أيها الأحبة الأكارم.. ونحن قد نزلنا ساحة كريم أهلها.. فضلاء ذوو همم حتى أصبحوا لكل راء كالقمم.إنها ساحة الصحابي الجليل أسيد بن خضير.. رجل المواقف، ذو الرأي الحاسم والسيف القاصم والعدل القاسم، ومن أجمل ما وهبه الله تعالى حسن صوته وإحسانه، وجمال تلاوته وإتقانه، ما روي أن الملائكة يحضرون عند تلاوته فـ(عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ سَمِعْتُ الْبَرَاءَ يَقُولُ بَيْنَمَا رَجُلٌ يَقْرَأُ الْكَهْفَ إِذَ رَأَى سَوَادَ دَابَّتِهِ تَرْكُضُ فَنَظَرَ فَإِذَا مِثْلُ الْغَمَامَةِ أَوِ السَّحَابَةِ فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ تِلْكَ السَّكِينَةُ نَزَلَتْ مَعَ الْقُرْآنِ أَوْ أُنْزِلَتْ عَلَى الْقُرْآنِ)، و(أنبا إِسْحَاقَ عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: كَانَ رَجُلٌ يَقْرَأُ سُورَةَ الْكَهْفِ وَإِلَى جَانِبِهِ حِصَانٌ مَرْبُوطٌ بِشَطَنَيْنِ فَتَغَشَّتْهُ سَحَابَةٌ فَجعلت تَدْنُو وتدنو وَجَعَلَ فَرَسُهُ يَنْفُرُ فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَى النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ تِلْكَ السَّكِينَةُ تَنْزِلُ بِالْقُرْآنِ)، و(الرَّجُلُ هُوَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ).و(عَنِ ابْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ. جَاءَ أُسَيْدٌ إِلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَالَ: قُمْتُ أُصَلِّي الْبَارِحَةَ وَفَرَسِي مَرْبُوطٌ وَامْرَأَتِي حُبْلَى فَسَقَطَتْ عَلِيَّ شَبِيهُ الْغَمَامَةِ فَخَشِيتُ أَنْ يَنْفِرَ فَرَسِي وَتَضَعُ امْرَأَتِي، قَالَ: اقْرَأْ أُسَيْدُ ذَلِكَ مَلَكٌ جَاءَ يَسْمَعُ الْقُرْآنَ) (غوامض الأسماء المبهمة 2/ 781)، وأخرج مثله الطبراني في (الأوسط ) (180) بسنده:(عن أبى سعيد الخُدْري، عن أسيد بن خضيرٍ أنه بينما هو يقرأ سورة البقرة، وفرسُهُ مربوط، فجال الفرس في طِوَله، فرفع رأسه، فإذا مثل القنديل مدلى بين السماء والأرض، فغدا على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأخبره، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: “اقرأ يا أسيد بن حضير، هل تدري ما هي؟ قال: لا، قال: تلك السكينة، دنت لصوتك، ولو قرأت أصبح الناس ينظرون إليها) (تنبيه الهاجد إلى ما وقع من النظر في كتب الأماجد 1/ 81).فهذه كرامات الصالحين الذين أخلصوا لله في أقوالهم وأفعالهم وحركاتهم وسكناتهم وكل أمورهم ، فصفت أرواحهم ونورت قلوبهم فكانوا يرون بالقلوب أكثر ما يرون بالعيون، ومن الكرامات التي حدثت لهذا الصحابي الجليل أسيد بن خضير غير ما سبق ما ذكره ما ذكره غير واحد، منهم صاحب (المنتظم في تاريخ الملوك والأمم 4/ 296)، و(عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ أُسَيْدُ بْنُ خُضَيْرٍ وَعَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ـ صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ ـ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ حِنْدِسٍ، فَتَحَدَّثَا عِنْدَهُ حتى إِذَا خَرَجَا أَضَاءَتْ لَهُمَا عَصًا، فَمَشَيَا فِي ضَوْئِهَا، فَلَمَّا تَفَرَّقَ بِهِمَا الطَّرِيقُ أَضَاءَتْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَصَاهُ، فَمَشَى فِي ضَوْئِهَا) (أَخْرَجَهُ البخاري)، ومن أجمل التعليقات على هذه الرواية ما ذكر ابن حجر في (فتح الباري 1/ 558):(أن الرجلين تأخرا مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في المسجد في تلك الليلة المظلمة لانتظار صلاة العشاء معه فعلى هذا كان يليق أن يترجم له فضل المشي إلى المسجد في الليلة المظلمة ويلمح بحديث بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة وقد أخرجه أبو داود وغيره من حديث بريد وظهر شاهده في حديث الباب لإكرام الله تعالى هذين الصحابيين بهذا النور الظاهر وادخر لهما يوم القيامة ما هو أعظم وأتم من ذلك إن شاء الله تعالى)، ويعقب الراجحي أيضًا في (شرح تفسير ابن كثير - 28/ 5، بترقيم الشاملة آليًا) على هذه الرواية فيقول:(إن كان الشخص مستقيمًا على طاعة الله فهذه كرامة حصلت له ببركة اتباعه النبي، كمثل ما حصل لـ”أسيد بن خضير وعباد البشر”، حيث خرج مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ليلة مظلمة فأضاء لهما، فلما افترقا أضاء لكل واحد منهم حتى وصل إلى بيته، وكما حصل لـعمر ـ رضي الله عنه ـ حيث كان يخطب على المنبر فدعا: يا سارية! الجبل الجبل، وكان جيشه في العرق، وكما حصل للعلاء بن الحضرمي حيث عبر هو وجيشه نهر دجلة والفرات على أقدامه والخيل، لكن بعد أن نظر إليهم وطاف بهم خلف العدو، في الليل ركعًا وسجدًا يبكون ويتضرعون، وفي النهار مجاهدين في سبيل الله) وقد حدثت من الكرامات أيضا لكثير من الصحابة، فمثلًا ما ورد في (تحفة الأحوذي 10/ 235):(قَالَ الْعَيْنِيُّ قَدْ رُوِيَ اهْتِزَازُ الْعَرْشِ لِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ وَأُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ وَأَسْمَاءُ بِنْتُ يَزِيدَ بْنِ السكن وعبد الله بن بدر وبن عُمَرَ بِلَفْظِ “اهْتَزَّ الْعَرْشُ فَرَحًا بِسَعْدٍ”).وَقَالَ الْحَافِظُ:(قَدْ جَاءَ حَدِيثُ اهْتِزَازِ الْعَرْشِ لِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ عَنْ عَشْ9رَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَأَكْثَرَ انْتَهَى).ومما امتن الله تعالى به على هذا الصحابي الجليل أسيد بن خضير ما ورد في كثير من الكتب أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد مدح أسيدًا وليس وحده بل كان هو وجمع من الصحابة الكرام معه، كما ورد في (تهذيب الكمال في أسماء الرجال 28/ 110):(عَن أَبِي هُرَيْرة: قال رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: “نِعْمَ الرَّجُلُ أَبُو بَكْر، نِعْمَ الرَّجُلُ عُمَر، نِعْمَ الرَّجُلُ أَبُو عُبَيدة بْنُ الْجَرَّاحِ، نِعْمَ الرَّجُلُ أُسَيْدُ بْنُ خضير.. الحديث).ومن ولائه وبرائه لدين الله ولرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما ذكره صاحب (شمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم 5/ 3294) قال:(وفي حديث أسيد بن خُضَيْر الأنصاري أنه قال لعامر بن الطفيل: والله لو سألتنا سَيَابةً ـ السَّيَاب: البلح، واحدته: سَيَابَةٌ، بالهاء، وبها سمي الرجل: سَيابة ـ ما أعطيناكها، وذلك حين قال النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ لعامر: أسلم. فقال له عامر: على أن تجعل لي نصف ثمار المدينة وتجعلني ولي الأمر من بعدك).ومن غيرته على دين الله أيضًا موقفه المشهود (في غزوة بني المصطلق حينما تحركت مغايظ عبد الله بن أبيّ بن سلول المنافق فقال لمن حوله من أهل المدينة لما خرج رسول الله:”لقد أحللتمومهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم. أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحوّلوا الى غير دياركم. أما والله لئن رجعنا الى المدينة ليخرجنّ الأعز منها الأذل. سمع الصحابي الجليل زيد بن الأرقم هذه الكلمات، بل هذه السموم المنافقة المسعورة، فكان حقا عليه أن يخبر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتألم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كثيرًا، وقابله أسيد بن خضير فقال له النبي ـ عليه الصلاة والسلام: أوما بلغك ما قال صاحبكم؟ قال أسيد: وأيّ صاحب يا رسول الله؟ قال الرسول: عبد الله بن أبيّ! قال أسيد: وماذا قال؟ قال الرسول: زعم انه إن رجع الى المدينة ليخرجنّ الأعز منها الأذل. قال أسيد: فأنت والله، يا رسول الله، تخرجه منها ان شاء الله. هو والله الذليل، وأنت العزيز. ثم قال أسيد: يا رسول الله ارفق به، فوالله لقد جاءنا الله بك وأن قومه لينظمون له الخرز ليتوّجوه على المدينة ملكا، فهو يرى أن الإسلام قد سلبه ملكا”. بهذا التفكير الهادئ العميق المتزن الواضح، كان أسيد دائما يعالج القضايا ببديهة حاضرة وثاقبة) (رجال حول الرسول، ص: 336) مرجع سابق.ومن حبه لصحابة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما جاء في (موطأ مالك ت: الأعظمي 2/ 72): (عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، أَنَّهَا قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْبَيْدَاءِ، أَوْ بِذَاتِ الْجَيْشِ، انْقَطَعَ عِقْدٌ لِي. فَأَقَامَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ عَلَى الْتِمَاسِهِ. وَأَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ. وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ. وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ. فَأَتَى النَّاسُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، فَقَالُوا: أَلاَ تَرَى مَا صَنَعَتْ عَائِشَةُ؟ أَقَامَتْ بِرَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وَبِالنَّاسِ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ. وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ. قَالَتْ: فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ وَرَسُولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وَاضِعٌ رَأْسَهُ عَلَى فَخِذِي، قَدْ نَامَ. فَقَالَ: حَبَسْتِ رَسُولَ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وَالنَّاسَ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ. وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَعَاتَبَنِي أَبُو بَكْرٍ، وَقَالَ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَقُولَ. وَجَعَلَ يَطْعُنُ بِيَدِهِ فِي خَاصِرَتِي. فَلاَ يَمْنَعُنِي مِنَ التَّحَرُّكِ إِلاَّ مَكَانُ رَأْسِ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ عَلَى فَخِذِي. فَنَامَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ حَتَّى أَصْبَحَ عَلَى غَيْرِ مَاءٍ. فَأَنْزَلَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى آيَةَ التَّيَمُّمِ. فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ: مَا هِيَ بِأَوَّلِ بَرَكِتِكُمْ يَا آلَ أَبِي بَكْرٍ. قَالَتْ: فَبَعَثْنَا الْبَعِيرَ الَّذِي كُنْتُ عَلَيْهِ، فَوَجَدْنَا الْعِقْدَ تَحْتَهُ).فسبحان الله الذي نور بصائرهم فراءوا ما لم يره الناظرون.. وللحديث بقية.* محمود عدلي الشريف [email protected]