صحيح أن اللحاق بالعلوم الحديثة في غاية الأهمية، لكن لا يجب أن يكون ذلك على حساب إهمال التاريخ مثلا. فكما أشرنا في البداية، بدون علوم مِثل التاريخ لن تكون دراسة ميكانيكا السيارات مثلا بالجودة والإبداع نفسه لدى من يدرس العلوم الإنسانية مع علوم الهندسة والتكنولوجيا. هناك قاعدة بسيطة في الطب، وأعتقد في أغلب العلوم التطبيقية، هي أن “التشخيص نصف العلاج”. فالتشخيص الصحيح للمرض يعني إعطاء الدواء الصحيح أو التدخل الجراحي المناسب ما يعني نسبة شفاء أعلى. وكذلك في كثير من المشاكل، من الأعطال الهندسية إلى الأضرار المادية يكون التشخيص الصحيح مقدمة للحل الأفضل والإصلاح المناسب الأكثر جودة. في كل تلك الحالات لا يمكن التشخيص الصحيح، أي نصف العلاج الأولي، بدون معرفة “تاريخ الحالة” كما يسميه الأطباء. وإذا لم يعرف تاريخ الحالة، أو تاريخ العطب في أي شيء آخر يحتاج علاجا غير جسم بشري، بدقة وبشكل وافٍ وصحيح لن يكون التشخيص سليما تماما، وبالتالي قد لا ينجح العلاج أو الإصلاح بالشكل الأمثل. من هنا تأتي أهمية التاريخ، بشكل عام وفي كل شيء. فبدون التاريخ لا نستطيع أن نتطور أو نحسن من حياتنا وقدراتنا على مواجهة التحديات التقليدية والمستحدثة في حياة البشرية على كوكب الأرض.هكذا، ليس التاريخ مجرد مادة للتفاخر والسجال النظري والاستمتاع السياحي فحسب، بل هو علم ضروري لحياتنا مثل بقية العلوم والمعارف التي يستند إليها نشاطنا في كافة مناحي الحياة. وليس فقط مجرد مادة لاستخلاص الدروس كي لا نكرر الأخطاء أو كي نحسن أداءنا، أو لنحشد الناس من جماعات معينة وراء هدف آني سياسيا أو غيره، وإنما فضلا عن ذلك، فالتاريخ معرفة أساسية للبناء على ما سبق كي نحدث التطور في حياتنا بشتَّى أوجهها. فبدون التاريخ، كان الإنسان ليبدأ مجددا في كل شيء كل مرة تواجهه الطبيعة بشيء جديد، أو في سعيه لتحديث أدوات إعماره للأرض. ربما يبدو للبعض أن التاريخ مثلا أقل أهمية من الجغرافيا، التي يحتاج الإنسان لعلومها كي يسيطر على البيئة المحيطة ويوظفها لخدمة متطلباته. لكن الحقيقة أن التاريخ لا يقل أهمية عن الجغرافيا، كما أنهما علمان متكاملان، لذا في أغلب المناهج الدراسية تجدهما يدرسان معا “تاريخ وجغرافيا”. ويحتاج المرء مجلدات من النماذج والأمثلة على أهمية التاريخ والجغرافيا لحياة البشر وضرورة أن يحظى كل إنسان بقدر من العلم بهما، وأن يكون هناك دائما من يكرس حياته لدراستهما بشكل أعمق.كل تلك المقدمة هي فقط للتذكير بتلك الأهمية للتاريخ مع ظهور توجهات نحو إهمال هذا العلم لصالح علوم يراها البعض أكثر “عملية” وتلبِّي حاجة سوق العمل وتحقق الربح الفردي والجماعي للدول والمناطق. لا غضاضة بالطبع تجاه الاهتمام بعلوم أخرى، خصوصا التكنولوجية منها، لكن تلك العلوم وتطبيقاتها في حياة البشر لا يمكن أن يكون ناتجها إيجابيا على المدى الطويل ما لم تكن محاطة بمعرفة بالتاريخ وغيره من العلوم الإنسانية. هناك دافعان، في تصوري، وراء تلك التوجهات التي يمكن أن تقود إلى نتائج كارثية بدأنا نشعر بمقدماتها في أجيال جديدة تُمثِّل نماذج التطور التكنولوجي مثالا يحتذى لها. الدافع الأول هو أن القوى المتسيدة في العالم لا تريد التاريخ سوى “حكايات فلكلور شعبي” ومادة لقلة من المتخصصين وفي النهاية “فرجة” للسائحين لا تعني لهم أكثر من استمتاع لحظي. تلك القوى في أغلبها ليس لها “تاريخ”، كمثال الدول الغنية الحديثة التي بناها مهاجرون من قارة أوروبا بعدما أبادوا السكان الأصليين أو وضعوهم في محميات مغلقة. في مقدمة هؤلاء القوى العظمى الوحيدة في العالم الآن، أميركا، ومعها أستراليا ونيوزيلاندا وكندا. ورغم أن تاريخ هؤلاء يعود إلى تاريخ أوروبا القديم، ويدرسونه في المدارس، لكنهم منفصلون عنه تماما. وبما أنهم لم يراكموا تاريخا لهم كشعوب ودول بعد فلا يريدون أن يكون التاريخ ودراسته إلا بهذه الطريقة من “الانفصال” وكأنه “مجموعة أساطير بها قدر من الحقائق”. هذه القوى تريد أن يبدأ التاريخ من تكونها قبل سنوات قليلة لا تتجاوز بضع مئات، وما الاندفاع نحو تطوير “العالم الموازي للحقيقة” و”الحياة الافتراضية” عبر الإنترنت وحتى استكشاف الفضاء والكواكب الأخرى سوى عرض آخر لهذا التوجُّه. فمنها يريدون أن يبدأ التاريخ، تاريخهم، وأن يختفي ذلك التاريخ التقليدي بالمعنى الذي نعرفه. وهذا ربما ما يفسر أنه في كل الحروب المعاصرة، تستهدف تلك القوى الآثار القديمة في كل البلاد التي تقصفها من أفغانستان إلى العراق إلى سوريا وقبل ذلك حتى في يوغسلافيا السابقة. ولم يكن ذلك أبدا لمبررات حربية عسكرية، بل فقط لمحو التاريخ.الدافع الثاني، هو في الأغلب عرضي تماما ويحمل قدرا من “تقليد الغرب” باعتباره النموذج الغني الناجح. وهذا بدأ يظهر في مجتمعاتنا والمناطق المماثلة، وهو إهمال دراسة علوم مثل التاريخ والجغرافيا والإنسانيات عموما لصالح علوم حديثة وأساسيات التكنولوجيا وغيرها. صحيح أن اللحاق بالعلوم الحديثة في غاية الأهمية، لكن لا يجب أن يكون ذلك على حساب إهمال التاريخ مثلا. فكما أشرنا في البداية، بدون علوم مِثل التاريخ لن تكون دراسة ميكانيكا السيارات مثلا بالجودة والإبداع نفسه لدى من يدرس العلوم الإنسانية مع علوم الهندسة والتكنولوجيا. رأيي أن المشكلة فيما يتعلق بالدافع هذا لدى بعض هذه الدول والمجتمعات مرتبط بتصور سطحي للتطور والتحديث. كمثال، ترى أغلب الأجيال الجديدة ـ يشجعهم الإعلام وحتى السياسيين بتصريحاتهم أحيانا ـ حين تسألهم يريدون أن يعملوا في مجال التكنولوجيا، بل وأن يكون مشروعهم “تطوير تطبيق جديد”. وكأن كل من يطرو تطبيقا سيتمكن من بيعه بالملايين ويحقق مكسبا سريعا وكبيرا بجهد بسيط. بالضبط مثل الأطفال في أجيال سابقة حين كانوا كلهم يريدون أن يلعبوا الكرة ليصبحوا نجوما وأغنياء!! وحين يكبروا ويزداد وعيهم يدركون أن ذلك نصيب عدد محدود جدا ولا يمكن أن يكون “مهنة” للكل. د.أحمد مصطفى أحمدكاتب صحفي مصري[email protected]