أحمد صبري:تداول العديد من المهتمين بظروف وصول الرئيس السوري الأسبق أمين الحافظ إلى سدة الرئاسة وحقيقة المذكرات التي أصدرها حول مسيرة حياته وظروف نشرها.وللتاريخ فإن روايتي كشاهد على ملابسات نشر المذكرات هي أن الراحل أبلغني أنه قد فرغ من كتابة مذكراته التي توثق مسيرته، وفعلا اطلعت على أجزاء منها خلال زيارتي له بمسكنه المؤقت في حي القادسية ببغداد، وقال لي إنه قرر أن يتبرع بريعها إلى أطفال فلسطين والعراق، وكان في حينها يستطلع آراء المقربين منه عن الصحيفة التي ستنشر مذكراته وخلال هذه الفترة زار بغداد صحفي عربي ضمن وفد شعبي للتضامن مع العراق وأبلغني أنه التقى (أبا عبدو) الرئيس أمين الحافظ وسلمه مسودة مذكراته واتفق معه على مراجعتها قبل نشرها، وبعد سفر الصحفي التقيت الراحل أمين الحافظ وأبلغني أن الصحفي العربي سيراجع المذكرات ويعرضها عليه قبل النشر من دون أن يذكرا اسم الصحيفة التي ستقوم بالنشر.والمفاجأة أن المذكرات نشرت في صحيفة الزمان العراقية على حلقات والتي كانت تصدر من لندن، وهنا جن جنون أبي عبدو الذي اعتبر تصرف الصحفي العربي مخالفا للاتفاق معه، فضلًا عن أن نشر المذكرات في صحيفة كانت معارضة للنظام العراقي وهو ضيفه أوقعه في إحراج كبير، الأمر الذي دفعه إلى توضيح ملابسات النشر لعدد من قيادات الحكم في العراق.واضطر أبو عبدو إلى متابعة الموضوع إلى السفر إلى الأردن والتقى بالصحفي وجرى الاتفاق، كما أبلغني به الرئيس على إيداع ريع المذكرات التي استلمها فؤاد حسين من الزمان إلى ابن الرئيس أمين الحافظ واعتقد اسمه خالد الذي كان متواجدا في عمَّان. هذه روايتي حول مذكرات الرئيس الراحل أمين الحافظ كما تابعت تفاصيلها حينذاك.وفي أول لقاء جمعني بالرئيس السوري الأسبق أمين الحافظ في منفاه ببغداد صيف عام 1994 خرجت بانطباع أن هذا الرجل شاهد حي وصادق على فترة هي من أشد فترات الإثارة في تاريخ سوريا والمنطقة، كان له دوره المؤثر في صنعها رغم تباين الآراء حول هذا الدور, إلا أن شهادته التي رواها لي منذ فترة انصهاره بالعمل السياسي في سوريا وحتى تربعه على سدة الرئاسة السورية في ستينيات القرن الماضي وما تلاها من أحداث جديرة بالتأمل، ما حفزني على مواصلة اللقاء مع هذا الرجل الذي غيبه الموت. وأبو عبدو ـ كما اصطلح على تسميته ـ كرَّس حياته في منفاه لتوضيح ملابسات الأحداث التي رافقت وصوله إلى المنصب الأول في سوريا، والصفحة التي تلت هذه الأحداث قادته إلى كتابة مذكراته عن تلك الحقبة كنت متابعا لتفاصيلها بطلب منه على أن ريع النشر والمذكرات يتبرع به لأطفال العراق وفلسطين ورفض استلام فلسا واحدا عن ذلك، في لفتة تعكس موقفه القومي الإنساني إزاء ما يتعرض له أطفال العراق وفلسطين من حصار وطيلة ثلاثة عقود قضاها الرئيس الراحل أمين الحافظ في العراق ولغاية مغادرته عام 2003 بسبب الاحتلال الأميركي كانت حياته بسيطة حظي برعاية واهتمام الدولة العراقية، إلا أنه فضل هذه الحياة على سواها.وطبقا لما رواه لي، فإن الرئيس الراحل صدام حسين أوعز للجهات ذات العلاقة بزيادة المخصصات الممنوحة لأبي عبدو بأثر رجعي ومنحه مسكنا لائقا وتلبية جميع متطلباته وما كان من أبي عبدو إلا أن عبر عن امتنانه لهذه الالتفاتة الكريمة وقرر الاعتذار عن استلام المستحقات المالية التي تراكمت بعد احتسابها بأثر رجعي، وقام بالتبرع بها للخزينة العراقية نظرا لظروف الحصار المفروض على العراق.لقد كان الرئيس الراحل أمين الحافظ شخصية عفوية تحن للماضي لكن بنظرة جديدة عسى أن يصلح الزمن أخطاء الماضي التي أوصلت الأمة إلى الحال التي تعيشه كما يقول لمحدثيه.وأمين الحافظ الذي رحل بهدوء في مسقط رأسه بمدينة حلب، كما كان يتمنى، بعد أن عاد إلى وطنه معززا مكرما إلا أن أبا عبدو أصر على عودة من كان معه في المنفى من أشقائه السوريين، في محاولة لفتح صحفة جديدة وطي صفحة الماضي.. فكان له ما أراد.