محمود عدلي الشريف:إنّ ما يحدث للعالم في كل مكان وعبر الزمان، مما يخرج عن إرادة الإنسان، إلا هو بإرادة الرحمن، فكل عطاء من واسع نعمه، وكل حادثة بمشيئته وعلمه، وكل صغير أو كبير بأمره، وما من خير أو ضير، أو نعمة أو مير، أو تأخر أو تقدم، أو اكتشافات في أي من المجالات، أو أمراض أو فيروسات، أو حياة أو موت، أو أفول أو ثبوت، إلا بإذنه ـ جلَّ جلاله ـ ليتذكر فيه من تذكر، ويتدبر فيه من تدبر، وليعلم العالم أن الله أكبر، وليعلم الإنسان أنه أمام جنود الله عاجز ضعيف، فلا حول له ولا قوة أمام قدرة الخبير اللطيف، ولو تأملنا التاريخ عبر العصور وعلى مدار الأزمان، لوجدنا أن ما قدر الله تعالى وما اقتضاه كان، فإرادة الله تعالى ليس لها مثيل، وأنه تعالى المتصرف في الكون بما لا يحتاج إلى دليل، وقد ذكر الله تعالى بعض الأيام الصعبة، والأوقات الشاقة، مرت على من سبقنا من الدهور، وأن عجائب القدر على من شاء الله تدور، وقد ضرب الله على بني إسرائيل التيه، وغير ذلك مما قضى الله تعالى على خلقه من الأمم والأقوام السابقة في غابر الأزمان.فقد كان ـ جلَّ جلاله ـ متصرفًا حكيمًا، ومقتدرًا عليمًا، فالأيام لله والأعمار بيد الله، والمتصرف في الكون هو الله، حتى ما كان في زمن رسول الله تعالى، (فقد ابتلى سبحانه قريشا نظرًا لعنادهم وإيذائهم له (عليه الصلاة والسلام)، وابتلى أهل مكة، والابتلاء هو الاختبار، وقد أعطاهم أموالًا ليشكروا لا ليبطروا، فلما بطروا وعادوا محمدًا (صلى الله عليه وسلم) ابتليناهم بالجوع والقحط، كما ابتلى أهل الجنة المعروف خبرها عندهم، عذاب الدنيا وهلاك الأموال، وقيل: إن هذا وعظ لأهل مكة بالرجوع إلى الله لما ابتلاهم بالجدب لدعاء النبي (صلى الله عليه وسلم) أي: كفعلنا بهم نفعل بمن تعدى حدودنا في الدنيا، وقال ابن عباس: هذا مثل لأهل مكة حين خرجوا إلى بدر وحلفوا ليقتلن محمدًا (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه، وليرجعن إلى مكة حتى يطوفوا بالبيت ويشربوا الخمر، وتضرب القينات على رؤوسهم، فأخلف الله ظنهم وأسروا وقتلوا وانهزموا كأهل هذه الحنة لما خرجوا عازمين على الصرام فخابوا، ثم قيل: إن الحق الذي منعه أهل الجنة المساكين يحتمل أنه كان واجبًا عليهم، ويحتمل أنه كان تطوعا، والأول أظهر .. والله أعلم، وقيل: السورة مكية، فبعد حمل الآية على ما أصاب أهل مكة من القحط، وعلى قتال بدر)، (تفسير القرطبي 18/ 239).ولو تأملنا الدَّولة الإِسلاميَّة في عهد أمير المؤمنين عمر ـ رضي الله عنه ـ لوجدنا أمثلة للابتلاء، وأعظم تلك الابتلاءات كانت عام الرمادة ـ وهي محل حديثنا ـ والحقيقة أنها سنَّة الله في خلقه، وقصة عام الرمادة باختصار ـ كما يقول صاحب كتاب:(المنتظم في تاريخ الملوك والأمم 4/ 140):(ذلك أن الناس أصابهم جدب وقحط وجوع شديد حتى جعلت الوحش تأوي إلى الأنس، وكانت الريح تسفي ترابًا كالرماد، فسمي ذلك العام عام الرمادة، وكان الرجل يذبح الشاة فيعافها من قبحها، وإنه لمعسر)، وفي (البداية والنهاية، ط: الفكر7/ 90): (وَسُمِّيَتْ عَامَ الرَّمَادَةِ لِأَنَّ الْأَرْضَ اسْوَدَّتْ مِنْ قِلَّةِ الْمَطَرِ حَتَّى عَادَ لَوْنُهَا شَبِيهًا بالرماد، وقيل: لأنها تَسْفِي الرِّيحُ تُرَابًا كَالرَّمَادِ، وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ سميت لكل منهما والله أعلم.. وَاسْتَمَرَّ هَذَا الْحَالُ فِي النَّاسِ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ)، ونأخذ مما فعله سيدنا عمر العبرة والقدوة والعظة والحكمة، نأخذ بعضًا من المواقف مما فعله ـ رضي الله عنه ـ اقتداءً وتأسيًا به، واستطاع الفاروق إدارة هذه الأزمة العصيبة التي مرت على المسلمين، أدارها بحكمة ودراية أخذًا بالأسباب جميعها متوكلًا على الله تعالى، وكان أهم تلك الإجراءات التي اتخذها أمير المؤمنين عمر ـ رضي الله عنه: أولًا:(التَّضرُّع والخشوع، والرجاء والدُّعاء إِلى ربِّ العباد): ذكر عبدالله بن عمر بأنَّه قال: وإِنِّي لأسمعه ليلةً في السَّحر، وهو يقول: اللَهُمَّ لا تجعل هلاك أمَّةِ محمَّد على يدي! ويقول: اللَهُمَّ لا تهلكنا بالسِّنين، وارفع عنا البلاء! يردِّد هذه الكلمات، وعن سليمان بن يسارٍ، قال: خطب عمر النَّاس في زمان الرَّمادة، فقال: أيُّها الناس! اتَّقوا الله في أنفسكم، وفيما غاب عن النَّاس من أمركم، فقد ابتليت بكم، وابتليتم بي، فما أدري السَّخطة عليَّ دونكم، أو عليكم دوني، أو قد عمّتني، وعمَّتكم، فهلمُّوا فلندعُ الله يصلح قلوبنا، وأن يرحمنا، وأن يرفع عنا المَحْلَ، فرئي عمر يومئذٍ رافعًا يديه، يدعو الله، ودعا للنَّاس، وبكى، وبكى النَّاس مليّاً، ثم نزل، وعن أسلم قال: سمعت عمر يقول: أيُّها النَّاس! إِنِّي أخشى أن تكون سخطةٌ عمَّتنا جميعًا، فأعتبوا ربكم، وانزعوا، وتوبوا إِلى ربِّكم وأحدثوا خيراً) (البداية والنهاية، ط: الفكر 7/89)، وثانيًا ـ الاستعانة بالله، بالصبر والصلاة: فقد:(كان ـ رضي الله عنه ـ يصلِّي بالنَّاس العشاء ثمَّ يخرج إِلى بيته، فلا يزال يصلِّي حتَّى يكون اخر الليل ثمَّ يخرج فيأتي الأنقاب، فيطوف عليها، وعن عبد الله بن ساعدة، قال: رأيت عمر إِذا صلى المغرب، نادى أيُّها النَّاس! استغفروا ربكم، ثمَّ توبوا إليه، وسلوه من فضله، واستسقوا سقيا رحمةٍ، لا سقيا عذاب، فلم يزل كذلك؛ حتّى فرَّج الله ذلك وعن الشَّعبيِّ: أَنَّ عمر ـ رضي الله تعالى عنه ـ خرج يستسقي فقام على المنبر، فقرأ هذه الآيات:(فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا، يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا) (نوح 10 ـ 11)، (ولمّا أجمع عمر على أن يستسقيَ، ويخرجَ بالنَّاس، كتب إِلى عمّاله أن يخرجوا يوم كذا، وأن يتضرّعوا إلى ربِّهم، ويطلبوا أن يرفع هذا المَحْل عنهم، وخرج عمر لذلك اليوم، وعليه بردُ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فخطب النّاس فتضرّع، وجعل النِّساء يلحُّون، فما كان أكثر دعائه إِلا استغفارٌ، حتّى إذا قرب أن ينصرف رفع يديه مدًّا، وحوَّل رداءه، فجعل اليمين على اليسار، ثمَّ اليسار على اليمين، ثمَّ مدَّ يديه، وجعل يلحُّ في الدُّعاء، ويبكي بكاءً طويلًا حتّى اخضلت لحيته) (البداية والنهاية، ط الفكر 7/90)، وثالثًا ـ تذكير الناس بأنه (ما نزل بلاء إلا بذنب): روى الطبري: قالوا: كتب أبوعبيدة إلى عمر: إن نفرًا من المسلمين أصابوا الشراب، فسألناهم فتأولوا، وقالوا: خيرنا فاخترنا، قال: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ! ولم يعزم علينا، فكتب عمر إلى أبي عبيدة أن ادعهم، فإن زعموا أنها حلال فاقتلهم، وإن زعموا أنها حرام فاجلدهم ثمانين فبعث إليهم فسألهم على رؤوس الناس، فقالوا: حرام، فجلدهم ثمانين، وندموا على لجاجتهم، وقال: ليحدثن فيكم يا أهل الشام حادث، فحدثت الرمادة، وقيل:(َكَتَبَ إِلَى النَّاسِ: عَلَيْكُمْ أَنْفُسُكَمْ، وَمَنِ اسْتَوْجَبَ التغيير فغيروا عليه، ولا تعيروا أحدا فيفشوا فِيكُمُ الْبَلاءُ، وقيل: وقال: ليحدثن فيكم يا أهل الشام حادث) (البداية والنهاية لابن كثير7/90)، ورابعًا ـ الأخذ بالأسباب الاحترازية: روي عن مالك بن أوسٍ:(لما كان عام الرَّمادة قدم قومي على عمر فنزلوا الجبَّانة، فكان يطعم النَّاس من جاءه، ومن لم يأت أرسل إِليه الدَّقيق، والتَّمر، والأدم إِلى منزله، فكان يرسل إِلى قومي بما يصلحهم شهراً بشهر، وكان يتعهَّد مرضاهم، وأكفان من مات منهم، فجعل يحمل الضَّعيف منهم حتَّى لحقوا ببلادهم) (البداية والنهاية، ط: الفكر 7/ 90)، وقال أسلم: وكانت قدور عمر يقوم إليها العمال في السَّحَر يعملون الكركور حتى يصبحوا، ثم يطعمون المرضى منهم، وكان عمر يأمر بالزيت فيفار في القدور الكبار على النار حتى يذهب حمته وحره، ثم يُثْرَد الخبز ثم يؤدَم بذلك الزيت فكانت العرب يُحمُّون من الزيت، قَالَ طَارِقُ بْنُ شِهَابٍ:(أَتَيْنَا أَبَا مُوسَى فِي دَارِهِ بِالْكُوفَةِ نَتَحَدَّثُ عِنْدَهُ فَقَالَ: لَا عَلَيْكُمْ أَنْ تَخِفُّوا فَقَدْ أُصِيبَ فِي الدَّارِ إِنْسَانٌ، وَلَا عَلَيْكُمْ أَنْ تَنَزَّهُوا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ فَتَخْرُجُوا فِي فُسَحِ بِلَادِكُمْ وَنُزَهِهَا حَتَّى يُرْفَعَ هَذَا الْوَبَاءُ) (الكامل في التاريخ 2/ 373)، وخامسًا ـ التعمق وبعد النظر في قراءة الوضع الراهن: فلقد كان ـ رضي الله عنه ـ له الإدراك الحقيقي لحجم المشكلة ووقع البلاء وخطره، وقوة التحمُّل لنتائجه وتبعاته، فقد كان يتحمل أعباء إدارة الأزمة، من خلال تشكيل فريق مسؤول عن ذلك، فعندما أرسل عمرو بن العاص قافلة فلما وصلت أرسل عمر مَنْ يشرف على توزيعها عند دخولها جزيرة العرب، فقد ذكر (الكامل في التاريخ 2/ 374):(وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَدِمَ الشَّامَ ـ وكان فيها طاعون عمواس ـ فَلَمَّا كَانَ بِسَرْغٍ لَقِيَهُ أُمَرَاءُ الْأَجْنَادِ، فَأَخْبَرُوهُ بِالْوَبَاءِ وَشِدَّتِهِ، فَجَمَعَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ وَالْأَنْصَارَ، فَاسْتَشَارَهُمْ، فَمِنْهُمُ الْقَائِلُ: خَرَجْتَ لِوَجْهِ اللَّهِ فَلَا يَصُدَّكَ عَنْهُ هَذَا، وَمِنْهُمُ الْقَائِلُ: إِنَّهُ بَلَاءٌ وَفَنَاءٌ فَلَا نَرَى أَنْ تَقْدَمَ عَلَيْهِ، وَأَشَارُوا بِالْعَوْدِ، فَنَادَى عُمَرُ فِي النَّاسِ: إِنِّي مُصَبِّحٌ عَلَى ظَهْرٍ، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَفِرَارًا مِنْ قَدَرِ اللَّهِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ إِلَى قَدَرِ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ إِبِلٌ فَهَبَطْتَ وَادِيًا لَهُ عُدْوَتَانِ، إِحْدَاهُمَا مُخْصِبَةٌ وَالْأُخْرَى جَدْبَةٌ أَلَيْسَ إِنْ رَعَيْتَ الْخَصِبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ وَإِنْ رَعَيْتَ الْجَدْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ؟ فَانْصَرَفَ عُمَرُ بِالنَّاسِ إِلَى الْمَدِينَة) .. باختصار وتصرف... وللحديث بقية.*[email protected]