د. جمال عبد العزيز أحمد:
يظنُّ كثيرٌ من الناس أن الإعراب، أو التوجيه النحوي للنصوص لا يؤثر في الجانب العقدي، وليس له من دورٍ إلا الجانب الإعرابي، وبيانه للشادين في علم الإعراب، وتنتهي قصتُه، وهو فهم مضطرب، ورأي مغلوط، وفيه خلل كبير، ولا يَمُتُّ إلى الحقيقة بِصِلّة.
إذ إن التوجيه النحوي للنص القرآني، أو للحديث النبوي يراعي كلَّ الجوانب، وأهمُّها الجانبُ العقديُّ، حيث إن حياة الإنسان كلَّها مرتبطة بربِّه، ومتصلةٌ بدينه، لا تنفكُّ عنه، ولا تنفصلُ منه، وإنما المرءُ المسلمُ مختلطٌ لحمًا ودمًا بدينه، وقرآنِ ربِّه، يحمله بين طياته: ذهابًا وإيابًا، مساءً وصباحًا، غدوًّا ورواحًا، صيفًا وشتاءً، سفرًا وإقامةً، صعودًا وهبوطًا، يعيش له، ويعمل به، ويدعو إليه، وينام يفكِّر فيه: كيف يَفْهَمُ الناسُ هذا الدينَ القويم؟، وكيف يعشقون تعاليمه؟، وكيف يحبون كتابه؟، ويديمون تلاوته؟، بل يدمنون قراءته؟، وكيف يُطيلون النظر في كتابه الكريم، وما طرقُ ووسائلُ تِبيانِه للناس، فمهمة العلماء أنهم يشرحونه، ويوضِّحون بيانَه، ويقفون عند جلالِه، وكمالِه، وبلاغتِه، ويكشفون للناس عن وجوه الإعجاز فيه، كلٌّ في تخصصِه، ويجتهدون في خدمته؛ لأنه كتابُ الله، ربِّ العالمين، أنزله ليكون تبيانًا لكل شيء، ولينيرَ كلَّ شيء، وليصلحَ كلَّ شيء، وليتحكمَ في كلِّ شيء، وليكونَ حَكَمًا على كل شيء، وسوف أبيِّن هنا أن التوجيه النحوي للنصِّ القرآنيِّ يحمل من بين غاياتِه الكبرى بيان الاعتقاد الصحيح، وشرح التصور العقديِّ السليم، سواء في توجيه نحوي لحرف، أو لكلمة، أو محلٍّ لجملة أو شرحٍ لبنية صرفية باعتبار صرفي ما يرجح على غيره للجانب العقدي، وسواء جاءت اللفظة القرآنية على وفاق القاعدة، أم عدلتْ عنها، ومالتْ دونها، تنبيهًا على قيمة تربوية معينة، وغرض سام من أن لو وردت على سنن القاعدة النحوية؛ وذلك لبيان دلالة عقدية كبيرة، ومعنى تربوي فريد، وقيمة إيمانية جلَّى، ومن ذلك على سبيل المثال الآتي: قوله تعالى:(إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة ـ 40).
في هذه الآية الكريمة ورد قوله عز وجل:(وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا..)،يجد الناظر في إعراب تلك الآية أن الفعل (جعل) يتعدى إلى مفعولين أصلهما المبتدأ والخبر، فهو من باب ظن وأخواتها ومن أفعال التغيير والتحويل، فالمفعول الأول هو:(كلمة الذين كفروا)، والمفعول الثاني هو كلمة (السُّفلى)، ثم أتتِ الواوُ، وبعدها لفظة: (وكلمةُ) مضمومة رفعًا على الابتداء، واسم الجلالة (الله) مضاف إليه، وكلمة (العُليا) هي خبر المبتدأ (هي)، فكيف كان ذلك؟، ولِمَ جاءت مرفوعة، والأصل في الواو العطف؟، حيث تعطف اسما على نظيره: رفعًا، ونصبًا، وجرَّا، وتقريبَا جميع من أعربوها جاء إعرابهم كالآتي:
الفعل:(جعل) فعل ينصب مفعولين من باب ظن، وهو من أفعال التصيير، والتغيير، والفاعل ضمير مستتر جوازا، تقديره (هو) لكون الفعل ماضيا، و(كلمة) مفعول به أول منصوب، واسم الموصول:(الذين) اسم مبنيٌّ على الفتح في محلّ جرّ مضافًا إليه، و(كفروا) جملة صلة الموصول، لا محل لها من الإعراب، و(السُّفلى) مفعول به ثان منصوب، وعلامة النصب الفتحة المقدّرة للتعذر؛ لكونه اسمًا مقصورًا، وحالات إعراب المقصور الثلاث تقديرية.
والواو استئنافيّة، أو لعطف الجمل، أو الواو حالية، وواو الحال ـ كما هو مقرر عند النحاة ـ تدخل على جملة كاملة: اسمية، أو فعلية، و(كلمة) في كل هذه التوجيهات مبتدأ مرفوع، أو مبتدأ أول مرفوع، واسم الجلالة (اللّه) مضاف إليه مجرور على التعظيم، (هي) ضمير فصل لا محل له من الإعراب، أو مبتدأ ثان لقوله:(كلمة)، (العُليا) خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة الرفع الضمّة المقدّرة على الألف، أو خبر المبتدأ الثاني:(هي)، والمبتدأ الثاني وخبره:(هي العُليا) جملة في محل رفع خبر المبتدأ الأول:(كلمة الله)، وجملة: (وكلمة الله هي العُليا) إما أنها في محل نصب حالا، وإما أنها استئنافية لا محل لها من الإعراب، أو مقول قول الله في محل نصب ككل آية في القرآن الكريم، وكل سورة، بل إن القرآن الكريم كله في محل نصب مقول قول الله عز وجل، فهو كالجملة التي قالها ـ الله جل جلاله.
والذي يتفكر في هذا التوجيه النحوي، ويرمي بطرفه تجاه الغاية منه، ولِمَ لَمْ يعطف (كلمة الله) نصبًا على (كلمة الذين كفروا)، المنصوبة قبلها، وينظر في نوعية الواو نحويًّا ـ يتعجب أشد العجب من كونِ ما بعدها ورد مرفوعًا، ويتفكر في دلالته بعد توجيهه، فيجد عجبًا أن البدء بقوله تعالى:(وكلمةُ الله هي العُليا) يعطي معنى تربويًّا كبيرًا مؤدَّاه أن كلمة الله عُليا ابتداءً، لا بجعل جاعل، ولا بفضل أحد، فلم تكن يومًا مَّا سُفلى، ثم جاء أحد ليرفعها، ويجعلها عُليا، مهما بدا للناظرين وقتَ المحن الكبرى، وعدم قيادة الإسلام للأرض، ولا تحكيمه، ولا تمكينه، لكن كلمة الله هي عُليا، في كل وقت وزمان، وفي كل محلٍّ، ومكان، فتوجيهُ الرفع يعمِّق هذا المعنى في روح، وعقل، وحس، ووعي كلِ مسلم، فيعود ممتلئًا اعتقادًا، وفيَّاضًا بالحمد والشكر، وأن (كلمة الله) على الدوام عُليا، ولا يمكن أن تكون سُفلى أبدًا، ولا يمكن لأحدٍ كائنا مَنْ كان أن يجعلها سُفلى، أما كلمة الذين كفروا فالله يجعلها سُفلى، ويدمر حضاراتهم الوثنية، ويمرغ أنوفهم في الرغام، مهما علوا، وكانوا من ذوي الحضارات الدنيوية الذائعة المتغطرسة، وهم عن الآخرة هم غافلون، فكم من حضارات ذاعت، وشاعت، وظلمت الخلق، فخسف الله بها الأرض، وجعل أهلها عبرة لكل مَنْ يعتبرُ، وتركها آية للظالمين، وجعل عاليَها سافلَها، فكلمة الله هي العليا على طول الحياة، وبعد انتهاء الحياة، ولا يستطيع أحد أن يجعلها سُفلى، ولا يمكن أصلا أن تكون سُفلى، ثم يأتي أحدهم، ويزعم أنه جعلها عليا، فتوجيهُ الآية نحويًّا بهذه الصورة بيَّن الجلالَ، والكمالَ في هذا المعنى، وتلك الدلالة، ومكَّن في النفس معنًى تربويًّا أصيلًا هو من أكبر مقاصد الدين، وغاية غاياته، وقد راق لي تحليلُ أحدِ المعاصرين الذي بيَّن جمال التوجيه بالرفع، ومجيء جملة:(وجعل كلمة الذين كفروا السُّفلى) فعليةً، بينما جملة:(وكلمة الله هي العُليا) اسمية، وأوضح جمال، وكمال وجود ضمير الفصل:(هي)، وظلال ذلك كله دلاليًّا حين ورد في بعض تحليله قوله:"عندما نقرأ قول الله تعالىفي سورة التوبة:(إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)، نجد القرآن قد استعمل مع (كلمة الذين كفروا) الجملة الفعلية، حيث قال:(وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى)، واستعمل مع (كلمة الله) تعالى الجملة الاسمية: (وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا)، وذلك لأن الجملة الفعلية تدل على الحدوث، والتجديد، أما الجملة الاسمية فتدل على الثبوت، والدوام، والاستمرار، وهذا يعني أزلية علوِّ كلمة الله، وأن كلمة الذين كفروا مرهونةٌ بقدراتهم العلمية، وعَدَدِهم، وعُدَدِهم، ومدى إمكاناتهم، فمرةً تكون كلمتهم عليا، ثم يدمرها الله بكفرهم، وظلمهم، وعصيانهم، فيعودون يتكففون الناس، ويأتون في أخريات الخلق: فقرًا، وجوعًا، وبؤسًا بعدما كانوا الملأ، وكانوا موضعَ نظر الناسِ، وكانت لهم الكلمة، والسطوة، والريادة، والقيادة، والسيادة، وهذا ناموس من نواميس الله في كونه، أن الظالم ينال هنا حسابَه قبل أن يحاسب في الآخرة ليكون عبرة لغيره، ولا يغترَّ بقوته، ويزداد في شره، وسطوته، قال الشاعر:
لَا يَأْمَنُ الدَّهْرَ ذُو بَغْيٍ وَلَوْ مَلِكًا
جنودُهُ ضاق عنها السَّهْلُ والْجَبَلُ.
ويواصل تحليله، فيضيف أنه لما كانت (كلمة الكفار) مذبذبة، وليست ثابتة، وعلوّها، وإن كان ظاهرًا شكليًّا، فهو صائر ـ لا شك ـ إلى هبوط، وتسفُّل ـ ناسبتْها الجملة الفعلية عند الإخبار عنها، ولكنْ، لما كانت (كلمة الله) تعالى عالية أزلًا، وبلا نهاية ـ فقد ناسبتْها الجملة الاسمية الدالة على الثبوت، والاستمرار:(وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)، وجيء في الاسمية بالضمير:(هي) ضمير الفصل لتأكد علوّ كلمة الله بعد إفادة أزليتها، فالضمير هنا لتأكيد الإسناد بتكراره، والجملة الاسمية لتأكيد أزلية العلو للكلمة، واستمراره بلا نهاية كذلك، والأصل في الاسمية الثبوتُ، والدوامُ.

جامعة القاهرة ـ كلية دار العلوم بجمهورية مصر العربية.
[email protected]