سعيد بن راشد الكلبانيفي السَّاحةِ الأمنيةِ الشُّرطية، ثمةَ اسمٌ لامِعٌ لشخصيةٍ عُمَانيةٍ قياديةٍ فذَّةٍ، تأبى الأمانة تجاوزها..شخصيَّةٌ، بدأ صاحبها يميلُ إلى العسكرية منذ أن كان فتىً يافعًا، فلم يرَ في نفسِه، حينما شبَّ عن الطوق، إلا العسكرية..العسكرية وكفىَ. تخبرُنا مُذكّراته أن هذا الميل وجد شرارته الأولى في فترةٍ مُبكرةٍ من العمر؛ وتحديدًا، مُنذ أن كان يتدرَّب على فنِّ الرِّمايةِ في قريتِه مسكن، بولاية عبري.هذا المشهد، أوجد في أعماقِه إعجابًا شديدًا بتلك القاماتِ السَّامقات، من أبناءِ قريته، وهندامِهم العسكريِّ القشيبِ والمميز.تاقت نفسُه إلى السَّيرِ على خُطاهم في الالتحاق بالجيش؛ فاستجاب له القدر في عام 1964م.إنه (جُنديٌّ من مسْكن)، كما يحبُ أن يُشار إليه..كيف لا، وهو ما فَتِئ يُفاخِرُ بتلك الأيام الخوالي التي كان فيها مُقاتلاً في الجيش، وبتلك الأبجديةِ العسكريةِ المتجذِّرة في أعماقِه، التي تقضي بعدم التفريط في السَّلاح والذخيرة في المعارك، رغم الإصابة؛ ما دام في الحياةِ رَمقٌ باقٍ.. تلك الأبجدية التي حالت بينه وتسليم بندقيَّته إلى رفاقِه، وهو محمولاً على أكتافهم، إثر إصابته بمقذوفٍ ناريٍّ، أثناء عمليةٍ عسكريّة في عام 1966م؛ وظلَّ، بدلاً من ذلك، مُتوشِّحًا بها، إلى أن نُقِل إلى حيث الأمان.. ولولا العناية الإلهية؛ ثم العزيمة الصَّادقة، والإصرار المدروس، التي أبَت عليه الاستِسلام، لتدفعه ـ بدلاً من ذلك ـ نحو مواصَلةِ المسيرِ، بكُلِّ شَكيمةٍ وهِمَّةٍ واقتدارٍ؛ لأقعدته الإصابة؛ ولإنتهت حياته المهنية بالتبعية؛ مُجسِّدًا بذلك قول المتنبي:(وإذَا كانَتِ النُّفُوسُ كِبَارًا... تَعِبَتْ في مُرَادِهَا الأجْسَامُ).استجاب له القدرُ مُجدَّدًا في عام 1968م، فكان واحدًا من الذين وقع عليهم الاختيار للانتقال إلى جهاز الشرطة، تنفيذًا لتوجيهات السُّلطان الأسبق ـ طيَّب الله ثراه ـ سعيد بن تيمور، لتطوير الجهاز.. ثقل على نفسِه للمرةِ الثانية أن يتخلّى عن بندقيَّتِه؛ لولا نداءٌ صَدَحَ من الأعماقِ، أخبره أن حبَّ الأوطان لا يكون بحملِ البندقيةِ في ميادين القتال فحسب؛ وإنما هو قصةُ كفاحٍ وتضحية، تخضع فيه النفوس لما يُريده الوطن؛ لا لما تريده هي.. فتأبَّط عصا القانون، استجابةً للنداء، وعلى عضديهِ رتبة رقيب، ليواصل بها مسيرة العطاء في قوةِ الشرطة؛ فيسطع نجمُه سريعًا، وتزدان كتفيه برتبة ملازم ثانٍ في عام 1969م، لتتوالى عليه النجاحات تترا؛ والرُتَبُ تلو الرُّتب. كلُّ ذلك تحقَّق له في زمنٍ قياسيّ، بل وأكثر من ذلك.. فالذكرى الطيبة التي خلَّفَها في نُفوسِ العامةِ، جعلتهم يذكرونه، كُلما أتى الحديث عن تطوُّرِ شرطة عُمَان السُّلطانيّة، رغم مضيّ ما يَنوفُ على العشرين عامًا مُنذ أن ترجَّل من صهوةِ القيادة وسلَّم الراية إلى غيره.. كيف لا، وبصماته لا تزال تتوشَّح بها الكثير من إنجازاتِ الحاضرِ المعاش.. قيلَ عنه في تأكيدِ هذا المعنى الكثير من الأقوال، من ذلك: أن عددًا من النجاحات التي شهدها الجهاز في عهدِ القادةِ اللاحقين، الذين لا يقلون عنه كفاءً وهِمَّةً وحيويَّة، ما كانت لتتحقَّق لولا تلك الأُسُس والمداميك القويَّة التي أرساها بِحنكةٍ وأنَّاةٍ، عبر معاركٍ تأسيسيَّةٍ ضارية، خاضها بشجاعةٍ نادرة، رغم ما كابده من مُعاناةٍ في إعادة تنظيم البيت، من ناحية؛ وفي إصلاحه، من ناحيةٍ ثانية؛ وتوسعتِه وتطويره، من ناحيةٍ ثالثة؛ وتوطينه، لمستقبلٍ أكثر إشراقًا وبهاءً، من ناحيةٍ رابعة.. مُؤكدًا على انصرافِ جُل حرصه إلى تطوير العُقول قبل الهياكل. عمل بحيادٍ وموضوعيةٍ على ترسيخِ مفهومِ حفظِ الأمنِ والنظامِ العام، ليس في عقيدة مُنتسبي الجهاز فحسب؛ بل في عقيدةِ العامة، وهذا هو الأهم؛ ليحقِّقَ بذلك إنجازاتٍ معنويةٍ عظيمة، قبل الإنجازات المادية، عَصيَّةٌ هي على الحصرِ والبيان.. إنه أوَّل عُمَانيٌّ يتقلَّد منصبَ المفتش العام للشرطة والجمارك..إنه الفريق أول مُتقاعِد سعيد بن راشد بن محمد الكلباني، صاحب الأوسمة والميداليات الرفيعة التالية: وسام السُّلطان قابوس؛ وسام عُمان العسكري من الدرجة الثانية؛ وسام الطوغرائية السُّلطانية الخاصة؛ ميدالية اعتلاء العرش؛ ميدالية الخدمة العامة (ظفار)؛ ميدالية الصُّمود؛ ميدالية السَّلام العُماني؛ ميدالية الكفاءة؛ إلى جانب الميداليات التي كانت تمنح في الأعياد الوطنية لعموم منتسبي الجهات العسكرية والأمنية..قامةٌ وطنية بارزة.تقديرًا لدوره في البناء، كان للمكتب الفني في الادّعاء العام شرف التحاور مع هذه الشخصية المدرسة خلال جلستين ثريّتينِ، عرَّج بنا صاحبها على العديد من المحطات والوقفات التاريخيةِ البارزةِ والفاصلة في مسيرةِ تطور شرطة عُمَان السُّلطانية، لا يسعها ـ بحالٍ من الأحوال ـ هذا الحيِّز البسيط لاستعراضها؛ مُكتفين بتسليطِ الضَّوء على مُقتطفاتٍ منها؛ وتحديدًا، ما تعلَّق ببداياته في جهاز الشرطة؛ ثم بمراحل تطوُّر التحقيقات الجنائية؛ وكيفية تعامل الشُّرطة مع الدَّعوى العمومية؛ ثم كيف نشأ وتطوُّر الادّعاء العام في كنفِ الشرطة؛ مُختتمين ذلك بأهم نصائحِه إلى الجيل الجديد..فكان لنا معه الحوار التالي:س/ استمتعنا كثيرًا بقراءةِ مشوارِ معاليكم الوظيفي، المليء بكثيرٍ من الدروسِ والعِبر الجميلة ـ في مذكراتكم الرائعة التي وسمتموها باسم (جُنديٌّ من مسكن: شهدُ الذاكرة).وأخذًا في الاعتبارِ افتقار السَّاحة العُمَانية إلى سابقةٍ كهذه، من كبارِ المسئولين؛ فهل لكم أن تُكشفوا لنا وللجمهور عن السّبب الذي دفعكم إلى هذه الخطوة غيرِ المسبوقة؟ج/ حقيقة، فأنا مدين بكثير من الشُّكر والعرفان إلى زملائي الضبّاط المتقاعدين الذين لم ينسوا الفضل ولا الود ولا المعروف الذي كان بيننا؛ واستمروا، جزاهم الله خيرًا، في التردُّد عليَّ بين حينٍ وآخر، وشجَّعوني على الإقدام على هذه الخطوة، خلال جلسات استرجاع الذكريات معهم.لن أذكر أحدًا منهم بالاسم، تحسبًا للإجحاف في حقِهم بفعل النسيان.فكرتُ في كلامِهم كثيرًا، ووجدّتُ أنه من حق الأجيال القادمة، سيَّما من أبناء الجهاز، أن تقف على ما يمكن نقله إليهم من بعض الحقائق التاريخية، حفظًا لها من الفناء؛ خاصةً وأنني عايشت فترتين، عُرفت بين أروقةِ الشُّرطة بفترةِ الشُّرطة القديمة، وفترةِ الشُّرطة الحديثة.عايشتُ جهاز الشُّرطة منذ عام 1968م؛ ومررتُ خلال فترةِ عملي، التي امتدَّت حتى عام 1995م، بمواقفٍ كثيرة، أعتقدها جديرة بالتوثيق واستخلاص الدروسِ والعِبر، لمن أراد أن يعتبر.وحفظًا لتلك الدروس من الاندثار، وجَدّتُ من المناسبِ ضمّها بين دفتي كتاب؛ لتكون متاحة للعامة.وفي تنفيذ هذا المشروع الكبير، أخصُّ بالشكر الجزيل إلى العقيد متقاعد عبدالوهاب بن عبدالكريم البلوشي، الذي وقف معي وقفةً جادة في تكليف من يجلس معي جلسات طويلة، لتسجيل الذكريات، ثم تفريغ التسجيلات، انتهاءً بتسليم الكتابة المبدئية إلى الأخ الأديب محمد بن سيف الرحبي، الذي عمل على وضعها في قالب أدبي، بعد أن أجرى معي بعض اللقاءات التكميلية.س/ وضَّح لنا، كيف كانت بدايتك في جهاز الشرطة؟ج/ بدايتي جاءت في يوم 15 سبتمبر 1968م، اليوم الذي أعدَّه يومًا تاريخيًا مفصليًا في حياتي العملية؛ وأحسبه سيبقى أبد الدهر محفورًا في ذاكرتي، لن أنساه أبدًا ما حَييت.ففي هذا التاريخ، اضطرَّني ظرفٌ قهريّ أن أترك المجال الذي أحببته، وملأ قلبي وعقلي وفؤادي منذ أن كُنت فتىً يافعًا. في هذا اليوم، انتقلت من الجيش، لأجل العمل في الشرطة، وتحديدًا إلى ما كان يُعرف آنذاك بـ(جُندرمة عُمَان)، ومقرّها وادي العرش في ولاية السيب؛ على إثر إصابتي في إحدى العمليات العسكرية.بدأت مسيرتي في الشرطة برتبة رقيب، أو (شاويش)، كما كانت تعرف آنئذٍ؛ وهي الرتبة ذاتها التي كنت عليها في الجيش، وقُيّدت في الشرطة بالرقم العسكري (82).بقيت في وادي العرش لمدة شهر تقريبًا، ومعي مجموعة أخرى من الأفراد الجدد، تلقينا خلالها محاضرات من الميجر (الرائد) وليم أوكت (W.L.Aucutt) باللغة الإنجليزية عن واجبات الشرطة، مثل: كيفية إلقاء القبض على المتهمين، ومبادئ التفتيش، وما ينبغي فعله عند التقرير بحبس المتهمين، وكيفية المحافظة على متعلقاتهم الشخصية؛ ثم مبادئ تدوين محاضر التحقيق مع مختلف أطراف الدعوى؛ وكيفية فض الشغب، ثم توثيق كل ذلك في دفتر الأحوال اليومية؛ وما إلى ذلك من أبجديات العمل الشُّرَطي.كان يقوم بالترجمة إلى اللغة العربية السيد سيف بن سلطان بن حمود البوسعيدي.كان الهدف من تلك المحاضرات إعدادنا كمدربين.ومن وادي العرش انتقلنا إلى مركز التدريب في غلا، واستلمنا مهامنا في تدريب فصيل كامل، كان قد نُقل لتوِّه من الجيش أيضًا.كان من حُسن حظي أن تزامن نقلي إلى جهاز الشرطة ونهضة إعادة تنظيمه؛ فنالني الكثير من ثمار تلك النهضة، ومن ذلك الترقيات السَّريعة.ففي شهر مايو من السَّنة التالية، أي 1969م، تمت ترقيتي إلى رتبة ملازم، ليتغير رقمي إلى (908)، علمًا بأن تسلسُلي الحقيقي هو رقم (8)، وما الرقم (90) سوى من باب التمويه؛ تحسبًا لوقوف العامة على العدد الحقيقي للضباط.كنت ثالث أقدم ضابط عُماني، بعد الملازم سالم بن سعيد الصبحي، الذي شغل منصب نائب ضابط التحقيقات الجنائية؛ والملازم حسن الله داد البلوشي، الذي شغل منصب ضابط مكتب الأحوال (الاستقبال)؛ وأنا شغلت منصب المشرف على التدريب، والمشرف أيضًا على مركز شرطة مطرح.وهذه كانت بدايتي، باختصار، في الجهاز الذي أحببته ـ مثلما أحببت الخدمة في قوات السلطان المسلحة، من قبل ـ وأحسبني بأنني لم أدَّخر فيه وسعًا في مواصلة بناء وتطوير من سبقني من الزملاء في هذا العمل الوطنيّ؛ إلى أن أنعم عليَّ جلالة السُّلطان قابوس ـ طيَّب الله ثراه ـ بتاريخ 8 يناير 1995م، بمنصب مُستشار الأمن العام، مُلحقًا بالمكتب السُّلطاني؛ وسلَّمتُ رايةَ القيادة والتطوير إلى أحد أبناءِ الجهاز المخلصين، الذي ظلَّ لما ينوفُ على عشرةِ أعوام مُرافقًا عسكريًا لجلالة السُّلطان، وهو معالي الفريق هلال بن خالد المعولي.وهكذا هي سُنَّة الحياة، كلٌّ يُؤدِّي دوره في مسرح الحياة ثم يرحل، بعد أن يكون قد ترك بصمته الخاصة.س/ أرجو أن توضِّحوا لنا كيف كان وضع التحقيقات، وكيف كنتم تتعاملون مع القضايا الجزائية، قبل وبعد صدور أول قانونٍ للشرطة في عام 1973م؟لم يكن لجهازِ الشرطة الدَّور الذي تضطلع به الآن، فيما يتعلق بجزئية ضبط الجرائم وملاحقة المذنبين.فلقد كان لجهاز الشرطة قبل سنة 1968م، دورٌ محدودٌ جدًا في هذا الخصوص.كانت النزاعات، أيًا كانت طبيعتها (جزائية، أو مدنية، أو تجارية، أو أحوال شخصية)، يبدأ التَّصدي لها من الحارة، حيث يتدخّل فيها المصلحون عامة، ومن كبار السن خاصةً، للتسوية بين المتخاصمين، فإن فشل هذا المسعى؛ يتدخّل الشيوخ والرُّشداء، واضعين نصب أعينهم الصلح، في المسائل التي يجوز فيها التصالح، فإن عجزوا؛ رفعوا الخصومة إلى الوالي، الذي يستهل تدخُّله أيضًا بمحاولة الصلح، فإن عجز؛ أحال الخصومة إلى القاضي الشرعي، الذي في الغالب يكون معه في المجلس ذاته.في سنة 1968م، وبعد أن كلَّفَتْ الحكومة (الميجر) الرائد وِليَم أوكت، من القوات المسلحة، بإعادة تنظيم الجهاز، ظهرت النواة الأولى لتدخل الشرطة في القضايا الجزائية.فعلى ضوء التصوّر العام لإعادة تنظيم الجهاز؛ تم في عام 1969م، التعاقد مع أربعةٍ من الخبراء الأجانب، اثنان من الجنسية البريطانية، هما النقيب جالاند، والنقيب فلكس ديسلفا (الأخير من أصل سيرلانكي)؛ واثنان من الجنسية الهندية، هما: النقيب دومنيك ديسوزا، والنقيب رنجن برار.وكان مفوض الشرطة عندئذٍ الميجر وليم أوكت، ونائبه هو النقيب جالاند.حسب التصوّر المرفوع لتنظيم الجهاز، تم تكليف النقيب دومنيك ديسوزا بإنشاءِ نواة للتحقيقات، عُرفت آنئذٍ بدائرة التحقيقات الجنائية.يُذكر أنَّ النقيب ديسوزا تولى وحدة التحقيقات من سنة 1969م وحتى سنة 1976م؛ ثم تولاها ثانيةً لبضعة أشهر في عام 1979م؛ واستلمت أنا من ديسوزا للفترة من 30 سبتمبر 1979م وحتى 19 أغسطس 1980م.وبتاريخ 1/7/1985م أصدرنا قرارًا، بتعديلِ مُسمَّى دائرة التحقيقات إلى (الإدارة العامة للتحقيقات الجنائية)، وتم إنشاء مبنى خاص لها بجوار مبنى القيادة العامة للشرطة في القرم؛ وفي عام 1989م أضفنا إلى مسماها الجانب الخاص بالتحري، ليصبح مُسماها الإدارة العامة للتحريات والتحقيقات الجنائية.والتدَّخل الفعلي والحقيقي للشرطة في القضايا الجزائية حدث بعد صدور قانون الشرطة في سنة 1973م. ففي هذا القانون، أسند المشرّع، بموجب المادة (18)، صلاحيات (الاتهام) إلى جهاز الشرطة، بالإضافة إلى عملها الأساسي في حفظ الأمن والنظام العام، لمنع ارتكاب الجرائم، وضبط ما يقع منها. فعبَّر المشرِّع عن صلاحيات الشرطة في القيام بأعمال سلطة الاتهام بالنص التالي: (تمثيل الاتهام في الجرائم والمخالفات أمام محاكم القضاء نيابة عن النيابة العامة).بصدور هذا القانون، ظهرت النواةُ الأولى لنظام التقاضي الحديث؛ حيثُ أنشِئت ابتداءً، ما عُرف آنئذٍ بمحكمةِ المرور؛ التي اختصَّت بالنظرِ في القضايا المرورية؛ ثم اتَّسَع نطاقُ اختصاصِها، ليشمل النظر في جميع الجرائم، بعد أن صدر قانون الجزاء في عام 1974م.كما تغيَّر مُسمَّى المحكمة، تبعًا لصدور هذا القانون الأخير، إلى (محكمة الشرطة الجزائية)؛ وكان رئيس المحكمة آنئذٍ صاحب السُّمو السَّيد تركي بن محمود آل سعيد، قبل أن يُرقى، في عام 1981م، تقريبًا إلى مستشار الدولة للشئون الجزائية.كان مقر المحكمة فيما عُرف آنئذٍ بمُجمّعِ الوزارات في مطرح الكبرى (منطقة بيت الفلج)، حيث مكان إدارات الادِّعاء العام التخصُّصية حاليًا.تميزت هذه المحكمة عن غيرها من المحاكم الشرعية المنتشرة في الولايات، في جانبين اثنين: أولهما: عدم اختصاصها بالنظر في الدعاوى المدنية ولا الشرعية؛ وثانيهما: عدم استماعها إلى أطراف أية دعوى، مالم يكن هناك ملف قضية، تولت الشرطة إعداده، وإجراء التحقيق في موضوعه.س/ هل لكم أن تحدثونا عن بداية ظهور الادِّعاء العام الجزائي، وكيف تطوَّر تحت مظلة الشرطة؟ج/ على أثر صدور المرسوم السلطاني رقم (25/84)، الخاص بتنظيم القضاء الجزائي، تم استحداث قسم للادعاء العام الجزائي، ضمن تشكيلات دائرة التحقيقات.حيث أورد المشرع في المادة (10) من المرسوم النص التالي:(تتولى شرطة عُمان السُّلطانية صلاحيَّات الادعاء الجزائي أمام المحاكم الجزائية، وذلك بالإضافة إلى صلاحيَّاتها الأصلية في إجراءات التحري وجمع الأدلة والتحقيق).وبناءً على هذا النص القانوني، أنشأنا قِسمًا باسم الادِّعاء العام الجزائي، وأتبعناه إلى دائرة التحقيقات الجنائية؛ كما نقلنا المقدم عبدالله بن سليمان الشماخي (تقاعد برتبة عقيد) من وحدة شرطة إبراء إلى دائرة التحقيقات، وعيَّنته ضابطًا مسئولاً عن الادعاء العام؛ كما عيَّنا له خبيرًا قانونيًا، استقدمناه من الشرطة الأردنية، هو الرائد أحمد عبده الزُّعبي، لمساعدته في وضع اللبنات الأولى لعمل الادِّعاء الجزائي.ومنذُ تأسيس الادِّعاء العام الجزائي، بدأنا نصدر التوجيهات المنظمة لسير عمل هذا القسم الجديد؛ ومن ذلك، تلك التوجيهات التي ضمَّناها في مذكرتنا الإدارية المؤرَّخة 16 ديسمبر 1985م، بعنوان: (تعليمات بشأن إجراءات التحقيق والادعاء في قضايا الجنح والجنايات)، وجَّهناها إلى مُساعد المفتش العام لشئون التحقيقات الجنائية، اشتملت الفقرة (ثانيًا) منها على توجيهات خاصة (للادعاء العام الجزائي)، منها: ضرورة مراجعة التحقيقات في قضايا الجنح والجنايات، وأن لا تحال إلى المحكمة، إلا بعد التأكّد من خضوعها لقواعد التجريم، وعدم زوال الوصف الجرمي لها، أو وجود مانع من موانع العقاب، ثم الوقوف على كفاية أدلتها.كما ورد في التوجيهات ذاتها ضرورة أن لا تقل رتبة من يقوم بإعداد لائحة الاتهام عن رتبة ضابط؛ وأن يتولى الادّعاء العام الجزائي تقييم أحكام البراءة، لتقرير جدوى استئنافها من عدمه؛ وفي حال قرّر الاستئناف، فعليه أن يُودِع طلبه لدى المحكمة الجزائية في العاصمة مسقط خلال ثلاثين يومًا من تاريخ صدور الحكم.وقد وردت في المذكرة ذاتها التوجيه بالعمل بالتعليمات اعتبارًا من أول يناير 1986م.اتَّجهت عناية القيادة العامة، عقب ذلك، إلى تأهيل حملة شهادات القانون، لأجل العمل في الادعاء الجزائي؛ فتم ابتعاث الملازم أول على بن ناصر البوعلي (أصبح لاحقًا أوّل مُدَّعي عام) إلى المركز القومي للدراسات القضائية في القاهرة لمدة سنة كاملة، لحضور برنامجًا خاصًا لتكوين أعضاء الادعاء العام والنيابات العامة؛ وبعد عودته، أوفدنا الملازم أول حفيظ بن عامر الشنفري (برتبة عميد حاليًا) إلى المركز ذاته في القاهرة؛ ثم أوفدنا في عام 1993م، ستة ضباط، دُفعةً واحدة إلى المعهد القضائي الأردني؛ وهكذا توالت برامج التأهيل، داخل وخارج السلطنة.وفي عام 1986م، رفعنا المستوى الإداري لمكتب الادعاء العام الجزائي إلى مستوى إدارة، وذلك تمهيدًا لفتح أقسام لها في وحدات شرطة كل من:(صحار، وصور، وصلالة ونزوى)، فتم ذلك فعلاً بين العامين (1986 – 1987م) تماشيًا مع إنشاءِ المحكمة الجزائية محاكمَ جزائية ابتدائية فيها؛ وفق مُقتضيات المرسوم السُّلطاني الخاص بتنظيمِ القضاء الجزائي.وبتاريخ 23 يوليو 1990م، أصدرنا قرارًا بفصلِ الادِّعاء العام الجزائي من الإدارة العامة للتحريات والتحقيقات الجنائية، وأتبعناها لمكتب المفتش العام مُباشرة؛ ثم رفعنا مُستواها الإداري بتاريخ 19 فبراير 1992م، إلى إدارة عامة؛ لتقف على قدم المساواة بجانب الإدارات العامة الأخرى، ومنها الإدارة العامة للتحريات والتحقيقات الجنائية.كلُّ هذه القرارات لعبت دورًا محوريًا في تقوية مكانة الادعاء العام الجزائي، قبل انفصاله عن شرطة عُمَان السُّلطانية بفترةٍ طويلة.س/ دعنا الآن نعود إلى الوقت الذي عيّنتم فيها مفتشًا عامًا.يرجى أن توضحوا لنا الإحساس الذي انتابكم عندما طلبكم المساعد الأول لمفوض الشرطة، براين كوبر، وَزَفَّ إليكم التعليمات التي تلقاها بتسليمكم منصبه؛ ثم كشف لكم، في الوقت ذاتِه، أن ذلك سيعقبه تسلمكم منصب مُفوِّض الشرطة، بوقت قريب؛ وكيف كان إحساسكم عندما أكَّد لكم المفوِّض ديسلفا، صحة ما نُقل إليكم، وأن التعليمات العليا بالفعل اقتضت تسليمكم راية القيادة بعد بضعةِ أشهرٍ.وهل ظهرت أمامكم مؤشرات معينة، جعلتكم تتوقعون وصولكم إلى منصب المفتش العام للشرطة والجمارك؛ وما الذي تود قوله للجيل الحالي في هذا الصَّدد؟ ج: إحساسٌ هو عَصيٌّ عن الوصف..ج / شعرتُ للوهلةِ الأولى أنني في حلمٍ جميلٍ ومُقلقٍ في آنٍ معًا.. تنازعتني أحاسيسٌ مُضطربةٌ من الانشراح والتوجُّس.. دار في رأسي شريطُ الذكريات في مَشهدٍ بانوراميٍّ سريع.. تبدَّى أمامي ذلك الشاب البسيط والطموح القادم إلى مسقط من قريتِه مسكن بولاية عبري ليلتحق بالجيش، ثم كيف تحطَّمت أحلامه إثر إصابته في إحدى العملياتِ العسكرية، لإحساسِه أن قيادته ستنقله للعمل في المخازن، كما هو حال زملائه الذين سبقوه في الإصابة؛ أو سينتهي به المطاف إلى العودة إلى بلدته؛ ثمَّ كيف ابتسم له القدر، وفتح له مَدخلاً جديدًا في جهاز الشرطة، ليتسَنَّم كرسيّ القيادة، في بحر أربعة عشر عامًا فقط.عندما عكفت على كتابة مذكراتي، أدركتُ كم هي تشاؤميَّة تلك المقولة التي يتَّجهُ مضمونها إلى أن المصائب لا تأتي فُرادى؛ وفي الحقيقة، فإنها ـ في كثيرٍ من الأحيان ـ تجذبُ الإنفراج والسَّعَد.. كيف لا، وهذا هو ناموس الحياة، الذي وعدنا به ربِّ العباد بقولِه:(إنَّ مع العُسرِ يُسرا * إن مع العُسرِ يُسرا).في الحقيقة، لم أتوقَّع البتَّة أن أصلَ إلى كُرسيّ القيادة؛ لاسيَّما أن في تلك الحقبة، كانت القيادة في أيدٍ أجنبية، أوروبية على وجه التَّحديد، ولم أتوقَّع أن الإرادة السَّامية، لمولانا السُّلطان قابوس ـ طيَّب الله ثراه ـ ستتَّجه بتلك السُّرعة إلى تعمينِ الصَّف الأول في قيادة الشرطة؛ ولا أن الاختيار سيقع عليَّ أنا. هو فضلٌ من اللهِ عزَّ وجل؛ ثم ثقةٌ من لدُن مولانا السُّلطان، وسأبقى أبدًا ما حَييتُ أعتزُّ بها.أمام هذه النظرة الإيجابية والمتفائلة لهذا التكليف؛ أخذ يترامى إلى مسامعي نداءٌ، من مكانٍ خَفيٍّ قَصيّ، يُشكّكني في قُدراتي، ويجعلني أتساءل عمَّا إذا كان في وسعي حمل تلك الأمانة الثقيلة دونما تقصير..وفي اللحظةِ ذاتها، صدَحَ صوتٌ من الأعماق، أخبرني بأن أبذلَ ما لديَّ من جَهدٍ، وأترك النتيجة لرب العباد، الذي سيتكفَّلُ حتمًا بإنجاح قرار تعمين منصب المفتش العام للشرطة والجمارك.ومن هذا المنطلق، أؤكِّد لأبنائي منتسبي شرطة عُمَان السُّلطانية، ولكلِّ من يقف على مقالي هذا، أنه ليس في تصاريفِ الأيام شرٌّ محض ولا خيرٌ خالص؛ وأن العمل ثم العمل، ثم العمل الجاد، هو وحده الكفيل، بعد عونٍ من المولى عزَّ وجَلّ، بإيصالك إلى حيثُ تشاء؛ وأنه علينا أن نتذكَّر دائمًا أن القِمَم لأصحابِ الهِمَم.س/ بالنظر إلى أن الرقم (82) هو رقمك العسكري الأول في جهاز الشرطة؛ ثم يصحبك الرقم ذاته ليتوافق مع السنة التي عيَّنك فيها جلالة السُّلطان في منصب المفتش العام للشرطة والجمارك، أيّ سنة 1982م.هل يمكننا القول أن الرقم 82 هو رقم سعدك؟ أم أنكم لا تؤمنون بقوة تأثير الأرقام على شخصية الإنسان، وعلى حظَّه في الحياة؟ج/ لا أستطيع حقيقة أن أقول أنه رقم سعدي من عدمه، لأنني ببساطة لا أقيم وزنًا لهذه المعتقدات، مع جُل احترامي وتقديري لها؛ وأرى أن الأمر كله من باب الصُّدفةِ المحضة.أعلم أن هناك من يؤمن بما يُسمى بعلم الجفر، حيث يتبعون طريقة وحسابات محددة للوقوف على حظ الانسان، من حروف الاسم الأول للشخص واسم أمه؛ ويكون لكل حرف وزن عددي محدد؛ فيجمعون تلك الأرقام، ويقولون أن ما يتحصل من الجمع ذو تأثير على حظ الانسان ومستقبله.س/ ما هو إحساسكم وأنتم تتابعون تطور شرطة عُمَان السُّلطانية؟ج/ لا أجد فعلاً الكلمات المناسبة لوصف إحساسي؛ وأقل ما يمكن قوله هو أنني أشعر بالفخر والاعتزاز وأنا أرى الجهاز الذي التحقت به وهو في بدايات تكوينه تكوينًا حديثًا؛ ثم تشرَّفت بقيادته لثلاثة عشر عامًا؛ قد وصل إلى هذا الحجم المهيب من العدة والعتاد والرجال والامكانيات؛ ولا أشك في أن تنمية الكادر البشري، من ضباطٍ وأفراد، يسير على الوتيرة السَّريعة عينها؛ مادامت القيادة في أيدي ضباط يشهد لهم القاصي قبل الداني بالكفاءة والإخلاص.س/ ما هي أهم القرارات التي ستتخذونها، لو قُدِّر لكم الجلوس مُجدَّدًا على كرسيّ المفتش العام للشرطة والجمارك؟ أو، ما هي النصائح التي ستسدونها «لمستقبل الجهاز»، لو طُلب منكم ذلك؟ج/ لقد توليت أمر القيادة في زمانٍ يختلف كليًا على زمان اليوم. فلا الظروف الاجتماعية ولا السياسية ولا الاقتصادية بقيت كما كانت؛ مما ترتب عليه أن تغيرت عقلية الجماهير، وتغيرت بالتبعية طرق تعاطيها مع القوانين الأنظمة واللوائح السارية. كلّ شيءٍ تغيَّر، ودوام الحال من المحال.أما نحن، فلقد (سقينا بسابنا)، كما يقول المثل العُماني، ورحلنا عن الساحة؛ وأتي غيرنا ليواصل المسير، وهكذا هي سنَّة الحياة.ولو كانت من كلمة، أو نصيحة لمستقبل الشرطة، فستكون بأهمية التركيز على علوم الشرطة في التأهيل والتكوين اللازمين لرجل الشرطة؛ ولا ينبغي أن تكون للعلوم الأخرى الأفضلية.فدراسة القانون، على سبيل المثال، وإن كانت مهمة لرجل الشرطة؛ ومع ذلك، فلا ينبغي أن تكون على حساب التخصص الأصلي، وهو الشرطة.وسيبقى في مقدور الجهاز دائمًا تعيين مخرجات الجامعات، بما في ذلك تخصُّص القانون، ثمّ تأهيلهم عسكريًا، لوضعهم في الإدارات التخصّصية التي تتطلب فيها قدر معمق في الدراسات القانونية، مثل إدارة الشؤون القانونية في القيادة؛ أما رجل الشرطة الميداني، فيُسلَّح بعلوم الشرطة وأخلاقياتها، بدلاً من ذلك.س/ بماذا تنصحون الجيل الحالي من مُنتسبي شرطة عُمَان السُّلطانية؟ج/ وصيَّتي للجيل الحالي، والأجيال القادمة من أبناء الجهاز، أن يحرصوا على التعاون والتمسُّك بالأخلاق الفاضلة، واستنهاض الهمم، والمحافظة على ما تحقَّق من إنجازات، ومواصلة البناء والتطوير والتقدم بخُطىً مدروسة وثابتة، لتظل راية عُمان دومًا ترفرف عاليةً خفَّاقة، في طليعة ركب الأمم المتقدمة، تحت القيادة الحكيمة لمولانا جلالة السلطان المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ فالوطن أمانة في أعناقنا جميعًا، جيلاّ بعد جيل.وكما قال أحمد شوقي: (وللأوطان في دمِ كل حرٍ.. يدٌ سلفت ودينٌ مُستحق).أنصح رجل الشرطة، خاصة الذي هو في الميدان، أن يتَّسع صدره لكل ما قد يُتلفظ عليه من الجمهور؛ وألّا يأخذ الكلام بشكلٍ شخصيّ؛ وألا يعتمد في تنفيذ رسالته ـ في حفظ الأمن والنظام العام ـ على مجرد صلاحياته القانونية الواسعة في القمع والحجز والتحقيق والتغريم؛ إذ أن اللّطف والكلمة الطيبة والنصيحة، في كثيرٍ من الأحيان، قد تحقق ما لا تحققه مجرد تحرير مخالفة مرورية، أو أي إجراءٍ قانونيّ مشروع.فالكلمة الطيبة، لها مفعول سحريّ في إيصال الرسالة إلى الجمهور؛ وغير ذلك، كالإصرار على مباشرة المقتضى القانوني، في معزلٍ عن الاعتبارات الإنسانية، قد يوجد سُخطًا، وبالتالي، عدم الإيمان ولا الاقتناع بأهمية الالتزام بالنظام.وقد يكون من المناسب، في هذا الصدد، أن أعرض عليهم جزءًا من التوجيهات التي تلقيتها من جلالته عندما تشرّفتُ بمقابلته في قصر السيب العامر، فور تكليفي بعمل المفتش العام للشرطة والجمارك.أسدى إليَّ جلالته الكثير من التوجيهات، أذكر منها:(معاملة الناس باللّطف، دون تفريط في تنفيذ القانون، ودون تمييز بين الناس، فهم سواسية أمام القانون).فعلاً هي كلمات نفيسة، ينبغي أن تكتب بماءِ الذهب، وأن توضع نصب عين من بيده مصائر البشر كافة، أيًّا كان موضعه، في الميدان، أم في التحقيق، أم على منصة القضاء. حاوره مُساعد المدّعي العام / ناصر بن عبدالله الرياميرئيس المكتب الفني