د. رجب بن علي العويسي:جاء الثامن عشر من أغسطس من عام 2020 حاملا معه توجهات القيادة الحكيمة لحضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ في بناء عمان المستقبل وتنفيذ رؤيتها الطموحة 2040، وتجسيدا عمليا لخطاب جلالته السامي في الثالث والعشرين من فبراير 2020: "ومن أجل توفير الأسباب الداعمة؛ لتحقيق أهدافنا المستقبلية فإننا عازمون على اتخاذ الإجراءات اللازمة لإعادة هيكلة الجهاز الإداري للدولة"، فكان هذا التأريخ مرحلة فاصلة تم فيها إعادة هيكلة الجهاز الإداري للدولة وعبر ما يزيد عن (28) مرسوما سلطانيا ساميا حملت معها الكثير من التفاصيل التي تجسدت فيها روح التغيير لبناء مرحلة جديدة في الأداء الحكومي الكفؤ، سواء من حيث دمج لوزارات ووحدات وتعديل هياكلها التنظيمية والإدارية واختصاصاتها، وبين إضافة بعض الوحدات والهيئات والمجالس التي تتطلبها المرحلة وتستدعيها منظومة التنمية الوطنية المستدامة، أعقبها تشكيل مجلس الوزراء الموقر.لقد مر عام وزيادة على التشكيل الوزاري الأول للمرحلة الجديدة من نهضة عمان المتجددة، مرحلة باتت تحمل الكثير من الآمال والطموحات، في ظل أحداث كثيرة ومتغيرات متسارعة وظروف استثنائية تصدرتها جائحة كورونا (كوفيد19)، وتوجهات اقتصادية حكومية أصبح لها تداعياتها وآثارها على الوضع الاجتماعي والاقتصادي والمعيشي للمواطن العماني، ومع ذلك كانت الطموحات أكبر من اختزالها في ظرف معين، أو إقصائها في مسار محدد، لتظل الإرادة العمانية تنبض بحس المسؤولية، وعظيم الواجب في تحقيق ما يصبو إليه المواطن العماني من مزيد من التقدم والازدهار والعيش الكريم، لذلك جاء طرح المواطن اليوم وتساؤلاته واستفهاماته حول ماذا تحقق بعد عام كامل من التشكيل الوزاري الجديد؟ وكيف مضت عمليات التطوير والتحسين والمراجعة في التشريعات والقوانين وأنظمة العمل وأخلاقياته في سبيل تحقيق نتاج ملموسة على أرض الواقع؟ تساؤلات في تقديرنا الشخصي تبقى حاضرة بحاجة إلى إجابة مقنعة قد لا تمتلك مهمة الإجابة عليها الممارسات الحالية للوحدات الحكومية، بقدر حاجتها إلى منظومة أداء وطنية واضحة، وتشريعات عمل دقيقة تضع وحدات الجهاز الإداري للدولة أمام خريطة طريق معلومة الهدف والغاية، ومحددة الآليات والأدوات والاستراتيجيات التفصيلية لبلوغها، منعا من الاجتهادية التي تبطء الإنجاز، وحالة الازدواجية التي تزيد من تعقد العمل، والهدر المتكرر في المال والجهد والوقت، وبالتالي تبقى الإجابة عن التساؤل الذي طرحناه ويطرحه كل مواطن، بحاجة اليوم إلى خريطة أداء واضحة المعالم، تمتلك مؤشرات تحقق لها في كل قطاعات العمل الوطني عامة، ودور مؤسسات الجهاز الإداري للدولة فيها تفصيلا، وفق أدوات تقييم ومقننة، واستراتيجية أداء محددة، وآليات تشخيص عملية، وقراءة فعلية للمؤشرات، أين نحن؟ وماذا تحقق لنا من فرص؟ وكيف تم توظيفها؟ وأين هي من الطموح الوطني والمجتمعي؟ وما علاقة ما تم إنجازه على مستوى المؤسسات بكل من رؤية عمان 2040، وأولويات مواطن المرحلة؟ ودور المسؤول الحكومي في تحقيق ذلك؟ بما يعني أنه لكي نكون أكثر مصداقية وموضوعية في الحصول على إجابات دقيقة عن التساؤلات.وبالتالي فإن الأداء الحكومي قبل ذلك بحاجة إلى مرتكزات يستطيع أن يفهم خلالها دوره، ويحقق معادلة التوازن الطموحة، ويضمن قدرته على المنافسة، ويتيح للوحدات الحكومية فرصا أكبر للابتكار والإبداع، والعمق في تحديد بوصلة العمل ومنطق التوجه، بحاجة إلى مؤشرات رصد للواقع، وقياس فعلي لما تحقق، وتحليل دقيق للقيمة المضافة المرتبطة بالمنجز في ظل مقارنات علمية تقف على الواقع والفرص والتحديات والتهديدات، وكيف تم التعامل معها على مستوى المؤسسات، وهو ما لا يتأتى في تقديرنا الشخصي إلا من خلال تحقق وتفعيل مسبق لمرتكزين أساسيين في خطة توقع النتائح وهما: الإسراع في بناء نظام المتابعة والرقابة على الأداء الحكومي المشار إليه في الفصل السادس من النظام الأساسي للدولة بالمادتين (65 و66)، حيث نصت المادة (٦٥) على: "تنشأ لجنة تتبع السلطان، تختص بمتابعة وتقييم أداء الوزراء ومن في حكمهم، ووكلاء الوزارات ومن في حكمهم، ورؤساء وأعضاء مجالس إدارات الهيئات والمؤسسات العامة وغيرها من وحدات الجهاز الإداري للدولة، ورؤسائها أو رؤسائها التنفيذيين، ويصدر بتشكيلها ونظام عملها وتحديد اختصاصاتها الأخرى أمر سلطاني؛ ونصت المادة (٦٦) على "ينشأ جهاز يسمى "جهاز الرقابة المالية والإدارية" يتبع السلطان، يختص بالمتابعة المالية والإدارية لوحدات الجهاز الإداري للدولة، وغيرها من الأشخاص الاعتبارية العامة، وذلك على النحو الذي يبينه القانون"، ولعل الجزئية الأخيرة تؤسس اليوم للمزيد من العمل الوطني نحو إعادة إنتاج وهيكلة وتفعيل جهاز الرقابة المالية والإدارية للدولة وفق المعطيات الجديدة والأولويات الوطنية، وبما يتناغم مع مرتكزات تبسيط الإجراءات وحوكمة الأداء، والمساءلة والمحاسبة والنزاهة التي لا بدّ أن تسود كافة قطاعات العمل وأن تكون أساسًا ثابتًا راسخًا للأداء الحكومي الكفء، بالإضافة إلى وجود منظومة وطنية معتمدة لتقييم الأداء المؤسسي والفردي، يمكن من خلالها صناعة الفارق وتقييم الخلل، وتشخيص حجم التحول، والوقوف على ممكنات الإنجاز، ذلك أنه لا يمكن حصر مسار الإنتاجية المأمولة في مشروعات ومبانٍ ولوازم معينة، بقدر ما يمكن أن تمثله التشريعات وأنظمة العمل وتبسيط الإجراءات والمبادرات المؤسسية ومنع الهدر والحد من التكرارية والروتين في الممارسة إلى صناعة فقه العمل المؤسسي وثقافته وتأصيل قيمه وأخلاقه في أبجديات العمل وسلوك الموظف وإخلاص المسؤول الحكومي، وإدارة المعطيات بروح عالية، وأدوات راقية، وذوق يضمن تفاعل هذه الجهود مع الحالة العمانية بكل تفاصيلها الدقيقة.ومع القناعة بأن هذه الفترة منذ بدء التشكيل الوزاري، عايشت الكثير من الفرص والنجاحات، أو المطبات والتحديات، ولازم بعضها ضبابية التنفيذ، والاجتهادية في القرار التي أفضت ـ وللأسف الشديد ـ إلى تراكمات انعكست على ثقة المواطن في الجهد المؤسسي، وأعادت إلى الأذهان نمط التساؤلات التي أشرنا إلى بعضها، إلا أن الإرادة السامية لجلالة السلطان المعظم وما منحته من مرونة وقوة في التعاطي مع الوضع القائم في ظل خطة التوازن المالي، وخطة التحفيز الاقتصادي وخطط التشغيل والتوظيف وغيرها، شكلت حافزا للعمل وتحقيق الإنجاز، وفرصة لالتقاط الأنفاس، وتجريب الفرص، والاستثمار في الموارد والرجوع بشكل أكبر إلى المورد البشري الوطني صانع الإنجاز والشريك في المسؤولية، وانتهاج لغة عمل مشتركة، وضبط الموارد، وصناعة سيناريوهات عمل محكمة، وإنتاج بدائل أكثر مهنية واستراتيجية في قراءة الواقع، وهو الأمر الذي جاء خطاب جلالة السلطان المعظم في العيد الخمسين للنهضة على التأكيد عليه؛ خريطة طرق لكل مسؤول وطني مخلص في العمل بها، ورسالة لكل مسؤول في أن يقرأ في صنيع القيادة الحكيمة وإنجازاتها محطة لإعادة هندسة السلوك المؤسسي وتقديم منجز مؤسسي يفوق التوقعات، لا أن يلقي بمبررات التأخر وبطء الأداء على الظروف المحيطة وصعوبة التضاريس وجائحة كورونا.على أن الحقيقة التي يجب إظهارها هو أن المشكلة ليست في حجم المشروعات التي تقدمها وحدات الجهاز الإداري للدولة، بل في فجوة ارتباطها بالواقع ونزولها إلى ميدان الفعل، وقناعة المواطن بأن هناك منجزا وطنيا تحقق، وانتعاشا اقتصاديا نتج عن سياسة مراجعة الصرف والإنفاق الحكومي، وهنا مربط الفرس، فعنوان التحدي الأكبر يكمن في وصول هذه الجهود إلى المواطن، وشعوره بها وملامسته إياها، ووضوح صورتها وتأثيرها في حياته، وحجم استفادته منها، وقربها منه، وقدرتها على احتواء هواجسه وقلقه، وهل استطاع الإعلام الوطني أن يجسد فلسفة المنجز في فكر المواطن وقناعاته، ويجيب عن التساؤلات التي يطرحها حول قضاياه اليومية؟ وهل استطاع الظهور الإعلامي للمسؤول الحكومي أن يجيب عن ما يطرحه المواطن من تساؤلات حول إنجاز المؤسسات الفعلي؟ في ظل الإجابات غير الموفقة لمؤسسات الخدمات التي عبَّرت عن حالة من الاستفزاز والتجاهل، وغيرها من التصريحات والأنماط الخطابية التي انعكست سلبا على الواقع الوطني، والثقة في المسؤول الحكومي، ثم هل استطاع المنجز المتحقق تغيير النظرة التشاؤمية التي علقت في ذهن المواطن في ظل تعدد الصدمات الأخيرة التي مر بها نتيجة الإجراءات الاقتصادية، وارتفاع الأسعار، ورفع الدعم عن الخدمات العامة وغيرها من الإرهاصات التي باتت ترهق كاهل المواطن؟ وهنا يبقى انتظار المواطن لما تسفر عنه هذه الإنجازات من نتائج، وواقعيتها في الإجابة عن تساؤلاته التي لم يستطع المسؤول الحكومي والإعلام أن يعطي صورة دقيقة حولها، ويجيب عنها بمصداقية عالية ورؤية عميقة؛ مرهونة بكفاءة المنجز، وواقعيته، واتساع الفائدة منه، وقدرته على الحد من الهدر، ورفع سقف التوقعات، ورسم علامة مضيئة في حياة المواطن القادمة، وتعزيز مسار التفاؤلية والإيجابية في استشراف مستقبل إعادة الهيكلة على الواقع الاجتماعي في ظل قائمة طويلة من المتطلبات التي يجب على منظومة الجهاز الإداري للدولة أن تتعامل معها بمهنية، وتتصدر أجندة عملها باحترافية، وتضعها في قوالب تنفيذية محكمة.أخيرا، لن تكون الإجابة المبنية على التكهنات قادرة على الدخول في عمق المنجز وتقييم أثره وتحديد كفاءته في تحقيق الهدف، ولن تقدم ما تسرده قنوات الإعلام من أخبار يومية حول الممارسات الإدارية لرؤساء الوحدات الحكومية ووكلاء الوزارات والتفاعلات المرتبطة بالاتفاقيات واللقاءات والاجتماعات والزيارات والمتابعة أي صورة حقيقية عن واقعية المنجز، إن الاختبار الحقيقي، والإجابة الصادقة هي التي تنبع من رحم المشروع، وتقيم مراحل عملها منظومات التقييم التي أشرنا إليها، وكفاءة التقييم تكمن فيما تسجله هذه المنظومات من ملاحظات، وتقدمه من أفكار للتحسين، وتعالجه من تحديات، وتشخص من خلاله قدرة المسؤول الحكومي على انتهاج أطر واضحة في تحقيق معادلة التوازن في الأداء المؤسسي من عدمه والتي سيكون على أساسها محك اختياره وبقاؤه أو تغييره، ليبقى الإنجاز الكفء وفق المعايير والتوقعات، هو من يفصح عن ذاته، ويعبِّر عما بداخله، وهو الكفيل بالإجابة عن سؤال المواطن المطروح، وتوفير الدلائل والشواهد والإثباتات في معالجة أي تكهنات أو هواجس أو خواطر تبقى في النفس، تبحث عن إجابة مقنعة وفعل حقيقي.