د.جمال عبدالعزيز أحمد:نتناول اليوم آياتِ الفتح الأعظم، وبيان جوانبها البلاغية، والتربوية، تلك الآيات التي نزلت لتوضيح تفاصيل فتح مكة الذي وقع في العشرين من رمضان، أو الخامس والعشرين من السنة الثامنة للهجرة الشريفة، الموافق سنة 630م، بعد صلح الحديبية (628 هـ)، الذي لم تلتزم فيه قريش ببنود الصلح رغم إجحافها فيه، ولا نهضت لتوقيره، حيث قتلتْ بعضًا من رجال خزاعة، تلك القبيلة التي دخلتْ في حلف مع الرسول (صلى الله عليه وسلم) وقد كان هذا الفتح فتحًا بحق، حيث كان نقطة تحوُّل كبرى في حياة الإسلام والمسلمين، وكانت نتائجه غاية في الجلال، وسموًا في الكمال، حيث دخلتْ مكةُ عن بكرة أبيها، ومن ألفها إلى يائها في دين الله أفواجًا، وانضمت تحت نفوذ ولواء المسلمين، وزالت، ودالتْ دولة قريش من هذا الوجود إلى الأبد، تلك التي أشركتْ بالله كثيرًا، وصدَّتْ عن سبيله طويلاً، وترصَّدتْ لأهل الإيمان، واضطرتْ رسول الإسلام إلى أن يخرج مهاجراً من بلده، ويترك وطنه، ثم ها هو ذا يعود إليها منتصرًا مظفراً، فاتحًا غانماً مؤزراً، تدين له جبالها وهضابها، ومنخفضاتها وسهولها، وحجارتها ورمالها، وها هو ذا البيتُ الحرام تتكسر من حوله الأصنامُ، ويزول منه الشرك، ويظهر فيه التوحيد، وتنير الشمس من جديد، وينقشع الضلال، وينهزم الشرك الذي خيَّم عليها قرونا، وردحا طويلا من الزمان، فجاء الإسلام، وبدا النور يسطع في كل جنبات مكة، وحصَل الفتح الأعظم، دون إراقة دم، وكان الفتحَ المبينَ ونزلتْ تسجله سورة الفتح، وتبين أن للكفر أجلا ينتهي إليه، وأن الشرك لا يدوم، ولا يمكن أن يعوَّل عليه، وأن دين الله مسيطر، ومنتشر، وأن جنده هم الغالبون، وأصبح المسلمون قوة عظمى في جزيرة العرب، وتحققتْ أمنية الرسولِ الكريم (صلى الله عليه وسلم) بدخول قريش في الإسلام، وبرزتِ الدولة الإسلامية قوةً كبرى في الجزيرة العربية، لا يستطيع أيُّ تجمعٍ قبلي مهما كان الوقوف في وجهها.وهذه السورة لها سبب نزول، ولها أهداف محددة، نوجزها قبل بيان ما فيها من وجوه الإعجاز البلاغي، فهي سورة، أولا مدنية، والسور المدنية لها ضوابطها وسماتها عند أهل التفسير، وهي معدودة من المثاني، وعدد آياتها تسعٌ وعشرون آية، وترتيبها الثامنة والأربعون في سور الكتاب الكريم، وقد نزلتْ في الطريق إبان الانصراف من الحديبية بعد سورة الجمعة، وقد سماها القرآن الكريم بسورة الفتح، ذلك لأنها افتتحت بهذه البشرى، بشرى الفتح المبين لمكة المكرمة، الذي حدث دون قتال يُذكَر، بُشِّر به المؤمنون، واشتُهِرت بهذا الاسم، وليس لها اسم غيره في كتب التفسير إلا الفتح، أو الفتح الأعظم، أو الفتح المبين، وهذا قد جاء في كلام الصحابة، حيث قال عبدالله بن مغفل ـ رضي الله عنه وأرضاه:(قرأ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم فتح مكة سورة الفتح، فرجَّع فيها ـ أيْ: ردَّد صوتَه بالقراءة)، وقال المسور بن مخرمة، ومروان بن الحكم:(نزلت سورة الفتح بين مكة والمدينة في شأن الحديبية من أولها إلى آخرها)، ولذلك نجد أنها تتصل مع ما قبلها، وهي سورة القتال اتصالَ السبب بالمسبب، والعلة بمعلولها، والحدث بمآلاته، ونتائجه، وعواقبه، قال العلامة الآلوسي:(حسنٌ وضعها هنا بعد سورة محمد "القتال") لأن الفتح بمعنى النصر قد رُتِّبَ على القتال، ولذكر المؤمنين المخلصين، والمنافقين، والمشركين في كلٍّ منهــما، وكذلك لأنه جــاء في ســورة (محمد) الأمر بالاستغفـــار، قال تعــالى:(فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ)، وقد ذكر هنا في سورة "الفتح" وقوعُ وتحققُ المغفرة، وذلك في قولهتعالى:(لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ)، وقال أنس بن مالك ـ رضي الله عنه: لما رجعنا من غزوة الحديبية، وقد حيل بيننا وبين نُسُكِنا، فنحن بين الحزن والكآبة، أنزل الله عزوجل:(إنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا)، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم):(لقد أُنْزِلَتْ عَليَّ آية هي أحبُّ إليَّ من الدنيا وما فيها كلها).