والمتنزهات وغيرها من البيئات، والظهور في ملابس فاضحة شفافة خادشة للحياء، لا تراعي ذوقا، ولا ترعوي لمشاعر، ولا تحترم قِيَم المجتمع، بل قد تثير الغريزة، وتتيح فرص التقليد والإعجاب ولفت الأنظار، وتبثُّ في ثقافة الشباب وقناعاتهم أشكال العُري والتفسُّخ التي باتت تمارس اليوم في الواقع أو العالم الافتراضي ومنصَّات التواصل الاجتماعي في انتهاك صارخ للقِيَم والأخلاقيات والمبادئ، ودعوة إلى السفور والانحلال والتبرج والسقوط.
ومع اتساع هذه الظاهرة في الأماكن العامة تنامت مطالبات المجتمع بتدخل الجهات المعنية بالدولة في الحدِّ منها بما يحفظ للمجتمع العُماني قِيَمه وأخلاقه، ويمنع انتشارها في الأماكن العامة، والتي أثمرت عن بعض النتائج الإيجابية، خصوصا على مستوى الأماكن العامة المغلقة وبشكل خاص المراكز التجارية الكبيرة وبيئات التسوُّق المغلقة “المولات”، وعبر فرض إجراءات مشدَّدة ومغلَّظة، ومنع الدخول إليها بالملابس الفاضحة غير المحتشمة، بحيث تطلب إدارة المركز التجاري من موظفي الأمن والسلامة بالمركز القائمين على مداخل هذه المراكز بمغادرة المكان وعدم الدخول إليه، احتراما لمشاعر المواطن. ومع ذلك فإن استمرار بعض الممارسات الفردية قائمة في ظل صعوبة تحقيق التزام يمنع دخول هذه الفئة قطعيا، سوف تتلاشى على مرِّ الوقت، في ظل تبنِّي سياسات توعوية وتثقيفية، فمع تشديد إجراءات الرقابة والمتابعة داخل المراكز المغلقة، والتنبيه المباشر عند مداخل المراكز بالالتزام باللوائح المعمول بها وعدم الاكتفاء باللوائح والمنشورات والملصقات، تأتي أهمية التنبيهات المسبقة بلغات مختلفة عبر الموقع الإلكتروني والمنصَّات الاجتماعية والرسائل النصية للجمهور حول اللبس المحتشم المسموح به، الأمر الذي سيضمن التقليل من هذه التجاوزات ووعي المجتمع (المواطن والمقيم والزائر) بهذه الشروط والتزامها في قادم الوقت.
على أن التحدي الأكبر في التعامل مع هذه الظاهرة، وحجم الاتساع فيها يظهر بشكل أكبر في الأماكن العامة المفتوحة والتي يمكن اختصارها في ـ عدم وجود موظفي الأمن والسلامة لمراقبة دخول هذه الأماكن ـ وبالتالي يصبح الأمر مرده إلى القناعة الشخصية والحس الذاتي وعامل الاستحياء أو الخجل الذي يرافق الشخص، إذ ليس غريبا أن تجد أحدهم بملابس فاضحة غير محتشمة وهو ينتظر في صفوف المنتظرين مكائن الصراف الآلي والإيداع البنكي، أو يقوم بالتجوُّل في سوق عام ومكان مفتوح، أو يدخل محال تجارية صغيرة في مكان عام وسوق شعبي، وبات الظهور بهذه الصور للنساء والفتيات وخصوصا الوافدات أمرا متزايدا، في خروج عن المألوف من الطباع، ومناظر يرى فيها آخرون غياب كلي للذوق العام ورُقي المشاعر، وحالة من التقزز والاشمئزاز وعدم الارتياح. وعليه كان الأمر بحاجة إلى مزيد من التعمق والبحث عن خيارات أوسع في الحدِّ من انتشار هذه الظاهرة بين الوافدين والمواطنين على حد سواء، وعبر تعزيز إجراءات الرقابة والمتابعة والضبطية، التي تأتي بشكل متوازن مع وضوح السياسات والبرامج الداعمة والخطط والمبادرات الوطنية المجسدة لرؤية عُمان 2040 في محور الإنسان والمجتمع، وفي مجال تعزيز الهُويَّة الوطنية وتأصيل القِيَم العُمانية بما يتطلبه ذلك من لوائح وأنظمة عمل وقرارات وقائية تعالج هذه الظواهر وتمنع انتشارها في الأماكن العامة، وتمنح الجهات الأمنية والقضائية والقانونية والفئات العاملة بها صلاحية الضبطية القضائية في مخالفة كل ما يقع منه هذا السلوك، مع توفير خط اتصال رسمي للإبلاغ عن هذه الحالات، هذا الأمر من شأنه حماية المنظومة الأخلاقية الوطنية والسلوك العام، والمحافظة على الذوق العام واحترام المشاعر المجتمعية.
وعود على بدء، فإن ما يمنحنا مساحة أوسع من التفاؤلية واليقين بتجاوب الجهات المعنية بالدولة مع نداءات المواطنين، وسرعة إيجاد معالجات جادة لهذه الظاهرة، يرجع إلى حضور مفاهيم الذوق ومراعاة المشاعر واحترام قِيَم المجتمع وخصوصية الأماكن العامة واللبس المحتشم بشكل صريح أو ضمني في المنظومة التشريعية بسلطنة عُمان، حيث حفل النظام الأساسي للدولة الصادر بالمرسوم السلطاني (6/2021) بالعديد من المواد التي تبرز الاحتشام والعفة والذوق العام وإدارة المشاعر المجتمعية واحترام خصوصية المجتمع العُماني وتقاليده والالتزام بالآداب العامة، فقد جاء في “الباب الثالث: الحقوق والواجبات العامة: في المادة (٤٢): يتمتع كل مقيم أو موجود في السلطنة بصفة قانونية بحماية شخصه وأملاكه طبقا للقانون، وعليه الالتزام بالتشريعات والقوانين المعمول بها، ومراعاة قِيَم المجتمع، واحترام تقاليده ومشاعره. وجاء في المادة (٤٧):احترام النظام الأساسي للدولة، والقوانين، والمراسيم والأوامر السلطانية، واللوائح، والقرارات الصادرة من السلطات العامة تنفيذا لها، ومراعاة النظام العام، واحترام الآداب العامة واجب على المواطنين والمقيمين والموجودين في السلطنة”. كما جاء في قانون الجزاء العُماني الصادر بالمرسوم السلطاني رقم (7/2018) ما يشير إلى المعنى نفسه، حيث أوردت المادة (294) “يعاقب بالسجن لمدة لا تقل عن شهر، ولا تزيد عن 3 أشهر وبغرامة لا تقل عن 100 ريال عُماني ولا تزيد على 300 ريال عُمان أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من: أ- ظهر في الطرق أو الأماكن العامة بطريقة تخدش الحياء العام أو تتنافى مع تقاليد وأعراف المجتمع”، كما تعمَّق المشرع العُماني في التأكيد على استحضار الحياء والذوق العام والمشاعر المجتمعية ومنع كل ما يؤدي إلى خدش الحياء ليس فقط في الظهور بملابس قصيرة أو شفافة أو فاضحة بل في منع استيراد الملابس التي تحتوي على الصور والشعارات المسيئة والخادشة للحياء والمخلة بالنظام العام والآداب، في أدق تعبير عن إنكاره لهذا التصرف أو السلوك، فقد أصدرت وزارة التجارة والصناعة وترويج الاستثمار قرارا وزاريا رقم (270/2015) بشأن حظر استيراد بعض المنتجات، حيث جاء في المادة (1): يحظر استيراد الملابس الجاهزة والأقمشة والمنسوجات والأحذية وجميع البضائع، وذلك في الحالات الآتية: ١ – إذا احتوت على ما يمس الشرائع السماوية، 2- إذا احتوت على الصور أو الشعارات أو العبارات المسيئة، أو الخادشة للحياء أو المخلة بالنظام العام والآداب، ٣ – إذا احتوت على الصور أو الشعارات أو العبارات التي تتعلق بأي تنظيم إرهابي، وفي جميع الأحوال يحظر الترويج للبضائع المذكورة بأي وسيلة كانت.
ويظهر مما سبق أن المشرع العُماني قد تناول موضوع الاحتشام بشكل واضح وصريح، وتطرق إلى قضايا أخرى غير منظورة على المدى البعيد لتأخذ الأحكام نفسها، مما يؤكد على أن ثقافة الاحتشام والعفة والوقار والذوق الراقي ومراعاة المزاج العام قِيَم حضارية عُمانية أصيلة، وقواعد ثابتة لا يختلف عليها اثنان، بما يؤسسه من الحاجة إلى مزيد من التكامل في الجهود والتقارب في الرؤى للوصول إلى سياسات وطنية لمراقبة ومتابعة فرض قواعد اللبس المحتشم في الأماكن العامة، وبالتالي توظيف المكوّن التشريعي في فرض القواعد والضوابط المعززة للاحتشام في الأماكن العامة والمعالجة الحكيمة لهذه الظواهر السلبية التي باتت تتعدى على حرمات المجتمع وخصوصياته في ظل استشعار الآخر(الممارس للبس غير المحتشم) للروح الإيجابية التي يحافظ بها المجتمع العُماني على قِيَمه ومبادئه في إطار المشتركات القِيَمية والمؤتلفات الإنسانية وروح السلام والتعايش التي تسري فيه.


د. رجب بن علي العويسي
[email protected]