د/ محمد بن عبدالله الهاشمي:ذكرنا في الحلقة السابقة ونحن نتحدث عن عوارض الأهلية ذكرنا أنّ عوارض الأهلية تنقسم إلى قسمين:(العوارض السماوية والعوارض المكتسبة)، فمن العوارض السماوية (الجنون)، والجنون عند الأصوليين: اختلال العقل بحيث يمنع صاحبه من التصرفات السوية القوليّة والعقليّة، والجنون هو آفة سماوية باعثة للإنسان على أقوال أو أفعال تنافي في مقتضى العقل مطلقًا من غير ضعف في عامة أطرافه.وينقسم الجنون إلى نوعين، أصلي وهو: أن يكون في الإنسان قبل بلوغه ويستمر به بعد البلوغ، وطارئ وهو: أن يكون الإنسان عاقلًا، ثم يأتيه الجنون بعد البلوغ.والجنون إمّا أن يكون مطبقًا ويسمى الجنون التام أو الممتد، وهو: الذي يلازم الشخص ولا يفيق منه ولا يعود إليه عقله، ويمنع صاحبه من التصرفات السوية ولا يكون مدركًا لأقواله أو أفعاله، وإمّا أن يكون غير مطبق ويسمى الجنون الناقص أو غير الممتد أو المتقطع وذلك بأن يفيق أحيانًا، والجنون بنوعيه التام أو الناقص لا يُؤثر في أهليّة الوجوب لأنّها تثبت بالذمة ومناطها الصفة الإنسانيّة فتثبت بمقتضاه الحقوق له أو عليه، فتثبت له حقوق النسب والإرث والوصية.أمّا أهلية الأداء فتنتفي عنه لأنها تثبت بالعقل والتمييز ــ كما بينّا ــ والمجنون فاسد العقل فاقد التمييز، فحكمة مثل حكم الصبي غير المميّز في تصرفاته وأفعاله، وتسقط عنه العبارات، أي يمنع وجوبها أصلاً لفوات القدرة على الأداء في الحال لقيام الجنون، هذا إذا كان جنونه مطبقًا أي لا يفيق بحال.أمّا إذا كان جنونه غير مطبق أي يفيق أحيانًا، فحكمه حال عرض الجنون حكم الجنون المطبق، أي: لا يكون مخاطبًا بالتكليف في حال جنونه، أمّا في حال إفاقته فيكون حكم تصرفاته حكم تصرفات العقلاء، إذ يكون مخاطبًا بالأحكام الشرعية حال إفاقته، فعلى سبيل المثال: إذا صدر منه أحد التصرفات ــ كالبيع أو الشراء أو النكاح ــ خلال جنونه كان تصرفه باطلاً، وإن ثبت أنه صدر منه هذا التصرف قبل جنونه أو بعد زوال جنونه كان تصرفه صحيحًا.أمّا من جهة العبادات، فإذا أصيب بالجنون بداية شهر رمضان مثلًا، ثمّ أفاق منتصف الشهر فعليه صيام ما بقي من شهر رمضان، وعليه قضاء صيام الأيام التي كان فيها مجنونًا، وقد نصّت الفقرة (أ) من المادة (156) من قانون الأحوال الشخصيّة على أنه:(تصرفات المجنون المالية حال إفاقته، وقبل الحجر عليه صحيحة، وباطلة فيما عدا ذلك).فقد أفاد هذا النّص: أنّ تصرفات المجنون المالية صحيحة في حالتين، الأولى: حال إفاقته، وهذا في حال الجنون غير المطبق، فجميع تصرفاته عند افاقته تُعتبر صحيحة لأنه في حال المكلّف، ومخاطب بالشريعة، والثانية: قبل الحجر عليه، والحجر شرعًا: المنع من التصرفات القولية لا الفعلية، بمعنى عدم انعقادها أو عدم نفاذها، وفي الجنون المنع من انعقادها حتى ولو كانت نافعة للمجنون نفعًا محضًا.وبمفهوم المخالفة أنه بعد الحجر عليه تُعتبر تصرفاته باطلة، وهل يشترط في الحجر صدور حكم من المحكمة، أم يُعتبر المجنون محجور عليه لذاته، هذا ما نص عليه بعض الفقهاء، وعلتهم في ذلك: أنّ الجنون متى ما طرأ على الانسان كان سببًا للحجر عليه دون توقف على حكم من القضاء... وللحديث بقية.✱ قاضي المحكمة العليا[email protected]