د.جمال عبد العزيز أحمد:
.. فالبشر في سعيهم في حياتهم مختلفون، وفي أهدافهم متبايِنون، وفي نياتهم لا يستوون، وفي أعمالهم يتمايزون، وفي ابتغاء رضوان ربهم يتفرقون، فجاءت الأداة المؤكدة:(إنّ) لتثبِّت هذاك المعنى، وتعمِّقه في القلب، وشايعتْها اللام المزحلقة الداخلة على الخبر؛ لتزيد، وتمكِّن لذاك المعنى في الحنايا، والأفئدة، ليمضيَ الناس وفق عطائه، ورهن إشارته، فالمتكلم هو الله ـ جل جلاله ـ وهو الذي أكد على تلك الطرق التي يسلكها عباده، وعبيده، بثلاثة توكيدات، فصار الخبر إنكاريًّا بتضمنه ثلاثة مؤكدات:(إنَّ، واللام، والجملة الاسمية) وذلك لبيان ما وراءه من دلالة كبيرة، وما خلْفه من قيم عظيمة، وما تخلله من معنى سامٍ تامٍّ، وما تضمنه من مبنى كريم بيَّن للناس سعيهم، ووقَفَهم على طبيعته، وتكامله، لكنْ من كان منهم على صلة بربه، فسيجعله لربه، ويُديم نيَّتَه لإخلاصه له، وحبه، ومَنْ كان بعيدًا عن مولاه راح خائبا في دنياه، وضاعت منه كذلك أخراه، وكلمة:(شَتَّى) بهذا التشكيل الصوتي ذي الشين المتفشية، والتاء المهموسة المفتوحة، وألف القصر التي تخرج من الجوف، هذه كلها أحرف تتعانق في سبيل رسم تفرُّق السعي، وتباين القصد، وتعدُّد الرؤى، وانتشار الأهداف، حيث تتعانق أحرف اللفظة؛ لتكشف عن سرها، وتوضِّح هدفها، وتُظهر جمال قول ربها، وهو أمر يختص به الكتابُ العزيزُ حيث تكون أحرف الكلمة ناطقة بمعناها، مصوِّرة بحروفها كمالَ دلالتها، وجلال مبناها، وغاية مرماها، وشمول فحواها، تلك ميزة اللغة القرنية الحكيمة البليغة.

ثم فرَّع القرآن الكريم كلمة (شتى) التي هي جمع (شتيت) على ما تبقَّى من الآيات، فقال بحرف التفصيل والشرط (أما) الذي ربط كلَّ ما تقدم بكل ما تأخر:(فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى، وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى، وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى)، وهنا الدقة المتناهية في رسم الصورتين: صورة (من أعطى) تقابل صورة (من بخل)، وصورة (من اتقى) تقابل صورة (من استغنى)، وصورة (مَنْ صدَّق بالحسنى) تضادها صورة (مَنْ كذَّب بالحسنى)، وعاقبة (فسنيسره لليسرى) تعاكسها مآل (فسنيسره لليسرى) تقابلٌ عجيبٌ زاد الصورة الكلية كمالا وجلالا، وعمَّق الدلالة القرآنية في سياقها المبدِع الأخَّاذ، فربطت (أما) بين كل تلك الجمل، وما يقابلها من تراكيب مضادة، فوضعت الصورة المبتغاة كاملة، والرؤية المنشودة واضحة، ومن الجميل أن نعيش في أفياء عطاءات الصورتين، حيث حذف القرآن الكريم مفعوليْ (أعطى) اكتفاء بذكاء القارئ، واعتمادا على رقة قلبه، وسعة فهمه، حيث يتصور كلَّ ما يمكن أن يستوعب عطاءات البشر: أعطى روحه، وجهده، ونظره، وماله، وقوته، وعطفه، وحنانه، وكل ما يملكه ابتغاءَ وجه ربه، فحذف المفعولين، حتى تذهب النفس في تصوره كلَّ مذهب، وحذف ليستوعب كل ما يمكن أن يُعطَى ويُوهَب، ويدخل فيه كل عطاء بشري، كما أن فيه استيعابًا لكل مُعْطًى، ولكل آخِذٍ، يحوطه رضا رب عظيم، وقصْد مولًى كريم، والواو لعطف الجمل، ولجمع كل الصفات الخاصة بالعبد المتبتل، الذي ترسمه الآيُ الكريمة، فتعطف (من اتقى) على (من أعطى) لتسلكهم في نظم واحد، كما أنها لم تحدد المُتَّقَى لتذهب النفس المؤمنة منطلقةً في تصوُّر كلِّ متقًى، حيث تتقي الله، ومنازل الآخرة، والقبر، والنار، والصراط، والحساب، وخوف الله، وتحرص على تمنِّي ودِّه، وترجِّي حبِّه، وتتقي غضبَه، وتحرص على كلَّ ما يقرب إليه، ويُدني منه، ويحبِّب خلقه إليه، فالحذف هنا هو عين الذكر، والإخفاء هو كمال الظهور، وتلك خصيصة واضحة من خصائص لغة الكتاب العزيز، وسمة بارزة من أوضح سماته.

وتأتي الواو لتواصِل رسم الصورة الكاملة للمؤمن الواعي، فتقول:(وَصَدَّقَ بالحسنى)، ولم تقل: (وَصَدَق) بتخفيف الدال مفتوحةً، ولكنْ وردت بتشديدها؛ لتبين مدى اجتهاده في تصديق مطلوب ربه، والأخذ بأيدي خلقه إلى تصديق قوله، والعمل به، فالحسنى هي الجنة، أو هي كل عمل صالح يؤدي إليها، وينفع الناس، ويقرِّبهم من ربهم، و(أل) فيها جنسية، أي جنس الحسنى، أو عهدية، أي التي يريدها الله، وحدَّدها في كتابه، وعلى لسان نبيه، وحبيبه، وقد تكون (الحسنى) مؤنث (الأحسن)، أيْ الأعمال الصالحة الأكثر حُسْنًا، والأقرب إلى الله حبا، وودا، والباء هنا (بالحسنى) عجيبة، فمع أن الفعل (صدَّق) فعل متعدٍّ، لكنه هنا تقدَّمت مفعولَه الباء على شاكلة: (أرأيت الذي يكذِّب بالدين) فالفعل (يكذب) وهو مضعف العين متعدٍّ، لكنه هنا سبقتْ مفعولَه الباء أيضًا، وهو أسلوب من أساليب الكتاب العزيز، وسمة من سمات القرآن الكريم، حيث يتحول المكذِّب الدينَ إلى لسان آخر ينشر الفسادَ، ولا يكتفي بأن ضيَّع نفسه بتكذيبه الدينَ، بل صار مِعْوَلَ هَدْمٍ في عقائد غيره، وصار بُوقًا لإبليس، وسَاعِدًا من سواعده اليُمنَى، فكذلك هنا صدَّقها أولا، وجعل غيره يصدِّقها، فهو داعية راقٍ، ومحترف، بليغ، ولَسِنٌ، فهو يجعل غيره يتذوق ما ذاقه، ويعيش لذة ما عاشه، ثم تأتي الفاء السريعة الواقعة في جواب الشرط، التي تفيد الربط، وسرعة تحقيق الجواب، ومعها (السين) السريعة لا (سوف)، والفعل الذي يُنطَق ميسرا كما هو لفظه: (فسنيسره)،

* كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة بجمهورية مصر العربية.

[email protected]