متابعة ـ خميس السلطي
لم أكن أتخيل ذات يوم أن ثمة حضورا بشريا لكاتب في أمسية ما، قد يتجاوز الـ3000 أو قد يصل إلى 4000 من المتابعين والمهتمين ومن مختلف الجنسيات العربية وغير العربية .. نعم بكل تأكيد حصل هذا عندما كنت برفقة زملاء العمل لحضور أمسية ثقافية أدبية للكاتب الأميركي دان براون ضمن فعاليات معرض الشارقة للكتاب في دورته الـ33 التي أنقضت مؤخرا، فالحضور فاق التخيل، والقاعة اكتظت بمن أتى ليستمع ويناقش هذا الكاتب العالمي، فقد أكد في بداية قوله أن للعرب ميزة خاصة في التواصل الإنساني والتعامل الاجتماعي مع ضيوفهم، مبينا أن هذا من صلب التاريخ العربي في التعامل ، مما ينقل للإنسانية حضارة مبهرة ومبهجة.
الكاتب الأميركي دان براون، مؤلف الروايات الأكثر مبيعاً في العالم، والذي بيعت من أعماله أكثر من 200 مليون نسخة، خلال سنوات عمره الأولى، حيث لعبت هذه السنوات دوراً في تعلّقه بالكتابة، وانشغاله بمحاولات تفسير العلاقة بين الدين والعلم، في رواياته الست التي صدرت بين عامي 1998 ـ 2013 والمتمثلة في "الحصن الرقمي"، و"ملائكة وشياطين"، و"حقيقة الخديعة"، و"شيفرة دافنتشي"، و"الرمز المفقود"، و"الجحيم"، والفضل يعود حسب قوله لوالدته، فهي منذ طفولته كانت تصحبه باستمرار إلى الكنيسة، وتجذبه نحو التعلّق بالدين، فيما كان والده، مدرس الرياضيات، يدفعه إلى الاهتمام بالأرقام وتفسير كل ما يدور حوله على أساس علمي.
أخبرنا دان بروان في حديثه إنه عندما كان صغيراً، كان في كراج منزلهم لوحتان فنيتان، واحدة لوالدته والأخرى لوالده، وكانت كل لوحة تحمل رمزاً لأحد أمرين: الدين والعلم، وكان هناك صراع في حياته بين هذين المفهومين، وعندما أصبح في الثالثة عشرة من عمره، وجد أن الدين والعلم هما أساس العالم اليوم، ومن دونهما لا يمكن أن تستقيم الحياة". مضيفاً أن الدين يطلب من الإنسان أن يتقبل كثيراً من الأمور، ويقتنع بها، في حين أن العلم يدفعك نحو البحث والتحليل.
دان براون أخذنا إلى رواياته التي أذهلت العالم وحاولت تفكيك الكثير من الرؤى والأسرار والخبايا، وذلك من خلال إسقاطات فلسفية فكرية كان يعتمد عليها في الأخذ والعطاء مع كتاباته، حيث التقصي والعلم والمعرفة.
دان براون أخذنا في جولة رائعة عندما بدأ الحديث عن "الحصن الرقمي" وهي أولى رواياته، وصدرت في عام 1998. في هذه الرواية يُقدم دان براون وحسب قوله الخطوط الأولية للنظريات التي شغلت رواياته فيما بعد، حيث تدور أحداث هذه الرواية في أروقة وكالة الأمن القومي (إن إس إيه) الأميركية الحكومية، وفي إسبانيا واليابان، وتتشكل فكرتها على تمرد أحد موظفي وكالة إن إس إيه السابقين، وتركه للمؤسسة التي تقوم بمراقبة شبكة الانترنت حول العالم، وكرد فعل انتقامي منها يقوم بعمل برنامج تشفير ليس له مثيل أسماه الحصن الرقمي، وهو مخبأ أسرار كل الذين لا يرغبون في أن تتجسس عليهم الوكالة عبر حاسوبها العملاق (الترانسلتر)، وتعهد هذا الأخير وكسبيل للانتقام بنشره في العالم مالم تعترف الوكالة بوجود الترانسلتر، حيث تتصاعد الأحداث مع موت المبرمج، وتظهر حقيقة برنامج الحصن الرقمي الذي وقع الترانسلتر في فخه، ومنها يضع براون بؤرة الحقيقة في الرواية وهي أن يكون على الأبطال حل الشفرة ليعطلوا عمل الحصن الرقمي، بروان ومن خلال حديثه عن الرواية يشدك لتفاصيل أبعد حيث الحديث عن تأثير الهجوم النووي على هيروشيما وناجازاكي في اليابان، وعن الرغبة في الانتقام من السطوة الأميركية على العالم، حيث تتضمن هذه الرواية عن قوة الوكالات السرية الأميركية ، ونفوذها في العالم، كما يحاول براون ومن خلال قوله أن يناقش مسألة حرية الناس الشخصية، وحقهم في حفظ خصوصياتهم من تطفل المؤسسات الكبرى التي تعرف كل شيء عن كل شخص، بأي لغة في العالم، وتُرجمت هذه الرواية إلى العربية بعد النجاح الكبير الذي حققته روايته اللاحقة شيفرة دافينشي، كما أعيد طبعها. ومن خلال شغف الحضور الذين أتوا لعمل مهرجان حضور فكري تحدث براون بشغف عن روايته الثانية "ملائكة وشياطين" (Angels & Demons) التي صدرت في عام 2000، وأثارت ضجة إشكالية كغيرها من روايات دان براون التي تتجلى فيها نظرية المؤامرة، براون والذي يأتيك بابتسامة مدهشة يأخذك لروايته ليحدثك عن العداء بين العلم والدين ممثلين بمركز سرن للأبحاث والفاتيكان. وعن تآمر المؤسسة الدينية عبر التاريخ. تُرجمت هذه الرواية إلى العربية كغيرها من روايات دان براون بعد نجاح روايته شيفرة دا فينشي، هذه الرواية تجسد مغامرة البروفيسور روبرت لانغدون بطل رواية شيفرة دا فينشي الأولى، والتي قادته إلى متاهات وأقبية الفاتيكان بحثاً عن حقيقة تنظيم سري قديم يُعتقد أنه نشأ لمعاداة الكنيسة ويُسمى المتنورون، حيث يعتقد أن مجموعة المستنيرين انبعثت من التراب لتنتقم من الكنيسة عبر تدمير الفاتيكان. وتبدأ الرواية بمقتل عالم يدعى ليوناردو فيترا ووشم شعار المستنيرين على صدره، ثم تتوالى الأحداث ليلة اختيار البابا الجديد، فيعم الذعر العالم إثر عمليات القتل المروعة للكرادلة الأربعة المرشحين لمنصب البابا، ونقش أحد رموز العناصر الأربعة على صدر كل منهم، وصولاً إلى ماسة المستنيرين الكاملة.
في الحديث ذاته والذي ينقلنا من خلاله براون إلى أروقة كتاباته المتعددة يأتي ليخبرنا أننا نعيش اليوم في فترة "مثيرة"، والخيط الذي كان يفصل بين الدين والعلم بدأ يختفي، وهذا ربما تفسير واضح لما تبرزه رواياته الأدبية، حيث أصبح العلماء يتدخلون في كل شيء، دون قيود أو ضوابط، ولذلك فإنهما أصبحا شريكين، وقال: "للدين والعلم لغتان مختلفتان، ولكنهما ترويان نفس القصة في محاولتهما تفسير ما يدور بالحياة، وفي هذا الزمن توثقت العلاقة أكثر بين هذين المفهومين، فنحن نعبد الله تعالى وفي كل لحظة لدينا فهم علمي أوسع لما يدور حولنا، بل يصعب علينا اليوم أن نتقبل كل شيء دون تفسير علمي واضح".
مؤكدا هذا الروائي الشهير أنه لا يجد أجمل من الجلوس تحت السماء كل ليلة وتأمل النجوم، كما علّمه والده منذ كان صغيراً، وسيظل مؤمناً بأن الكون، بكل ما يحمله من ألغاز، هو أكبر من قدرتنا على فهمه، وفي كل لحظة من حياتنا نشعر بوجود الله، وهذا اللحظة يشعر بها كل إنسان على سطح هذه الأرض وتساءل: إذا كنا نتشابه في المظاهر الروحية وفي إيماننا بالله، فلماذا نختلف على أدياننا؟ وأجاب: "أصل أدياننا واحد، ولكن مفرداتها ودلالاتها هي المختلفة، فكل الأديان بالعالم تحمل في جوهرها نفس الحقائق الإنسانية: العطف أفضل من القسوة، والبناء أفضل من التدمير، والحب أفضل من الكراهية.
ثم توقف لحظة وعاود الرجوع ليربط المؤامرة والتي تجلت في روايته الثالثة "حقيقة الخديعة" والتي صدرت عام 2001، وكغيرها من رواياته، اعتمدت على نظرية مؤامرة سرية تدور في غفلة من المواطنين العاديين، وتتحدث هذه الرواية عن مؤامرة تقوم بها وكالة الأبحاث الأميركية مع وكالة ناسا لإقناع العالم بحقيقة حجر نيزكي، خلال السباق إلى البيت الأبيض، وذلك لأغراض إسكات الانتقادات الموجهة إلى الوكالة، ولأغراض خفية غير ظاهرة للعيان، وعبر فرقة دلتا فورس يسعى المتآمرون لإسكات العلماء الذين اكتشفوا الحقيقة، لكن الحقيقة تظهر في النهاية، براون يناقش في روايته هذه فساد السياسيين الأميركيين، وسطوة وسائل الإعلام الكبرى، كما تناقش قوة الوكالات الخاصة، والفرق التي لا يعلم الناس عنها، كما أتى بشفافية ليناقش مفاهيم اجتماعية كالولاء للوطن والعائلة، وتقديم الوطن على العائلة في الولاء، إضافة إلى أن هذه تتحدث عن الاكتشافات العلمية الجديدة غير المعروفة.
وهناك شخصيات وضعها براون في الرواية تمثلت في راشيل سيكستون وتتزعم أهم منصب في دائرة اختصار المعلومات في مكتب الاستطلاع القومي (الوسيط ألاستخباراتي للبيت الأبيض)، وابنة السيناتور سيدجوك سيكستون. زاكاري هيرني رئيس الولايات المتحدة الأميركية ةالسيناتور سيدجوك سيكستون المرشح الجمهوري لرئاسة الولايات المتحدة الأميركية. وغيرهم. قصة هذه الرواية وكما يدركها القارئ تتمثل باختصار أنه وبعد أن اكتشف قمر صناعي جديد لناسا جسماً نادراً بصورة مذهلة مدفوناً في أعماق المتجمد الشمالي أعلنت وكالة الفضاء المتخبطة نصراً كانت تحتاجه بشدة، نصرا ذا تضمينات عميقة بالنسبة لسياسة الفضاء الأميركية والانتخابات الرئاسية القادمة. وفي هذا الوضع العصيب للمكتب الرئاسي يرسل الرئيس محللة البيت الأبيض الاستخباراتية راشيل سيكستون إلى المنطقة الجليدية في ميلني وذلك للتأكد من مصداقية هذا الاكتشاف مصحوبة بفريق من الخبراء بما فيهم العالم الأكاديمي مايكل تولاند تكتشف راشيل ، ولكن قبل أن تتمكن راشيل من الاتصال بالرئيس تتعرض هي ومايكل إلى هجوم من قبل فريق مميت من السفاحين يخضع لسلطة سياسية غامضة غير واضحة.
شيفرة دافينشي هي الرواية الأكثر تداولا في القاعة يومها، حيث السائد من القول الدخول في عوالمها المتنوعة، فهي قبل كل شي رواية تشويق وغموض بوليسية خيالية نشرت عام 2003، هذه الرواية حققت مبيعات كبيرة تصل إلى أكثر من 60 مليون نسخة وصنفت على رأس قائمة الروايات الأكثر مبيعاً في قائمة صحيفة نيويورك تايمز الأميركية. تم ترجمة الرواية إلى 50 لغة حتى الآن. وتدور أحداثها في حوالي 600 صفحة في كل من فرنسا وبريطانيا. تبدأ بالتحديد من متحف اللوفر الشهير عندما يستدعي عالم أميركي يدعى الدكتور روبرت لانغدون أستاذ علم الرموز الدينية في جامعة هارفارد على أثر جريمة قتل في متحف اللوفر وسط ظروف غامضة، ذلك أثناء تواجده في باريس لإلقاء محاضرة ضمن مجاله العلمي. يكتشف لانغدون ألغازا تدل على وجود منظمة سرية مقدسة امتد عمرها إلى مئات السنين وكان من أحد أعضائها البارزين العالم مكتشف الجاذبية إسحاق نيوتن والعالم الرسام ليوناردو دافينشي. وتدور أغلب أحداث الرواية حول اختراعات وأعمال دافنشي الفنية. اكتشف انغدون والفرنسية صوفي نوفو خبيرة فك الشفرات والتي يتضح لاحقا أن لها دور كبير في الرواية سلسلة من الألغاز الشيقة والمثيرة والتي تستدعى مراجعة التاريخ لفك ألغازه وسط مطارده شرسة من أعضاء منظمة كاثوليكية تسعى للحصول على السر، وتأتي الإثارة في صدور هذه الرواية إلى حد منعها من الدخول إلى عدة دول منها الفاتيكان والذي اعترض اعتراضاً شديداً على محتوياتها، ذلك لأنها تتناول علاقة المسيح بمريم المجدلية بطريقة منافية لما هو مذكور بالكتب المقدسة. مُنعت الرواية أيضا من دخول بعض الدول الأوروبية والدول العربية مثل لبنان والأردن.
وتطرق براون في لقائه بمحبيه والذي قُطع من قبل جمهور الحاضرين بالتصفيق مرات عديدة، إلى شجون الكتابة وهمومها، فأكد أن من واجب الكاتب أن يشجع على الحوار مع الآخر، رغم أن الكتابة ليست بالمهنة السهلة، مستدلاً على ذلك بمقولة الكاتب الإنجليزي الشهير جورج أورويل: "تأليف كتاب هو صراع مهلك، مثل مقاومة مرض مهلك"، مضيفاً بأسلوب ساخر: "أكبر مأساة في العالم أن تكون كاتباً، والأكثر مأساوية منها أن يكون زوجك كاتباً!". مشيرا إلى أنه مع ذلك، يقدر كثيراً دعم زوجته له، فهي أول من يقرأ أعماله، وهي بمثابة المحرر الأدبي للروايات الست التي قرأها ملايين الناس حول العالم. وتناول الروائي الذي تحول اثنان من أعماله إلى فيلمين سينمائيين قصته مع الفن السابع، وقال إنه لم يكن مقتنعاً في البداية بتحويل أعماله إلى أفلام، نظراً لحبه الكبير للكتب، ولكنه عدل عن ذلك في النهاية، بعد أن تولى رون هاوارد مهمة الإخراج، وتوم هانكس التمثيل، لافتاً إلى أنه كان سعيداً جداً بتعامله مع هذين النجمين الكبيرين في مجالهما. مشيراً إلى أنه خلال الحفل الذي أقامته الشركة المنتجة لفيلمه الأول "شيفرة دافنشي"، سأله أحد أصدقائه: عندما كتبت هذه الرواية، هل تخيّلت يوماً أنك ستكون في فندق مع توم هانكس، فقلت: نعم، هذا كان حلمي!. وختم دان براون كلمته بالقول: "من الخطأ الاعتقاد بأن أحدنا معصوم من الخطأ، أو أنه يملك الحق في الحياة دون الآخر، ولذلك يجب علينا أن نعيش بعقول منفتحة.
ومن خلال الشغف المتواصل طرحت العديد من الأفكار والرؤى والنقاشات وأجاب براون على بعض منها وتمثلت إجاباته حول أنه يبحث باستمرار عن أفكار لرواياته المقبلة، لكنه لا يفكر الآن برواية مستوحاة من الإسلام أو المنطقة، رغم أنه قضى وقتاً طويلاً في القراءة والبحث عنهما، لكن المعلومات لم تكتمل عنده بما يكفي لكتابة عمل روائي. وأكد أن الدين يشجع الناس على العمل المشترك، والحوار مع الآخر، ولكن المشكلة تكمن في الناس غير المتدينين حقاً، الذي يختطفون الدين ويوظفونه لمصالحهم. مضيفاً أنه يحب الأبطال "المشابهين لنا"، والذين يستخدمون العقل بدل المسدس في أعمالهم وحياتهم.