محمود عدلي الشريف:
أيها القراء الكرام.. إن الله تعالى جبل النفوس على حب التملك والأخذ، والسيطرة والتحكم، كما أنها جبلت أيضا ترك ذلك، فقد تتحلى بالزهد والعطاء، والتسامح والرضوخ والقبول، فعندما تتخلى عن القبيح من الصفات تستطيع أن تستبدلها إلى ما هو حسن جميل، وإذا استطاعت النفس أن تتخلي عن صفات القبح والسوء ارتقت وسمت وعلت وصفت، وقد تستخدم النفس صفات السيء القبيح هي ذاتها في الحسن الجميل، وهذا الأخير مما يجعل النفس ترتقى عما جبلت عليه.
ومن تلك الأشياء التي ترقى بها النفس وتستكمل عفافها (الطمع المحمود) وهو في الأصل مذموم، وقد ينقلب إلى طمع محمود، وهذا محل حديثنا اليوم، قال بعض العارفين:(الطمع طمعان: طمع يوجب الذل لله، وهو إظهار الافتقار وغايته العجز والانكسار وغايته الشرف والعز والسعادة الأبدية، وطمع يوجب الذل في الدارين، وهو رأس حب الدنيا، وحب الدنيا رأس كل خطيئة، والخطيئة ذل وخزي، وحقيقة الطمع أن تعلق همتك وقلبك وأملك بما ليس عندك فإذا أمطرت مياه الآمال على أرض الوجود، وألقي فيها بذر الطمع بسقت أغصانها بالذل ومتى طمعت في الآخرة وأنت غارق في بحر الهوى ضللت وأضللت) (موسوعة الأخلاق الإسلامية ـ الدرر السنية “2/ 315”، بترقيم الشاملة آليًا).
فالطمع المحمود هو وصف يليق بأصحاب الأخلاق المكرمة والصفات الحسنة، وليس الأمر عند هذا الحد فالطمع المحمود ذاته موسوعة كاملة ليست بالصغيرة ولا بالضيقة بل هي واسعة، فالطمع المحمود إذا انتشر في المجتمع لا شك أنه يزرع فيه مبدأ البذل ويحفز التضحية ويزيد الإيثار فيحب كل منهم للآخرين ما يحب لنفسه، فتنتشر المحبة والسماحة وزيادة الثقة وتوطين الأمن والأمان، فالتاجر إذا باع أو اشترى باع بصدق يتبادل البضائع بثمن التف بوثاق الذمة والثقة، فستقيم الأسعار ولا تحتكر البضائع، والمعلم إذا علم وقف أمام تلامذته قاصدا وجه الله تعالى يعلمهم السلوك القويم بتعاليم الدين الحنيف كما يشرح لهم مسائل العلم، ليهتموا بتهذيب أنفسهم وترويضها على الصبر في ميادين العلم ومنابر الطاعات، فيخرج العلماء المخلصين، وهكذا يكون كل فرد على ثغر من ثغور الخير والبر، ويا فرحتاه!! إذا أصبحت تلك الأخلاق الحميدة تتوارث بينهم.
وليكن الطمع فيما عند الله ـ إخوة الإيمان ـ هو شغلنا الشاغل والرجاء الذي لا ينقطع ولا ينضب، فهو دليل على حسن الظن بالله وبما عنده، كما أنه من الأدلة على قوة الثقة بالله، وزيادة الإيمان به سبحانه، والبركة في الرزق والأموال والأولاد، ألا تعلموا أنه من الطرق الموصلة إلى جنة الخلد ـ نسأل الله تعالى أن يجعلنا من أهلها جميعًا، كما أن الطمع المحمود يجعل صاحبه عظيم عند الله وعند الناس، ما يصدر منه إلا خير ولا ينتج عنه إلا خيرا، يسود عمله الإخلاص ـ حق الإخلاص ـ بلا سمعة بين الناس ولا رياء في دينه، في قناعة يحيا وبحمد الله يعيش فلا تلتفت نظره شهوات الحياة وملذاتها، ولا يخطفه بهرج الدنيا وزخرفها، فلا ينجرف وراء المغريات التي تنتج عنها السيئات، يخرج الحرص من قبله (تعلق أشعب بأستار الكعبة، وسأل الله أن يخرج الحرص من قلبه. فلما انصرف، مر بمجالس قريش، فسألهم، فما أعطاه أحد منهم شيئًا. فرجع إلى أمه فقالت له: يا بني كيف جئتني خائبًا. فقال: إني سألت الله أن يخرج الحرص من قلبي. فقالت: ارجع يا بني، فاستقله ذاك. قال أشعب: فرجعت، فتعلقت بأستار الكعبة وقلت: يا رب، كنت سألتك أن تخرج الطمع من قلبي، فأقلني. ثم مررت بمجالس قريش فسألتهم فأعطوني. ووهب لي رجل غلامًا. فجئت إلى أمي بحمار موقر من كل شيء، وبغلام، فقالت لي: ما هذا الغلام؟ فأشفقت من أن أقول: وهب لي، فتموت فرحًا، فقلت: غينٌ، فقالت: وما غينٌ؟ قلت: لامٌ، قالت: وما لامٌ؟ قلت: ألفٌ، قالت: وما ألفٌ؟ قلت: ميمٌ، قالت: وما ميمٌ؟ قلت: وُهِب لي غُلامٌ. فغشي عليها من الفرح، ولو لم أقطِّع الحروف لماتت) (الزاهر في معاني كلمات الناس 2/ 217).
فالطمع المحمود هو إحساس يشعر النفس بالغنى الدائم مهما قل المال أو كثر، ولم لا؟! والطمع المحمود يلزم صاحبه الطريق المستقيم، كما أنه يحرص على مجالسة أهل الصلاح وصحبتهم، ويعمي عينيه عن المعوج من الطرق الملتوية المحرمة، ويصرفه عن رفقاء السوء، بل يسارع في الطيب من القول والصالح من العمل، تزدهر حياته مع الزهد في الدنيا والاهتمام بتزكية النفس وتهذيبها وتربيتها، دائم التأمل في نعم الله الكثيرة المتنوعة والمختلفة، ويشكره عليها، يتحلى بالورع والتسليم لقضاء الله وقدره، لا يكل ولا يمل من اللجوء إلى الله والاستعانة به، مجاهدا نفسه على القناعة والتعفف، (والعفة إذا تقوت ولدت القناعة، والقناعة تمنع عن الطمع في مال الغير فتولد الأمانة) (الذريعة الى مكارم الشريعة ص: 115)، فبالقناعة الطمأنينة للقلب وبالتعفف الراحة للنفس، متيقنا بأنه لن يموت حتى يستكمل رزقه وأجله، وبهذا يعود على صاحبه بالفوز في الدنيا والفلاح في الآخرة.

وأختم بهذه القصة التي ذكرها صاحب (موارد الظمآن لدروس الزمان 2/ 84) ذكر:(أنه قدم أمير المؤمنين المنصور مكة شرفها الله حاجا فكان يخرج من دار الندوة إلى الطواف في آخر الليل، يطوف ويصلي ولا يعلم به، فإذا طلع الفجر، رجع إلى دار الندوة، وجاء المؤذنون فسلموا عليه وأقيمت الصلاة فيصلي بالناس. فخرج ذات ليلة حين أسحر فبينما هو يطوف إذ سمع رجلا عند الملتزم وهو يقول: اللهم إني أشكو إليك ظهور البغي والفساد في الأرض، وما يحول بين الحق وأهله من الظلم، والطمع، فأسرع المنصور في مشيه، حتى ملء مسامعه من قوله وفهم قوله كله. ثم خرج فجلس ناحية من المسجد، وأرسل إليه فدعاه، فأتاه الرسول وقال له: أجب أمير المؤمنين، فصلى ركعتين واستلم الركن وأقبل مع الرسول فسلم عليه، فقال له المنصور: ما هذا الذي سمعتك تقول من ظهور البغي والفساد في الأرض وما يحول بين الحق وأهله من الطمع والظلم، فوالله لقد حشوت مسامعي ما أمرضني وأقلقني. فقال: يا أمير المؤمنين إن أمنتني على نفسي أنبأتك بالأمور من أصولها إلا اقتصرت على نفسي ففيها لي شغل شاغل، فقال له: أنت آمن على نفسك. فقال الذي دخله الطمع حتى حال بينه وبين الحق وإصلاح ما ظهر من البغي والفساد في الأرض أنت. فقال: ويحك يدخلني الطمع والصفراء والبيضاء في يدي والحلو والحامض في قبضتي؟ قال: وهل دخل أحد من الطمع ما دخلك يا أمير المؤمنين إن الله تعالى استرعاك أمور المسلمين وأموالهم فأغفلت أمورهم واهتممت بجمع أموالهم. وجعلت بينك وبينهم حجابًا من الجص، والآجر وأبوابًا من الحديد وحجبة معهم السلاح ثم سجنت نفسك فيها عنهم وبعثت عمالك في جمع الأموال وجبايتها. واتخذت وزراء وأعوانًا ظلمة إن نسيت لم يذكروك وإن ذكرت لم يعينوك وقويتهم على ظلم الناس بالأموال والكراع، والسلاح وأمرت بأن لا يدخل عليك من الناس إلا فلان وفلان ولم تأمر بإيصال المظلوم والملهوف ولا الجائع ولا العاري ولا الضعيف ولا الفقير ولا أحد. فلما رآك هؤلاء النفر الذين استخلصتهم لنفسك وآثرتهم على رعيتك وأمرتهم أن لا يحجبوا عنك تجبي الأموال ولا تقسمها قالوا: هذا قد خان الله فما لنا لا نخونه وقد سخر لنا. فائتمروا على ألا يصل إليك من علم أخبار الناس إلا ما أرادوا وألا يخرج لك عامل فيخالف لهم أمرا إلا أقصوه. فلما انتشر ذلك عنك وعنهم، أعظمهم الناس، وهابوهم وكان أول من صانعهم عمالك بالهدايا والأموال ليتقووا بهم على ظلم رعيتك. ثم فعل ذلك ذوو القدرة والثروة من رعيتك لينالوا ظلم من دونهم من الرعية فامتلأت بلاد الله بالطمع بغيا وفسادا وصار هؤلاء القوم شركاءك في سلطانك وأنت غافل. فإن جاء متظلم حيل بينه وبين الدخول إليك، فإن جاء ذلك الرجل وبلغ بطانتك سألوا صاحب المظالم ألا يرفع مظلمته. فلا يزال المظلوم يختلف إليه ويلوذ به ويشكو، ويستغيث وهو يدفعه ويعتلي عليه، فإذا جهد، وأخرج وظهرت صرخ بين يديك فيضرب ضربا مبرحا، ليكون نكالا بغيره، وأنت تنظر، ولا تنكر ولا تغني، فما بقاء الإسلام وأهله على هذا).
هكذا إخوة الإيمان تكون مميزات الطمع المحمود وحسناته، وتكون أيضا مساوئ الطمع المذموم وسيئاته، جعلنا الله وإياكم ممن يطمع في رضاه ورحمته.