د جمال عبد العزيز أحمد:
كلما اقتربت ليلة النصف من شعبان تأهب القلب، وهش الفؤاد لذلك اليوم الذي تحققت فيه شخصيةُ المسلم، وصار له تفردُه التام بقبلته، وعباداته، وتوجُّهه تجاه الكعبة المشرفة التي كان يقلب الرسول الكريم وجهه في السماء داعيًا باكيًا أن يحوِّله الله إليها هو والمسلمون معه، مصداقًا لقول الله تعالى:(قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) (البقرة ـ 144)، فكان يولي وجهه قِبَلَ السماء لأجل أن يكون له وجهة خاصة، ورؤية خاصة، وتفرد في العبادة خاص.

إنه يوم تحويل القبلة، وتلبية ما في القلب، والفؤاد للرسول الكريم، إنه اليوم الكريم على كلِّ مسلم؛ حيث الكعبة المشرفة، ومكة المكرمة، أم القرى، وحيث أول بيت وُضع للناس، وهذه الليلة لها تسميات كثيرة، منها أنها ليلة البراءة، وليلة الدعاء، وليلة القِسمة، وليلة الإجابة، والليلة المباركة، وليلة الشفاعة، وليلة الغفران، والعتق من النيران، ويوم المرحمة، ويوم القبول، ويوم الرضا.

هي ليلة مباركة بكل المقاييس، وقد وردتْ فيها أحاديثُ تُوصَف في بعضها بالصحة، وفي بعضها الآخر بالضعف، لكنها في الختام أحاديث يُعمَل بها في فضائل الأعمال، والجميع يرفع أكفَّه لله، عسى أن يُستجابَ لنا جميعًا، والله يدخل الصالحين في المحسنين، ويغفر لنا ولكم فيها أجمعين، ويكتبنا في الفائزين.

ومن تلك الأمور التي يجب التنبه إليها، وتبين فضائل ذلك الشهر، وتلك الليلة الكريمة، أن شهر شعبان ـ وفيه ليلة النصف منه ـ تُرفَع فيه الأعمال، فالأعمال طوال العام تُجْمَع، ولكنها تبقى ولا تُرفَع إلى ربِّ العالمين إلا في هذا الشهر، فهو الشهر المبارك، شهر القبول، والمغفرة، وشهر التجاوز، والعفو، والمرحمة، والعتق من النيران، الشهر الذي كان الرسول فيه أكثر الخلق صيامًا، يصوم معظمه ـ كما ورد عن السيدة عائشة ـ رضي الله عنها وأرضاها ـ لما فيه من كمال الأجر، ومضاعفة الثواب، وهو شهر يغفل الناس عنه بين رجب وشعبان، تُرفَع فيه الأعمال، وقال الرسول الكريم:(وأنا أحبُّ أن يُرفَع عملي، وأنا صائم) لبيان أهمية الصوم عند الله، وفوائده للمسلم جسدًا، وروحًا، ونفسًا، وفيه بيانُ أن الأعمال كلما قُدِّمَتْ مشفوعةً بطاعة، وتوبعت بإخبات، واستغفار، كانت ذلك أدعى إلى القبول لها، وأقرب إلى رضا الله وعفوه، وأقرب إلى رحمة الله وفضله من نوم أحدنا وعدم الاكتراث بها وبفضلها.

وهنا أعدِّد لك هنا أيها الطائع المكرِّم بعضًا من تلك الأحاديث الواردة لعلها تأخذ بيدك إلى مزيد من الطاعة، والتقرب إلى الله، ومزيد من التسبيح، والدعاء، والقيام، وافتراش الجبهة لله، عسى أن يتقبلنا جميعا برحمة منه وفضل، ويحقق لنا الآمال، ومنها كذلك ألا يكون ثَمَّ حقدٌ بينك وبين أحدٍ من المسلمين، وخصوصًا أقرباءَك حتى لا تُستبْعَدَ من المغفرة، والرحمة، كما في الحديث الشريف الذي رواه الإمام أحمد في مسنده، وابن حبان في صحيحه، والطبراني في معجميه: الكبير، والأوسط، وابن أبي شيبة في مصنفه، والبيهقي في شُعَبِهِ قال، قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم):(إن الله يطلع على عباده في ليلة النصف من شعبان، فيغفر للمؤمنين، ويُملِي للكافرين، ويدع أهلَ الحقد بحقدهم حتى يدعوه)، والإملاء هو إمهالهم حتى يثوبوا إلى رشدهم، ويؤوبوا إلى ربهم يرجعون؛ يتجلى به رحمةً منه، وفضل، وإذا ترك الحاقدُ حقدَه على أخيه، وأمسى ذا قلب طاهر طهور غفر الله له، وأدخله في المرحومين في تلك الليلة، كما أن فيه كناية عن سعة الرحمة، واتساع الفضل في تلك الليلة؛ فهي ليلة المغفرة، وليلة العتق من النار، وليلة العفو والمرحمة، ومنها ما يؤكد ذلك، ويرشِّحه من أنها ليلة العفو، وتلاقي القلوب، وليلة التسامح، والأخوة، وترك التشاحن، والكراهية، وليلة اجتماع القلوب، وترك الأحقاد، ونبذ الْإِحَنِ، استعداد للشهر الفضيل، وأن المسلم يتسع صدره، ويترك كل تلك الصفات الدنيئة ليكون أقرب إلى رحمة الله ومغفرته وقبول دعائه في تلك الليلة المباركة، كما ورد في حديث الطبراني في معجميه:(الكبير والأوسط) والهيثمي في (موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان)، والبيهقي في (شُعَبِ الإيمان)، حيث رَوَوْا أن الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) قال:(إن الله لَيَطَّلعُ في ليلة النصف من شعبان، فيغفر لجميع خلقه، إلا لمشركٍ، أو مشاحن)، ومعنى ذلك: أن المشرك بالله الذي لم يَعُدْ إلى التوحيد وترك الشرك، وأن المباغض، المشاحن كلهم محروم في تلك الليلة من مغفرة الله ورحمته وفضله الكبير بنص الحديث الشريف، ومنها كذلك أن يتنبه المسلم إلى أن يستغلَّ نهارها في الذكر، والطاعة، وتلاوة القرآن الكريم، والصدقة، ويستثمر ليلها بالقيام، والتهجد، والدعاء، والقرب؛ حتى يتعرض لنفحات ربه الذي يتجلى في تلك الليلة بفضله، ورحمته، ويظل يجيب كلَّ سائل، ويعطي كلَّ طالب مطلبته، ويغفر لكلِّ مستغفر، ويرزق كل مسترزق، ويعافي كل مبتلًى، ويُبْرئ كلَّ مريض، ويعطي كلَّ سائل سؤله، ويلبِّي حاجةَ كلِّ طالب حتى يطلع الفجر، ويؤذن المؤذن، كما حديث ابن ماجه في سننه، والبيهقي في شُعَبه عن علي بن أبي طالب ـ كرّم الله وجهه ـ قال: قال الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم):(إذا كانت ليلة النصف من شعبان فقوموا ليلَها، وصوموا نهارها، فإن الله ينزل فيها لغروب الشمس إلى السماء الدنيا، فيقول: ألا من مستغفر فأغفرَ له، ألا مسترزق فأرزقَه، ألا مبتلى فأعافيَه، ألا كذا، ألا كذا، حتى يطلع الفجر)، وفيه كناية عن استدامة الفضل طوال تلك الليلة المباركة، وأنه لا ينقطع خلالها كلها الفضل والخير، وأن الله تعالى يجيب بذاته العلية على كل رافع يديه، يستمطر خيرَ ربه، ويستنزل عطاءَه، ويطمع في رحمته، ويرجو خيره، ويأمل في نعمه، وينتظر فضله، ومنها أن هناك خمسَ ليالٍ معروفة في السيرة النبوية، مَنْ اهتمَّ بها، وقامها، وأحياها ، ونهض بحقها، وجبت له الجنة، ووسَّع الله عليه في المغفرة، والثواب، وهي الليالي المعروفة عند كلِّ مسلم:(ليلة التروية، وليلة عرفة، وليلة النحر، وليلة القدر أو الفطر، وليلة النصف من شعبان)، مصداقًا لما ورد في كتاب (الترغيب والترهيب) للأصبهاني من حديث معاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ حيث قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم):(من أحيا اللياليَ الخمسَ وجبت له الجنةُ: ليلة التروية، وليلة عرفة، وليلة النحر، وليلة الفطر، وليلة النصف من شعبان)، والإحياء يكون بقيامها، والصلاة فيها، والتهجد، والدعاء، وكثرة السجود، والذكر، والتلاوة، وحسن استغلالها، واستثمار أوقاتها، وأن يكون المسلم فيها حاضرا طائعًا، ومنها ذلك أنَّ مَنْ نهض لها، وقام بحقِّها يحيي اللهُ قلبَه يوم تموت القلوبُ، وإحياءُ القلب يكون بسعادته، وتوفيقه، واستقراره، وفرحته بغفران ربه، وأن صاحبها يكون في ظله، يوم تموت القلوب؛ خوفًا، ووجلا من مصيرها فيه، ويوم تحزن في يوم تطاير الصحف، وكلُّ الخلق يرتقب مصيرَه، عندها يحيي الله تلك القلوب، مصداقًا لهذا الأثر الذي ورد فيه:(من قام ليلة النصف من شعبان وليلتي العيدين لم يمتْ قلبه يوم تموت القلوب)، ومعنى القيام هنا أن يكون المسلمُ مشتغلًا في معظم ذلك الليل بطاعة الله، وقيل: ولو بساعة منه: يقرأ القرآن، أو يسمع القرآن الكريم ، أو يقرأ أو يسمع الحديث، الشريف، أو يسبِّح، أو يصلي بعض ركعات، أو يصلِّي على النبي (عليه الصلاة والسلام).

وقد يقول قائل:(هذه أحاديث ضعيفة، والأولى ترك العبادة المخصوصة في تلك الليلة، اكتفاء بالمسنون، ووقوفًا عند الوارد، وأن العبادة بُنِيَتْ على الاتباع، لا الابتداع، ونحو ذلك الكلام الذي يدور في كلِّ سنة في تلك الأيام؛ حتى يبعد المسلم عن طاعة الله، وهنا نأتي بقول العلامة المباركفوري في كتابه:(تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي) باب: ما جاء في ليلة النصف من شعبان، قال:(فهذه الأحاديث بمجموعها حجةٌ على مَنْ زعم أنه لم يثبتْ في فضيلة ليلة النصف من شعبان شيء، والله تعالى أعلم)، وقال الإمام الشافعي ـ رضي الله عنه ـ كذلك في كتابه (الأم):(وبلغَنا أنه كان يقال: إن الدعاء يستجاب في خمس ليال: في ليلة الجمعة، وليلة الأضحى، وليلة الفطر، وأول ليلة من رجب، وليلة النصف من شعبان(.

ولما سُئل فضيلة الشيخ عطية صقر ـ رئيس لجنة الفتوى بالأزهر الشريف في أيام حياته في (فتاوى الأزهر: مايو 1997م)، قيل له: هل ليلة النصف من شعبان لها فضل؟ فكان الجواب منه أنه: قد ورد في فضلها أحاديثُ صَحَّحَ بعضُ العلماء بعضًا منها، وضعَّفها آخرون ـ كما سبق ذلك أعلاه ـ وإن أجازوا الأخذ بها في فضائل الأعمال، ثم قال ـ بـعد سرد بعض تلك الأحاديث: بهذه الأحاديث وغيرها يمكن أن يقال: إن لليلة النصف من شعبان فضلًا، وأنه ليس هناك نصٌّ يمنع ذلك، فشهر شعبان له فضله، روى النسائي عن أسامة بن زيد ـ رضي الله عنهما ـ أنه سأل النبيَّ (عليه الصلاة والسلام) بقوله: لم أرك تصوم من شهر من الشهور، ما تصوم من شعبان؟ قال: ذاك شهر تغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، وأحب أن يُرفَع عملي وأنا صائم.

فتلك كلماتٌ

مِمَّنْ يُوثَق بهم من العلماء في فضلها، واستجابة الدعاء فيها؛ ومن ثم يستحب الاجتهاد فيها بالطاعة والصلاة والصيام والذكر والدعاء وكل أساليب القرب من الله؛ لأنها ليلة الاستجابة والدعاء والمغفرة كما قدَّمْتُ في أول الحديث، نسأل الله القبول منا جميعا، وأن يكتبنا في أهلها، وممن غفر لهم فيها ورحمهم وقبل دعاءهم، وأعتقهم من النار، إنه القادر على ذلك.

* كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة بجمهورية مصر العربية.

[email protected]