محمود عدلي الشريف:القراء الكرام.. فلا يزال سؤالنا يعرض نفسه للنقاش قائلًا لكل مسلم: كيف تحب أن يرفع عملك؟ خاصة ونحن في شهر ترفع فيه الأعمال، وقد كان الرسول (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) والصحابة والتابعون ـ رضوان الله عليهم أجمعين ـ يهتمون بهذا الشهر- أي شهر شعبان- اهتمامًا خاصًّا، لما عرفوا من نفحاته وكراماته، فكانوا يقبلون على كتاب الله يتلونه ويتدارسونه، ويتصدقون من أموالهم، ويتسابقون إلى الخيرات، وكأنهم يهيئون قلوبهم لاستقبال نفحات رمضان الكبرى، حتى إذا دخل عليهم رمضان تكون قلوبهم عامرة بالإيمان وألسنتهم رطبة بذكر الله، وجوارحهم عفيفة عن الحرام طاهرة نقية، فيشعرون بلذة القيام وحلاوة الصيام، ولا يملون من الأعمال الصالحة، لأن قلوبهم خالطتها بشاشة الإيمان وتغلغل نور اليقين في أرواحهم، واطمأنت قلوبهم بذكر الله وعمل الخيرات وترك المنكرات، ألا يكون فعل الخيرات في الأيام المباركة أولى، وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ:(كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ لَا يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ: لَا يَصُومُ، وَمَا رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ قَطُّ إلَّا رَمَضَانَ، وَمَا رَأَيْته فِي شَهْرٍ أَكْثَرَ مِنْهُ صِيَامًا فِي شَعْبَانَ) (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ، (سبل السلام 1/ 583)، وفي (عمدة القاري شرح صحيح البخاري 11/ 84):(وَزَاد يحيى بن أبي كثير فِي رِوَايَته:"فَإِنَّهُ كَانَ يَصُوم شعْبَان كُله"، وَزَاد ابْن أبي لبيد:"عَن أبي سَلمَة عَن عَائِشَة أَنَّهَا قَالَت: مَا رَأَيْت رَسُول الله ـ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ـ أَكثر صيامًا مِنْهُ فِي شعْبَان، فَإِنَّهُ كَانَ يَصُوم شعْبَان إلاَّ قَلِيلًا)، وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ عَن أبي سَلمَة، عَن عَائِشَة، أَنَّهَا قَالَت:(مَا رَأَيْت النَّبِي ـ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ـ فِي شهر أَكثر صيامًا فِيهِ فِي شعْبَان، كَانَ يَصُومهُ إلاَّ قَلِيلًا، بل كَانَ يَصُومهُ كُله) انْتهى، وعنْ أبِي سَلَمَةَ أنَّ عائِشَةَ ـ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا ـ حدَّثَتْهُ قالَتْ:(لَمْ يَكُنْ النبيُّ ـ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ـ يَصُومُ شَهْرًا أكْثَرَ مِنْ شَعْبانَ فإنَّهُ كانَ يَصُومُ شَعْبانَ كُلَّهُ وكانَ يَقُولُ خُذُوا مِنَ العَمَلِ مَا تُطِيقُونَ فإنَّ الله لاَ يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا وَأحَبُّ الصَّلاةِ إلَى النبيِّ ـ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ـ مَا دُووِمَ عَلَيْهِ وإنْ قَلَّتْ وكانَ إذَا صَلَّى صَلاَةً دَاوَمَ عَلَيْهَا) (المرجع السابق 11/ 85)، ويدل عليه ما رواه الترمذي من حديث أنس قال:(سئل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: أي الصيام أفضل بعد رمضان؟ قال: شعبان تعظيمًا لرمضان) (رواه أحمد والنسائي) أن أسامة قال للنبي ـ صلى الله عليه وسلم: ولم أرك تصوم في شهر ما تصوم في شعبان؟ قال: ذاك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين عز وجل فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم).فحري بالمؤمن في شهر ترفع فيه الأعمال أن يكون وقت رفع عمله في طاعة لله لعل الله أن يتقبل عمله ويغفر زلَته.يقول صاحب (لمعات التنقيح في شرح مشكاة المصابيح 3/ 416):(الظاهر من رفع الأعمال إصعادها وعرضها على جناب الحق أو على كتب الأعمال، وهو إنما يكون بعد العمل، بل يعرض يومًا فيومًا، إن قلت: يمكن أن ترفع أعمال تمام السنة الماضية جملة بعد أن رفعت يومًا يومًا تأكيدًا وتحقيقًا ومقابلة كما يفعله أهل الحساب، وقد قيل به نظرًا إلى ظاهر عبارة الحديث، ولكن المناسب في هذا المقام نظرًا إلى قرائنه أن يكون المراد برفع الأعمال كتابة الأعمال الصالحة التي يعمله العبد في الاستقبال، وترفع في تلك السنة يوما فيومًا، كما يكتب من يولد ومن يهلك)، وقال ابن القيم:(ونظير هذا أيضًا رفع الأعمال وعرضها على الله، فإن عمل العام يرفع في شعبان)، كما أخبر به الصادق المصدوق أنه شهر ترفع فيه الأعمال، قال:" فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ"، ويعرض عمل الأُسبوع يوم الاثنين والخميس، كما ثبت ذلك عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويعرض عمل اليوم في آخره والليلة في آخرها، كما في حديث أبي موسى الذي رواه البخاري عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل"، فهذا الرفع والعرض اليومي أخص من العرض يوم الاثنين والخميس، والعرض فيها أخص من العرض في شعبان، ثم إذا انقضى الأجل رفع العمل كله وعرض على الله وطويت الصحف، وهذا عرض آخر. اهـ، وقد جاء في (عمدة القاري شرح صحيح البخاري 11/ 83) سؤال هو من الأهمية بمكان، ألا وهو:(مَا وَجه تَخْصِيصه ـ صلى الله عليه وسلم ـ شعْبَان بِكَثْرَة الصَّوْم؟ قلت: لكَون أَعمال الْعِبَادَة ترفع فِيهِ)، فَفِي النَّسَائِيّ من حَدِيث أُسَامَة:(قلت: يَا رَسُول الله أَرَاك لَا تَصُوم من شهر من الشُّهُور مَا تَصُوم من شعْبَان؟ قَالَ: ذَاك شهر ترفع فِيهِ الْأَعْمَال إِلَى رب الْعَالمين فَأحب أَن يرفع عَمَلي وَأَنا صَائِم)/ أو لأن شعبان يقع بين شهرين عظيمين رجب وهو من الأشهر الحرم، وشهر الصيام وهو رمضان، فقد يهتم بعض الناس بهما وينسون شعبان، فأحرى بالمؤمن أن يكثر من طاعة الله وذكره والتقرب اليه في الوقت الذي يكون الناس فيه في غفلة، فالعبادة في أوقات الغفلة محببة إلى الرحمن ـ جلّ جلاله ـ بل وفضلها عظيم وثوابها كبير، فـ(عَنْ معْقِلِ بْنِ يَسَارٍ، رَدَّهُ إِلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: "الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ" (صحيح مسلم 4/ 2268)، ومن الأمثلة على الثواب العظيم للعبادة وقت غفلة الناس عنها قيام الليل، لأنه وقت نوم يكون الناس فيه في غفلة، والأمثلة على أوقات الغفلة كثيرة ما ذكرت ما سبق منها إلا لأن شهر شعبان تهيئة روحية لأداء الصلوات وخاصة النوافل منها، وصيام الفريضة وها نحن في أيام يمكن صيام النافلة فيها، إذن هو شهر منزلته بمنزلة التحضير المعنوي والاستعداد الروحي، حتى تتعود نفوسنا على الصيام والزيادة في الطاعة، بل ويتمرن عليه أطفالنا وشبابنا وفتياتنا، فبتدريبهم يسهل عليهم صوم رمضان، ويعينهم على تحمل أداء مختلف العبادات في شهر رمضان وفي غيره وبقدومه يجدون للصيام حلاوة وللطاعة لذة، فتسير سفينة رمضان بركابها من أهل الطاعات بقوة ونشاط وهمة، كما فعل نبينا الكريم (صلى الله عليه وسلم) وصحابته الكرام والتابعين لهم بإحسان وسلف الأمة الصالح.وختامًا وعملًا بأحاديث رفع الأعمال في هذه الشهر (شعبان) فإن رمضان سرعان ما يأتي ومن منا لا يحب أن تقبل منه أعماله؟ إذن نحن نحتاج إلى تغيير جذري في أنظمتنا اليومية التي اعتدنا عليها طيلة أياما العام، ولنحرص جميعًا على الطيب من الأعمال فإن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، ولنزين أعمالنا بالإخلاص فالعمل بدونه كأنه هباء منثورًا ولن نجني من ثمره إلا الجهد التعب، ولنحذر جميعًا كلاليب الشحناء التي تخطف بالبشر، فإنها تمنع قبول الأعمال خاصة ونحن في هذا المبارك الذي ترفع فيه الأعمال، ففي صحيح مسلم (4/ 1987):(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ:(تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ، وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا، إِلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا)، ولطالما أنها أيام قليلة ويأتينا شهر رمضان المبارك كان لزامًا علينا أن نتغير وأن نغير ما نحن فيه ابتغاء مرضات الله عزوجل.*[email protected]