حاوره مُساعد المدّعي العام / ناصر بن عبدالله الريامي
رئيس المكتب الفني
----------------------------

مسؤوليةٌ عظيمةٌ هي، أن أكتُبَ عن شخصيّاتنا الوطنية، التي كانت ولا تزال مفخرةً، للأمةِ العُمانيةِ، ولغيرِها، في كثيرٍ من بقاعِ العالم. ومن هذا المنطلق، فلقد وقفتُ أمامَ هذه المهمّة الصعبة، وقفةَ تأملٍ ومُناجاةٍ لنفسي الخاطئة، مُستحضرًا ما استشعره الشيخ سالم بن حمود السيابي، رحمه الله، عندما طلب منه الكتابة عن الشيخ أبو مسلم البهلاني، في تقديمه لكتاب نثار الجوهر، حيث رأى أهمية مراعاة القدرة على الكتابة في مقامات الشخصيات السامقة، ومنزلاتها العليّة؛ وإلا، فليُترك الأمر جُله لمن يضاهيهم في المكانةِ والمنزلة، لضمان عدم التقصير في العرض والبيان؛ في إشارة متواضعة منه بأنه لم يبلغ مرتبة المترجم له. ومع ذلك، فلقد استحضرت، في موازاة تلك الرؤية المقدّرة، الوعد الرباني بعدم إضاعته، عزّ وجل، أجر المحسن لعمله؛ فاخترت المضي قُدمًا نحو الكتابة؛ ضمانًا لعدم تفويت فرصة بسط تجارب تلكم الشخصيات على جيل اليوم، والأجيال الآتية، للاستفادة منها، كلما أمكن؛ مستلهمًا في ذلك القاعدة الأصولية: "ما لا يُدرك كلّه لا يُترك جُله"؛ وحسبي أن يكون لي أجر وضع بعض النقاط على بعض الحروف؛ إلى أن يُقيّض الله من يولي الشخصية، محل الترجمة، عناية تامة غير منقوصة. وصدق من قال: "ذكر العُلماء، والكتابة عنهم، والتنويه بشأنهم، من الحقوقِ العامة في الإسلام.

نستهل سلسلة الشخصيات التي يتشرف الادعاء العام بعرضها في هذه الزاوية، بالسيد الدكتور سعيد بن هلال بن محمد البوسعيدي، فكان لنا معه الحوار التالي:

لقد ضربتم أروع الأمثلة في الكفاح من أجل نيل العلم. حبذا لو تسلطوا لنا بصيصًا من الضوء على أهم المحطات في هذا الدرب الذي ندرك أنه لم يكن سهلا يسيرا.

بدأت حياتي العلمية بتعلم القرآن الكريم، ومبادئ القراءة والكتابة في أحد الكتاتيب في مدينة مسقط، ثم التحقت بالمدرسة السعيدية لمدة ست سنوات، نلت خلالها قدرًا جيدًا من التأسيس والتكوين الراسخين؛ إذ كانت مناهج هذه المدرسة يُشار إليها بالبنان. فلقد كُنّا ندرس كتاب النحو الواضح ونطبقه في المرحلة الإبتدائية المبكرة، حتى إذا ما وصلنا الصف السادس، أصبحنا متمكنين في اللغة العربية، وكذا الحال بالنسبة للغة الانجليزية التي تبدأ دراستها منذ الصف الأول الابتدائي. كان أغلب أساتذتنا من فلسطين، ومنهم من العمانيين، أذكر منهم الأساتذة: (الشيخ عبدالله بن سيف الكندي، أحمد بن سالم آل جمعة، وعبدالله بن صخر العامري)، ومن الجنسية الفلسطينية الأساتذة: (توفيق عزيز، خير سرحان، محمود بركات).

سألناه عن مشواره بعد أن أكمل الصف السادس الابتدائي...

يذكر السيد سعيد أن رغبة والده اتجهت إلى أن يبعثه للخارج لاستكمال دراسته، ولكن السُّلطان سعيد بن تيمور – رحمة الله عليه - أبى ذلك، وطلب من أبيه أن يتركه حتى ينضج، فالتحق بدلًا من ذلك بمسجد الخور، في مدينة مسقط، ليوكل أبوه تعليمه إلى سماحة الشيخ أحمد الخليلي، الذي علَّمه العلوم الشرعية، والشيخ الربيع بن المر علَّمه النحو والصرف؛ كما درس أيضًا بعضًا من المتون المشهورة في النحو، كمتن مُلحة الإعراب، وكذا ألفية ابن مالك، وكان هذا في الستينيات من القرن الميلادي المنصرم. وبعد تولي جلالة السُّلطان قابوس مقاليد الحكم في 23 يوليو 1970م، استدرك فورًا ما فاته، فالتحق بمدرسة جابر بن حيان في أبو ظبي، وأنهى فيها دراسة المرحلة الإعدادية، ويذكر أن من فضل الله عليه أنه استطاع أن يأخذ شهادة الإعدادية في سنةٍ واحدة؛ ثم أنهى الثانوية العامة في جمهورية مصر العربية في سنة واحدة أيضًا، وذلك وفق النظام المخصص للبعوث الإسلامية في الأزهر الشريف (نظام الأربع سنوات في سنة).

درس بعد ذلك الشريعة والقانون في جامعة الأزهر، رغم أن تخصُّص القانون فقط كان مُتاحًا أمامه؛ إلا أنه آثر دراسة الشريعة مع القانون. ولما كان التوفيق حليفه بعون الله في مشواره العلمي فقد واصل مشواره لدراسة الماجستير (دبلوم القانون العام ودبلوم القانون الخاص) في جمهورية مصر العربية، مع ملاحظة أنه بعد تخرجه من الشهادة الجامعية الأولى (الليسانس)، التحق بالعمِل في وزارة الخارجية بالدائرة القانونية، وبقي فيها لما يقارب السنتين، قبل أن يلتحق ببرنامج الماجستير؛ ثم أكمل بعد ذلك دراسة الدكتوراه في باريس.

بما أنكم عملتم فور حصولكم على الشهادة الجامعية الأولى في وزارة الخارجية. أرجو أن تبينوا لنا، ولو بالشيء اليسير عن الطبيعة التي كان عليها عملكم الدبلوماسي؛ وكيف كان الانتقال من العمل الدبلوماسي إلى العمل القضائي.

يتحدث إلينا السيد سعيد أن بداياته في السلك القضائي كانت بتعيينه هو والأستاذ عبدالله بن محمد الذهب في المحكمة الجزائية في سنة 1984م، حيث عيّن عبدالله الذهب رئيسًا بالوكالة؛ لخبرته العملية التي كان قد اكتسبها من دولة الإمارات العربية المتحدة، بينما عيّن هو نائبًا للرئيس، ويضيف: ولكن سرعان ما أصبحت رئيسًا للمحكمة الجزائية، وأراح الله عبد الله الذهب بعودته إلى وزارة الخارجية،

ويرى السيد سعيد أن الانتقال من العمل الدبلوماسي الذي تبني فيه العلاقات والصداقات مع الآخرين، إلى العمل القضائي هو نقلة كبيرة، إذ من يتولى القضاء يجعل نصب عينيه خدمة الحق والحقيقة، ولا يخاف في الله لومة لائم مما يفقدك الكثير من العلاقات من الأصدقاء وحتى من الأقارب.

وفي سؤالٍ عن مدى رغبته في تحمل مسؤولية القضاء، ذات الحمل الثقيل أجاب أنه لم تكن لديه أدنى رغبة، ويقول: في قراءتي للعلوم الشرعية كثيرًا ما أقف على الحديث الشريف (قاضيان في النار وقاضٍ في الجنة) وقوله: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :"يَأْتِي الْقَاضِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَغْلُولَ الْيَدَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَفُكَّ عَنْهُ عَدْلُهُ، أَوْ يَهْوِي بِهِ جَوْرُهُ فِي النَّارِ"، فأستعيذ بالله. لذلك، ما تمنيت يومًا أن أكون قاضيًا، ولو ليومٍ واحد، إلا أن طاعة ولي الأمر، هي التي قادتني إلى ذلك المصير.

ويشير إلى ما كان للتجربة الدبلوماسية من فضلٍ في صقلِ قدراته؛ إذ أن كثرة حضوره للعديد من المؤتمرات الدولية، هيأت له فرصة الاطلاع على تجارب الآخرين، والوقوف على الثقافات المختلفة، سيما المتحضرة منها، في مجال العمل القضائي. فكان يحرص على زيارة المحاكم أثناء تلك السفرات الكثيرة، وهو الأمر الذي مكَّنه من وضع نظام عمل القضاء الجزائي.

دونما انتقاصٍ لمن حُمّل ابتداءً مسئولية تأسيس القضاء الجزائي قبلكم، يعُدُّكم الكثيرون مؤسسا ومُشَكِّلا فعليّا لهذا المرفق الحيوي في السَّلطنة؛ فلتحدثونا عن بداية المشوار في القضاء وصولا إلى تعيينكم رئيسًا للمحكمة الجزائية آنذاك.

يذكر الدكتور سعيد أن أول من أسس القضاء الجزائي هو صاحب السمو السيد تركي بن محمود آل سعيد، وهو أول من باشر هذه المهمة، وذلك بعد أن ابتعث إلى بيروت للتأهيل القضائي، وإن لم يكن قد درس القانون، إلا أنه اطلع على التجارب ونقلها بإخلاصٍ واقتدار، والجميع يشيد بالدور الذي قام به؛ وحتى لا نجحفه في حقه، فحريّ بنا أن نقر بدوره في وضع اللبنات الأولى للقضاء الجزائي الذي ابتدأ بمحكمة المرور في سنة 1974 تقريبًا، من ثم محكمة الشرطة الجزائية للنظر في القضايا ذات الطابع الجزائي؛ وتعاقب على رئاسة المحكمة أيضًا السيد مرداس بن أحمد البوسعيدي؛ كما أن الشيخ مالك بن محمد العبري كان يكلف بالرئاسة في حال غياب السيد تركي؛ وقد أعطيت المحكمة الاستقلالية بتعيين الشيخ هلال بن سلطان الحوسني.

وبعد ذلك، جاء تعيين رئيس المحكمة الجزائية ونائبه، ويستطرد قائلًا: هنا بدأت المسؤولية الملقاة على عاتقنا، فبدأنا بتدبر أمرنا، من منطلق إيماننا بأننا لم نُعين اعتباطًا، وإن كان للسابقين عذرهم، فليس لنا عذر، لأننا درسنا العلوم الشرعية والقانونية؛ فعملنا على التخطيط لتطوير العمل، وكانت المناقشة تدور بيننا صباح كل يوم، وقد مثلت فترة منصبه نائبًا للرئيس في المحكمة الجزائية فترة تأمل، إذ انتقل رئيسًا للمحكمة الجزائية وقد ارتسمت لديه الأفكار التي تعينه لتولي المنصب الجديد، ولم يكن له نائب، فقد كان هو "الرئيس والنائب والممحاة والقلم والكاتب والمدرب".

ومن القضاة الأوائل كان الشيخ عبدالله بن سالم المخيني الذي كان يعمل في ديوان شئون الموظفين، ونقلت خدماته إلى المحكمة الجزائية، والشيخ محمد بن ناصر البريكي، الذي نقلت خدماته أيضًا من ديوان البلاط السُّلطاني؛ والشيخ عبدالله بن حمود القاسمي، الذي نقلت خدماته من وزارة الداخلية. هؤلاء عيّنوا بمرسومٍ سلطاني، إذ جاء تعيينهم في الأصل لنظر الجنايات، وكذا الجنح المستأنفة في مسقط؛ ومع ذلك، ونظرًا لقلة الكادر، اضطررنا إلى أن نسند إليهم بعض القضايا الجنحية أيضًا. وبعدهم ببضعة أشهر، تم تعيين كوكبة أخرى من القضاة، بقرارٍ من وزير الديوان السُّلطاني، ليرأسوا المحاكم الإبتدائية في كلٍّ من (نزوى، وصور، وصحار، وصلالة)، وهؤلاء القضاة هم: الشيخ علي بن سالم النعماني، رحمه الله، الذي نقلت خدماته من وزارة الخارجية؛ والشيخ عبدالله بن محمد الكعبي، الذي نقلت خدماته من وزارة الشئون الاجتماعية والعمل؛ والشيخ جمعة الهاشمي، الذي نقلت خدماته من التربية والتعليم؛ والشيخ سالم العزري الذي اعتذر لأسبابٍ خاصة؛ والشيخ عثمان بن أحمد اليحيائي، رحمه الله، والشيخ محمد بن طاهر آل إبراهيم. الاسمان الأخيران كانا من الخريجين الجدد. يمكن وبِحق عَدّ هاتين الكوكبتين النواةِ الأولى لعمل القضاء الجزائي المعاصر.

يقول السيد سعيد إنه، ولغايات الوقوف على قِيَم القضاء وتقاليده، اطّلع على سِيَر ومآثر الأولين من رجالات القضاء العُمَانيين، الذين اشتهروا بالفضل والعدل، والتي كانت مواقفهم خير مُعلم له. فضَّل ضيفنا عدم الإشارة إلى أسمائهم؛ تحسبًا لنسيان أحد منهم. كما اطّلع أيضًا على سِيَر رجالات القضاء من الوطن العربي، وعلى وجه الخصوص من مصر، من أمثال المستشار عبد العزيز فهمي باشا، رحمه الله، الذي يُستفاد من سيرته الكثير من الدروس والعبر في مكانة القضاء. ومن مواقف هذا المستشار، التي ينبغي أن تسطر بالذهب، أنه استنكر ذات يومٍ موقفًا لوزير العدل، حينما بعث له برسالةِ شكرٍ على الجهود التي بذلها في محكمة النقض، فما كان منه إلاّ وأن أعاد إليه الرسالة بالتعليق التالي: (من يملك الشكر والمدح، يملك القدح والذم؛ وأنت لا تملك هذا ولا ذاك). يقول السيد سعيد إن هذه المواقف، وغيرها الكثير من سِيَر الأولين، من أعلام القضاء، أسهمت مُساهمةً فاعلةً في تكوين الفكر القضائي لديه، وكشفت له عن ما ينبغي أن تكون عليه مكانة القضاء أولًا، ثم مكانة من يُحمَّل أمانة القضاء تاليًا؛ مُضيفًا: إن ذلك ليس تفخيمًا لمكانةِ القاضي، كما قد يعتقد البعض؛ فهو الركن الركين، والحصن الحصين لحقوق الناس جميعًا.

مما لا شك فيه أن القضاء قد انتقل إلى حقبة جديدة منذ تولي جلالة السلطان قابوس مقاليد الحكم، فهل لك أن تحدثنا عن الوضع القانوني مع بزوغ النهضة المباركة، ومراحل التطور التي عايشتموها في مسيرة القضاء بالسلطنة.

كما تعلمون أن القضاء رسالة سامية لها دور نبيل في حياة الأمم حيث يقوم بالتعبير عن قيم العدالة والحق والشريعة ويستهدف دفع الظلم، والتجرد في إثبات الحق بالقسط، والفصل بين الخصوم وفق مقتضيات الشريعة والقانون.

ويعد القضاء إحدى الدعامات الرئيسة التي تقوم عليها صروح الأمم المتحضرة لارتباطه الوثيق بالمحيط الاقتصادي والاجتماعي والسياسي؛ ولقد قيل قديمًا، ولا يزال: "العدل أساس الملك"، من هنا لزم على الواقفين على شأنه الخروج من سجن الذات والمصالح الخاصة للتجرد والاهتمام بالشأن العام، وأن يستفرغ الجهد للنفاذ إلى روح القانون، والفوض في قلب الواقع لاستخلاص معطياته الصحيحة، لتخرج الأحكام ممثلة لصحيح القانون، ومتجاوبة مع صحيح حكم الواقع، مُعبّرة عن الحق والحقيقة. ومنذ البدايات الأولى لبزوغ عهد النهضة المباركة عني جلالة السلطان قابوس، طيَّب الله ثراه، بالقضاء فعمد لإعلاء شأنه وإنفاذ أحكامه واحترام رجالاته، كما عني أيضًا بتطويره والارتقاء به لمواكبة التطور الاجتماعي والاقتصادي والسياسي للبلاد ومواكبة حاجة المجتمع والحياة؛ فبدأ العمل بإنشاء محكمة مختصة بالمرور وهيئة مختصة بالمنازعات التجارية، وبمرور الأيام طورت محكمة المرور وتوسعت اختصاصاتها لتكون محكمة جزائية تحت مسمى محكمة الشرطة الجزائية، وتطورت هيئة المنازعات التجارية في تشكيلها بعد ما كانت قاصرة في عضويتها على التجار لتصبح مدعمة بقضاة متخصصين، وبمرور الأيام تحولت إلى محكمة يتولى نظر النزاع فيها قضاة لهم دراية وخبرة في القضاء التجاري، ولتكون على درجتين ابتدائية واستئنافية يكون حكمها باتًا في ما تقضي به؛ كما طورت المحكمة الجزائية لتصبح على درجتين أيضًا، ابتدائية واستئنافية، واستحدثت محاكم ابتدائية في كل من نزوى وصحار وصور وصلالة؛ كما تبلورت سلطة القضاء بجلاء من خلال النظام الأساسي للدولة الذي أولى لمؤسسة القضاء حقها، وانعكس ذلك على كوكبة من القوانين المنظمة لشأن القضاء التي صدرت بعد عام 1996م، تنفيذًا لمقتضيات النظام الأساسي.

جلستُ قبل بضعة أعوام مع المستشار سمير ناجي - رحمه الله - مؤسس المركز القومي للدراسات القضائية في مصر، فأشاد كثيرًا بالجهود العظيمة التي بذلتموها لترسيخ الهيبة المطلوبة للقضاء وقال في وصف محاكمنا من خلال زيارته لها في عقد التسعينيات: "...، ولو سقطت إبرة في قاعة المحكمة أثناء انعقاد الجلسة، لسمع صوتها كلُّ من في القاعة". حبذا لو توضحوا لنا كيف نجحتم في زمنٍ قياسيّ، في إيجاد هذه الهيبة، مع بيان أهم التحديات التي واجهتكم في هذا الصَّدد.

يشير السيد سعيد في هذا الجانب إلى أن ضبط الجلسة مسؤولية رئيسها، فلابد له أن يتحلى بالحزم، ويقول: أذكر من خلال اطلاعي على التجربة المغربية مقولة لهم: (القاضي عبسة وجلسة) إلا أنني لا أتفق معهم في عبسة، ولكن لابد للقاضي أن يضبط جلسته، وهذا قانون مكتوب فكيف يسمح لنفسه أن لا يقوم بواجبه في ضبط الجلسة، ومطالب من القاضي أيضًا أن يسمع كل ما يقال ويدور في الجلسة، ولكنه إن فتح المجال للقيل والقال والضوضاء، فأنى له ذلك.

نذكر أنك في إحدى جلساتك أخرجت أحد الحضور لأنه وضع رِجلًا فوق الأخرى وهو يجلس في مقابل المنصة في المكان المخصص للعموم ... يرد الدكتور سعيد: وهذا ما ينبغي على كل رئيس جلسة أن يفعله حفاظًا على هيبة القضاء. فالهيبة المقصودة هنا ليست لشخص الرئيس، أو للهيئة القضائية، فحسب؛ وإنما للمنظومة القضائية بشكلٍ عام، بما في ذلك المحكمة التي وجد فيها. فاحترام أنظمة الدخول والخروج، والجلوس، إلى آخر ذلك من الممارسات، كلها تعكس احترام هيبة القضاء. ورئيس المحكمة يجب أن يقوم بدورِه تحقيقًا للهيبة المطلوبة. ويستطرد السيد سعيد فيقول: إن الهيبة لا تأتي لا بالترغيب ولا بالترهيب، وإنما بتطبيق سيادة القانون على الكافة من دون تمييز، وعدم السّماح بالتجاوز من أي كان.

عرفنا عنكم بأنكم لا تسمعون لمن يأتيكم شخصيًا لسماع قضيته، فهل لكم أن تعلقوا على هذا الأمر؟

بعد نفسٍ عميق، يعلق السيد سعيد على هذا الطرح المحوري فيقول: كنت، إذا حدث اختراقٌ من هذا النوع، أحرص على ترك القضية لغيري دونما تردُّد؛ ذلك لأنني إنسان، وأتأثّر بما أسمع. فبمجرد سماعي لطرفٍ في معزلٍ عن الآخر، وفي خارج مجلس القضاء، سيؤدي ذلك بالحتم واليقين إلى تسلُّل العاطفة إلى وجداني، والخروج عن التجرُّد المطلوب عدالة؛ وبالتالي تتأثّر قناعاتي. كان يحدث في بعض الأحيان أن يتسلّل إلى مكتبي من يزعم أنه ينشُد الحق والانصاف، فيدافع عن موقف أحد أطراف قضيةٍ من القضايا. على الرغم من أنني كنت أسكته فورًا، وآمره بالكف عن الحديث عنها خارج مجلس القضاء؛ كنت أجد في نفسي عدم الصلاحية لنظر القضية؛ وأحرص على التنحي عنها، وإسنادها إلى غيري. وهذا، ولله الحمد، كان منهاجي في العمل القضائي.

وفي أهمية الاستفادة من خبرات الآخرين والاطلاع على تجاربهم، يقول ضيفنا: لاشك في أن الاستفادة من تجارب الآخرين تعد من ألزم لزوميات التطوير، إذ من تلك التجارب تستطيع الوقوف على ما هو مفيد وتبني عليه. وفي بيانٍ لهذا الأمر يقول: حرصت فور تكليفي برئاسة المحكمة الجزائية على الاطلاع على تجارب الآخرين، فإلى جانب زيارتي للمحاكم وحضور الجلسات في بعض الدول العربية، التي تتفق معنا في النظام القضائي؛ حرصتُ في مُوازاةِ ذلك على الوقوف على الأنظمة القضائية التي تتبع مدارس فكرية أخرى؛ فحضرتُ جلسات المحاكم في كلٍ من بريطانيا وفرنسا وأمريكا؛ ولكون هذا الحضور كان بتنسيقٍ رسميّ، فلقد كان يُسمح لي بالجلوس على المنصة بجانب القضاة بوصفي قاضيًا مُمتهنًا؛ كما زرتُ مختلف مرافق منظومة العدالة الجزائية لديهم، التي أسهمت، من دون شك، مُساهمة فاعلة في دعم الخبرة لدَيّ، وفي تمكيني للوقوف على قدمٍ راسخة، وهي تعد من جملة العوامل التي كانت لي خير مُعين في حمل مسؤولية القضاء العظيمة.

وفي هذا السياق، ينصح السيد سعيد كل من يكلف بعمل جديد، أن يطلع على تجارب الآخرين ويبني على ما هو صالح من الموجود، سواء كان موجودًا عنده أو عند الآخرين.

كيف كنتم تؤهلون القضاة، قبل تحميلهم مسؤولية الفصل بين المتقاضين؟

يذكر السيد سعيد أن النواة الأولى من القضاة ألحقهم بدورةٍ تدريبية داخلية في التأهيل القضائي، قبل أن يبعثهم إلى المعاهد القضائية في الخارج. عقد التأهيل الداخلي في معهد الإدارة العامة، وذلك بالاستعانة بخبراتِ جُملة من المستشارين القانونيين العاملين في مختلف وحدات الجهاز الإداري للدولة.

أما عن التأهيل الخارجي، فكانت البداية مع المعهد القومي للدراسات القضائية في مصر، حيث زار المعهد شخصيًا قبل أن يُقرر التعامل معه، وتعرَّف على القائمين عليه، وعلى رأسِهم المستشار سمير ناجي، رحمه الله، وغيره ممن كان لهم القِدْح المُعلّى في إرساء قيم القضاء وتقاليده. وتوالى بعد ذلك التدريب الخارجي، إلى المعاهد القضائية في كلٍّ من المملكة المغربية، والمملكة الأردنية الهاشمية، وإمارة دبي في دولة الإمارات العربية المتحدة.

كيف كنتم تختارون من ستحملونه رسالة القضاء؟

يؤكد السيد سعيد بأن مهمة اختيار القضاة ليست بالأمر السَّهل نظرًا لأهمية الرسالة القضائية وخطورتها المتمثلة في إعطاء القاضي مهمة الفصل في أعز ما يملكه الإنسان، حريته وماله وحياته؛ فيذكر: ونظرا لقلة أعداد خريجي الشريعة وكذا القانون آنذاك، فقد اضطررنا إلى تعيين كل متقدم لشغل القضاء، مع الحرص الشديد على تلقيهم التدريب الكافي والدورات المكثفة لتأهيلهم بما يكفل توليهم هذه المهنة الجليلة، القضاء.

وفيما يتعلق بالصلاحية والأهلية، أكد السيد سعيد على أهمية تقديم معيار الصلاحية قبل الأهلية؛ وذلك لأن الأهلية م ُ كتسبة، من خلال التكوين والتأهيل المستمرين، وتزويد القاضي بما يحتاج من العلوم التي تؤهله للجلوس على منصة الحكم؛ أما الصلاحية، فهي على خلاف ذلك، لا تكتسب، وإنما تجد منبتها الأساسي في أعماق الإنسان، تنبت كالنبات إذا سقيت بماء المكرمات، على مدى سنين طويلة قبل أن يطرق باب القضاء؛ فإذا لم يكن القاضي من منبت ٍ صالح ليتبوَّأ هذه المسئولية،فسيصعب تقويمه؛ كذلك فإن البيئة التي نشأ فيها لابد أن تكون بيئة صالحة تهيئه لأن يكون قاضيًا.

وفي سؤالٍ عن مخافةِ أن يؤدي الاعتماد على معيار الصلاحية بدلًا من الأهلية إلى فتح بابٍ واسعٍ للمحسوبية والمحاباة، بذريعة الصلاحية، فيجيب على هذا بالقول: إن مسألة الصلاحية هي من صلب الشرع الحكيم في اختيار القضاة، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من وليَ من أمر المسلمين شيئًا فولى رجلًا وهو يجد من هو أصلح للمسلمين منه، فقد خان الله ورسوله". وأضاف: أنه لابد أن نعمد إلى سيادة القانون، وتكافؤ الفرص. فإذا وضعت الضوابط واتفقت مع الجميع على السوية لا يستطيع أحد أن ينحرف في تصرفه؛ ولكن، إذا ما تم التمييز فإنه من غير الممكن أن يتغاضى عن الشخص الخارج عن القانون، وفي بعض الدول توجد لديهم مدونة السلوك يتم على أساسها الاختيار. ولابد أن يتعهد المرشح لرسالة القضاء بتكوين الأهلية لتكون معوانًا له في خدمة العدالة.

إذا قٌدِر للزمان أن يعود للوراء، هل كنتم ستعملون على تأسيس القضاء الجزائي بطريقة مختلفة عن تلك التي اتبعتموها في منتصف الثمانينيات من القرن الميلادي المنصرم؟

يقول السيد سعيد: لكل زمان ٍ دولة ٌ ورجال، وإذا ما أوكلت لي مهمة العمل القضائي اليوم لفررت ُ منها كالفرار من الأسد؛ ولكن، لكل زمن آلياته وطرق تناوله التي تختلف بين الزمن السابق والزمن الآني، ولا يمكن أن نحاكم الذين أس َّ سوا في منتصف الثمانينيات بمعايير اليوم، فالوضع قد تغير، ولكل أمر أسلوبه بما يتوافق مع الزمن الذي هو فيه.

كونكم جلستم على منصة الحكم، لما يقارب العشرين عامًا، ثم ترجلتم منها لتحملوا أمانة الدفاع، وسار على خُطاكم عددٌ من القضاة؛ وفي الموازاةِ، وجدنا عددًا، لا بأس به، من أعضاء الادعاء العام ينحون الوجهة ذاتها. هناك من يرى أن انتقال القاضي إلى مهنة المحاماة يختلف عن انتقال عضو الادعاء العام إلى المهنة عينها. فالأول يشير إليه الفقه الجزائي بلقب "المحامي الأول للمتهم"، أو "محامي من لا محامي له"؛ بينما عضو الادعاء العام، وإن كان ينظر إلى الجانب الدفاعي أيضًا، إلا أنه يولي اهتمامًا أكبر، بطبيعته، للجانب الاتهامي على الجانب الدفاعي. فما هي رؤيتكم في هذا التحول؟

يرى السيد سعيد أن المهام جميعها هي وجهان لعملة ٍ واحدة، مكملة لبعضها وأن أهم ما في الأمر هو خدمة الحق والحقيقة، فجميعنا هدفه خدمة العدالة والمساعدة للوصول إليها، ويكمُن دور المحامي في مُساعدة القاضي للوصول إلى الحقيقة، وليس كما يعمد للأسف الشديد البعض منهم إلى تضليل العدالة لخدمة موكليهم .. ويؤكد أن رسالة المحاماة ليست بقليلة، فيطلق عليهم بـ"القضاء الواقف" في كناية ٍ لتكملة القضاء الجالس، وبانتقالهم من هذا الجانب يتوجب عليهم أن يصطحبوا معهم القيم والتقاليد الأصيلة التي درجوا عليها في القضاء، ويعكسوها على حياتهم في الموقع الجديد؛ وأيضًا، فإن الأخوة المنتقلين من الادعاء العام، إلى سلك المُحاماة، فالوضع الجديد لن يكون غريبًا عليهم؛ إذ أنهم نُصراء للحق والحقيقة، أينما وُجِدوا؛ فهم ينظرون إلى الجانب الدفاعي بالقدر ذاته الذي ينظرون به إلى الجانب الاتهامي.

ما هو السبيل إلى الحفاظ على هيبة القضاء؟

عند البحث في هيبة القضاء ومدى أثرها في بناء ثقة العامة به فإنه لابد من الإشارة ابتداء ً إلى أن المحافظة على هذه الهيبة لا تكون من القضاة فحسب؛ وإنما من جهاتٍ أخرى، في آنٍ معًا.

فإذا تحدثنا عن الجهات الأخرى، فيمكن إجمالها بتجريم أيّ انتهاك لحرمة القضاء من أيّ جهةٍ كانت، فلا سلطان على القضاة في قضائهم لغير القانون؛ ذلك لأن القضاء في الأصل من أعمال الولاية العامة؛ فلابد أن يكون للقاضي، والحال كذلك، منزلة خاصة، تعلو المنازل كافةً. وعندما أتحدث عن المنزلة الخاصة، فإنما أقصد مراعاة وضعه المادي، المتمثل في الراتب العالي، للنأي به عن أيّ شبهةٍ من جانب المتقاضين؛ ووضعه المعنوي المتمثل في المكانة الاجتماعية المتميّزة، في آنٍ معًا. لا شك أن هذين العنصرين يحققان هيبة القاضي ليس في نفوس المتقاضين فحسب، وإنما في نفوس العامة أيضًا.

أما بالنسبة لمحافظة القضاة على هيبة القضاء، فلابد من الإشارة إلى أهمية وضع مدونة لقواعد السلوك القضائي، يلتزم القاضي بمقتضاها بالقيم والتقاليد القضائية، فيتحقق بلك دعم الثقة بالقضاء. يضيف ضيفنا قائلاً: "إذا كان القضاء يزهو باستقلاله، فإنه يزداد زهوًا وافتخار ً ا بتحقيق العدالة وثقة المواطنين فيه".

ما هي نصيحتكم للعاملين في السلك القضائي، وللعاملين في منظومة العدالة الجزائية بشكل عام؟

يجيب الدكتور بتواضعه المعهود: إنكم في غنىً عن نصحي، ولكن إذا سمحتم لي أن أقول شيئًا في هذا الصدد، فأقول: إن عليكم المضي قدمًا بالتمسك بأهداب الشريعة الإسلامية الغراء، وما أتت به من أحكام، والتمسك أيضًا بالقيم والتقاليد القضائية الراسخة في بلدان العالم حتى تكونوا دائمًا في مكانتكم السامقة واحترامكم اللائق؛ ومن جانب آخر، فعليكم الاستزادة من العلم والمعرفة فدائمًا ما نقول إن القاضي هو "الخبير الأعلى"، وهذا الخبير لابد أن يكون ذا اطلاعٍ واسع على معظم العلوم وبالأخص العلوم التي ترفد عمله. نصيحتي لكم أيضًا الاستزادة من القراءة والتحصيل العلمي وأن تطلعوا على مختلف المدارس القانونية لأن المدارس والأفكار تتطور بين فترة وأخرى، في مختلف أرجاء العالم، فمثلاً الطبيب والمهندس الذي لا يواضب على القراءة والاطلاع على الجديد، في مجاله على الأقل، سيتبلد، ويتبدَّد، وسُرعان ما سيستبد به الجهل؛ وهكذا الحال بالنسبة لرجل القانون، ولا أخص المشتغلين في مجال القضاء فحسب؛ وإنما كل المشتغلين في مجال القانون، فإن عليهم أن يطلعوا على كل جديدٍ في مجال الاجتهادات القانونية سواء عن طريق حضور المؤتمرات التي تعقد في مجالاتهم المتنوعة، أو عن طريق البحوث التي يعدها أساتذة القانون أو من خلال السوابق القضائية التي ترسى كل يوم في بلدان العالم، وهذا بطبيعة الحال سينعكس إيجابًا على مستواهم وعملهم ومسيرتهم المهنية.

ما رؤيتكم لمنظومة العدالة بشكلٍ عام في السلطنة.

يتواضع ضيفنا مُجددًا، ويكرر أنه ليس بالمستوى الذي يؤهله للحكم على الأمور بتمامها أو قصورها، وأن جلّ ما يتمناه لمنظومة القضاء في عُمَان أن تمضي قدمًا، إذ إن القضاء قد مرّ بنقلة نوعية من خلال القوانين التي صدرت على إثر النظام الأساسي للدولة، بداية من قانون السُّلطة القضائية، وقانون الادعاء العام، وقانون الإجراءات المدنية والتجارية، وقانون الإجراءات الجزائية، كلها تعدُ كوكبةً من القوانين أسهمت في تطور مسيرة العمل القانوني في البلد، وانعكست إيجابًا على مسيرة القضاء؛ ويرجو من العاملين في هذا الشأن أن يعملوا على تطوير ما أوكل إليهم، وأن يقترحوا دومًا بتعديل القوانين التي تتصل بعملهم، كلما دعت الحاجة، وألا يقفوا عند حدٍ معين؛ فالعالم في تطور ٍ مستمر، ونحن لسنا بمعزلٍ عمّا هو محيط بنا، ويمكن الاستفادة من كل ما هو جديد ومفيد.

--------------------------------------------------------
· الحوار المتقدم سبق نشره في العدد الخامس من مجلة المجتمع والقانون، الصادرة عن الادّعاء العام.