أ.د. بثينة شعبان:
عشية الذكرى الـ57 لانطلاق الثورة الفلسطينية في 1/1/1965، أقرأ مقالًا مهمًّا في جريدة الجارديان البريطانية 30/12/2021 بعنوان: "حين أخذ القس ديزموند توتو موقفًا من أجل حقوق الفلسطينيين لم يكن من الممكن تجاهله". يعترف كاتب مقال الرأي في الجارديان أن القس ديزموند توتو، المقاوم ضدَّ الأبارثايد في جنوب إفريقيا، قد تلقَّى مديحًا من كلِّ أنحاء العالم بعد وفاته لموقفه المناصر للقضية الفلسطينية، ولكشفه وإصراره أنَّ ممارسات حكم "إسرائيل" للفلسطينيين تذكِّره بكلِّ تفاصيل الفصل العنصري في جنوب إفريقيا من هدم للمنازل إلى نظام الحواجز وتقييد حركة الفلسطينيين ومصادرة أراضيهم لبناء مستوطنات عليها، وسجن الفلسطينيين في بقع صغيرة من الأرض، كلُّ تلك الممارسات العنصرية ذكرته بنظام البوندستان في جنوب إفريقيا، والذي أسسه الأوروبيون البيض لاستعمار الأرض واستعباد أهل الأرض من الأفارقة. ومع أنَّ بعض المتعصِّبين للكيان الصهيوني اتهمه بمعاداة السامية، إلَّا أنَّ دعوته لمقاطعة "إسرائيل" حملت وزنًا أخلاقيًّا لا يفوقه إلَّا وزن كلام الصوت الأقوى ضدَّ الفصل العنصري في العالم؛ صوت نيلسون مانديلا. ويستخلص توتو من تجربة شعبه في جنوب إفريقيا أنَّ ما أجبر الآخرين على الجلوس حول الطاولة والاعتراف بحقوق شعب جنوب إفريقيا هو محاصرة جنوب إفريقيا اقتصاديًّا وأكاديميًّا وثقافيًّا ونفسيًّا على نطاق العالم.
وكلُّنا نتذكَّر أنَّ مارجريت تاتشر، رئيسة وزراء بريطانيا الأسبق من حزب المحافظين، والمعروفة بسياساتها اليمينية المتطرِّفة، كانت ضدَّ مقاومة جنوب إفريقيا العنصرية، وأنَّ الولايات المتحدة صنَّفت حزب المؤتمر في جنوب إفريقيا الذي كان يرأسه نيلسون مانديلا بأنه حزب إرهابي تمامًا كما تصف اليوم المناضلين ضدّ الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين والجولان وجنوب لبنان واليمن والعراق بالإرهابيين. كذلك أجرى الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر مقارنات مشابهة بين الكيان الصهيوني ونظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا في كتابه: "سلام وليس فصلًا عنصريًّا عام 2006". ولكنَّ المسألة هي أنَّه كان من الأصعب مهاجمة القس ديزموند توتو، وهو الحاصل على جائزة نوبل للسلام لموقفه الشجاع ضدَّ نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، وهو الذي أكَّد أنَّه يعرف الفصل العنصري فورًا حين يلحظه.
في عام 2021 نشرت هيومان رايتس ووتش بالتعاون مع مجموعة حقوق الإنسان "بتسليم" تقريرًا جريئًا يصف سيطرة "إسرائيل" على الفلسطينيين بالفصل العنصري. وقد كان لتشبيه توتو لسيطرة "إسرائيل" على الشعب الفلسطيني بالفصل العنصري في جنوب إفريقيا أبلغ الأثر في "إسرائيل" والعالم؛ فقد دبَّ الذعر في قلوب الحكومة الإسرائيلية، خصوصًا وأنَّ هناك حركة متنامية ترى الصراع من خلال تكريس الظلم وانعدام العدالة، الأمر الذي يجد صدى في الولايات المتحدة، وقد اكتسب أهمية كبرى في العام الماضي من خلال حركة: حياة السود مهمَّة.
في ضوء الانقسامات التي تعاني منها منظمات فلسطينية تعمل من أجل إعادة الحقِّ الفلسطيني، ومن خلال الافتقار لقيادة موحَّدة ومنهج واحد يعيد الزخم للقضية الفلسطينية. لماذا نعيد اختراع البارود ولا نسير ذات الدرب الذي أوصل من عانَوا من ظروف مماثلة إلى تحقيق هدفهم في التحرير والانتصار؟ لماذا لا نعيد الخطط والخطوات ذاتها التي سلكتها جنوب إفريقيا محليًّا وإفريقيًّا ودوليًّا، خصوصًا وأنَّ هذا المسار قد أثبت جدواه وفاعليته؟ وأنَّ أشخاصًا أمثال نيلسون مانديلا وديزموند توتو ما زالوا يقضُّون مضاجع العاكفين على الظلم والاحتلال والاستيطان حتى بعد مغادرتهم هذه الحياة؟ إنَّ ما قام ويقوم به الرياضيون العرب من رفض مشاركة لاعبين إسرائيليين الحلبة في أيِّ مجال، ومن رفع علم فلسطين مع علم بلادهم في أيِّ مباراة يخوضونها هو أمر يقضُّ مضاجع الأعداء؛ لأنهم يعلمون أنَّ التفهم للقضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني وحقِّ السوريين في الجولان هو أمر قانوني وشرعي، وقضية حقوق الإنسان لا يمكن لأحد أن يقف ضدَّها ويربح الموقف.
التحدِّي اليوم هو في إدراك حجم الإعلام المضلِّل الذي تبثُّه القنوات المرتهنة للأعداء، وفي الارتكاز على الحقِّ التاريخي للشعوب، الذي لا يمكن لأيِّ قوَّة طاغية أن تغيِّره، وفي حساب الخطوات التي يجب اتخاذها في ظلِّ المتغيّرات الإقليمية والدولية، وفي التخطيط وفق منهجيَّة جديدة تأخذ بعين الاعتبار التحوُّلات الهائلة التي طرأت على عالم اليوم بعد سبعة وخمسين عامًا من إطلاق الرصاصة الأولى لبرنامج تحرير فلسطين؛ إذ قد يكون البرنامج اليوم مختلفًا في طبيعته وضرورات نجاحه وأساليب عمله ومتطلَّبات وصوله إلى ضمائر وقلوب العالم كي يفهموا أولًا حقيقة ما يجري بعيدًا عن الأكاذيب وحملات التضليل، ولا شكَّ أنَّ الغالبية العظمى في العالم ستقف مع إحقاق الحقوق.
في إعلامهم المعادي للعرب يركِّزون على الفرقة والانقسام بين أبناء الشعب الفلسطيني، وحتى في مقاربتهم للعلاقات مع دول أخرى، ويركِّزون على ما يسمى بديمقراطيتهم وعدم وجود ديمقراطية في البلدان العربية، إلى ما هنالك من الأوهام التي نجحوا في زراعتها في أذهان البعض. اليوم يجب التركيز على صيغ الاحتلال والاستيطان والأسر وزجِّ الشباب والشابات في السجون وإجبار الناس على هدم منازلهم بأيديهم ومصادرة أرضهم ومصادرة رزقهم، ويجب التركيز على المقاطعة الأكاديمية والرياضية والثقافية والاقتصادية؛ لأنَّ هذا هو الأسلوب الذي أثبت نجاعته وأدَّى في النتيجة إلى تحرير جنوب إفريقيا.
التشبيك مع كلِّ منظمات حقوق الإنسان في العالم، وخصوصًا مع حركة "حياة السود مهمَّة" هو أمر في غاية الأهمية، علَّ الفصائل الفلسطينية كلَّها تكون قادرة على اتخاذ موقف موحَّد في هذا الصَّدد؛ موقف يعلن بداية جديدة لشكل آخر من أشكال النضال ضدَّ الاحتلال والاستيطان ونظام الفصل العنصري، شكل يعكف أولًا على دراسة متأنِّية ومعمَّقة لتجربة جنوب إفريقيا، ثمَّ وضع الخطط المناسبة ليس فقط للمقاومة الفلسطينية، وإنما لمحور المقاومة للتحرُّك على المستوى الفكري والثقافي والدبلوماسي والرياضي والفني، وفي كلِّ مجال ومكان ومناسبة لإلقاء الضوء على حقيقة ما يتعرَّض له شعب أعزل في فلسطين والجولان بدلًا من نقل أخبار الأسرى والشهداء يوميًّا دون حمل قضيتهم بالطريقة الواعدة التي تُري الجميع الضوء في نهاية النفق، وتشغل جميع الضمائر الحيَّة في العالم بحيث لا يقف أحد على الحياد بعد اليوم؛ لأنَّ الوقوف على الحياد ـ كما قال توتو ـ هو بحدِّ ذاته مساهمة في دعم الاحتلال والاستيطان والطغيان. عالم جديد يتطلَّب أدوات جديدة وتغيير أساليب وخطط المقاومة بما يتلاءم مع طبيعة هذا العصر واستعداد البشر لتفهُّم قضاياه المحقَّة ودعمها.