محمود عدلي الشريف:
توقف بنا الحديث في المقال السابق ـ قرائي الكرام ـ عند أقوال العلماء من أهل التفسير وشرحهم لما أشار إليه القرآن الكريم عن ألوان الإنسانية واختلاف أشكالهم ، وقد ذكرت بعضاً مما قاله أهل التفسير من أن ذلك من إعجاز من صنع الله تعالى، وإبداع في خلقه، ولكن هنا يبقى السؤال، ألا وهو: الإنسان مخلوق من الطين، والطين له لون واحد معروف، فهل الطين ذو اللون الواحد يكون له ألوانا مختلفة، أم أن له لوناً واحداً، والله عز وجل جعل من هذا الطين ذا اللون الواحد ألواناً مختلفة، لا تخفى عن كل ذي ناظرة لبني البشر في هذه الحياة ، لتكون آية من آياته ـ جل جلاله، وإذا كان هذا السؤال للعرض، فهيا بنا ـ إخوة الإيمان ـ لنرى ما قاله العلماء وما وضحوه لنا للإجابة على هذا السؤال، وسنوضح مما قالوا ما إجابات على هذا السؤال هل الطين له لون واحد أم أنه ألوانا مختلفة، وفي كل إعجاز وإبداع لصنع الله تعالى ، ودليل على وحدانيته ،فمن العلماء من قال: أن الأصل واحد والله تعالى هو الذي ضبغ فيهم الألوان، ومنهم من قال: أن الألوان من ألوان الطين مختلف الألوان، ومنهم من قال: أن التربة مختلفة الألوان، وإليكم التفصيل، ونسأل الله تعالى أن ينفعنا بما قاله أهل العلم، فأولاً: من قال: أن اختلاف ألوان البشر آية من آيات الله تعالى: وهذا الرأي يؤكد أصحابه أن الإنسان مخلوق من طين واحد بلون واحد، والله تعالى هو الذي جعل اختلاف ألوانهم آية من آياته ، فجعل منهم ألواناً مختلفة على الرغم من أن أصلهم طين واحد، وجنسهم واحد فأبوهم واحد وأمهم واحدة ،ومخلوقون من لون واحد ،جاء في (موسوعة فقه القلوب، لمحمد بن عبد الله التويجري ج1ص 77)، ومع آية خلق السموات والأرض العجيبة اختلاف الألسنة والألوان بين البشر مع اتحاد الأصل والنشأة وصفة الخلق، فكم لسان في العالم، وكم لغة في العالم، وكم لهجة في العالم، وكم ألوان البشر في العالم، وكم صورة وشكل لكل بشر في العالم، فقلما يشتبه رجلان أو امرأتان في العالم، فسبحان الخالق البارئ المصور الذي فاوت بينهم في الأشكال والألوان والأحجام واللغات والأصوات والأسماع والأبصار والعقول، يقول الشيخ الشعراوي: يريد الحق سبحانه أن يبين لنا ذلك بأن يجعل من آيات قدرته اختلاف ألواننا، هذا الاختلاف في اللون من صبغة الله، اختلاف ألوان البشر ليس طلاء وإنما في ذات التكوين، فيكون هذا أبيض وهذا أسمر وهذا أصفر وهذا أحمر، هذه هي صبغة الله، انظر (تفسير الشعراوي ج1، ص: 613)، (فأبونا من تراب، وذريته من ماء، والماء من الدم، والدم من الغذاء، والغذاء من النبات وخواص الأرض وكنوزها،من تكوين واحد، وطباع واحدة، وغرائز متحدة، ولم يكن ذلك الكون فارغا من المخلوقات، وإنما أوجد فيه الأنس بالناس ذوي الجنسيات المتعددة، واللغات المختلفة، والألوان المتنوعة، والأصوات المتميزة، والسمات والهيئات والتقاطيع المتفاوتة كاختلاف البصمات وغير ذلك من حسن وجمال، وقبح وتفاوت بالرغم من كونهم من أصل واحد وأب واحد وأم واحدة)، قال الله تعالى:(بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) (القيامة ـ 4)، إن في ذلك المذكور لآيات دالة على تمام القدرة الإلهية لقوم ذوي عقول نافذة، وأفكار مبصرة، وعلوم نافعة تهديهم إلى الحق، وترشدهم إلى التفكير في المخلوقات، وتبين لهم أنها خلقت لحكمة بالغة، ومصلحة راقية، لا عبثاً ولا فساداً، انظر (التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج، د/ وهبة بن مصطفى الزحيلي، ج: 21، ص: 70)، والحقيقة أن أصحاب هذا الرأي لهم الكثرة في بين أصحاب الآراء، أكتفي منهم بما ذكرت، والأمر فيه وسعة، وثانياً: أن اختلاف ألوان البشر آية من آيات الله تعالى جعلها في الكون، يتأثر بها بنوا آدم، فمن يسكن الأماكن الحارة يكون لونه داكن أو أسود، على عكس من يسكن الأماكن الباردة فإنه يكون أكثر بياضاً، وعليه فأن البشر أصلهم واحد ولكن الطبيعة التي يسكنوها هي التي تؤثر في ألوانهم، وأصحاب هذا الرأي يجعلون للبيئة المحيطة بالبشر التي يقطنوها، هي التي ثؤثر في ألوانهم وهيئاتهم ، ومن أشهر أصحاب هذا الرأي ابن خلدون، حيث يقول في كتابه (تاريخ ابن خلدون، ج1 ص: 103) هذا المنكشف من الأرض إنّما هو وسطه لإفراط الحرّ في الجنوب منه والبرد في الشّمال، ولمّا كان الجانبان من الشّمال والجنوب متضادّين من الحرّ والبرد وجب أن تتدرّج الكيفيّة من كليهما إلى الوسط فيكون معتدلا، لهذا كانت العلوم والصّنائع والمباني والملابس والأقوات والفواكه بل والحيوانات وجميع ما يتكوّن في هذه الأقاليم الثّلاثة المتوسّطة مخصوصة بالاعتدال وسكّانها من البشر أعدل أجساماً وألواناً وأخلاقاً وأدياناً حتّى النّبوءات، فإنّما توجد في الأكثر فيها ولم نقف على خبر بعثة في الأقاليم الجنوبيّة ولا الشّماليّة وذلك أن الأنبياء والرّسل إنّما يختصّ بهم أكمل النّوع في خلقهم وأخلاقهم قال تعالى:(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ)، تجدهم على غاية من التّوسّط في مساكنهم وملابسهم وأقواتهم وصنائعهم، ومن كان مع هؤلاء أو قريباً منهم في هذه الأقاليم المعتدلة، لأنّها وسط من جميع الجهات، وأمّا الأقاليم البعيدة من الاعتدال فأهلها أبعد من الاعتدال، قد توهّم بعض النّسّابين ممّن لا علم لديه بطبائع الكائنات أنّ السّود هم ولد حام بن نوح اختصّوا بلون السّواد لدعوة كانت عليه من أبيه ظهر أثرها في لونه وفيما جعل الله من الرّقّ في عقبه وينقلون في ذلك حكاية من خرافات القصاص ودعاء نوح على ابنه حام قد وقع في التّوراة وليس فيه ذكر السّواد وإنّما دعا عليه بأن يكون ولده عبيدا لولد إخوته لا غير وفي القول بنسبة السّواد إلى حام غفلة عن طبيعة الحرّ والبرد وأثرهما في الهواء وذلك أنّ هذا اللّون من مزاج هوائهم للحرارة المتضاعفة بالجنوب فإنّ الشّمس تسامت رءوسهم ويلح القيظ الشّديد عليهم وتسودّ جلودهم لإفراط الحرّ، ونظير هذا من الشّمال شمل سكّانه أيضا البياض من مزاج هوائهم للبرد المفرط بالشّمال إذ الشّمس لا تزال بأفقهم في دائرة مرأى العين أو ما قرب منها ولا ترتفع إلى المسامتة ولا ما قرب منها فيضعف الحرّ فيها ويشتدّ البرد عامّة الفصول فتبيضّ ألوان أهلها، يتبع ذلك ما يقتضيه مزاج البرد المفرط من زرقة العيون وبرش الجلود، فالأوّل للحرّ والسّواد والثّاني للبرد والبياض، وليست هذه الأسماء لهم من أجل انتسابهم إلى آدميّ أسود لا حام ولا غيره، وقد نجد من السّود أهل الجنوب من يسكن الرّبع المعتدل المنحرف إلى البياض فتبيضّ ألوان أعقابهم على التّدريج مع الأيّام، وبالعكس فيمن يسكن من أهل الشّمال بالجنوب فتسودّ ألوان أعقابهم وفي ذلك دليل على أنّ اللّون تابع لمزاج الهواءوكافّة الأحوال الطّبيعيّة، وطبائع الأكوان والجهات وإنّ هذه كلّها تتبدّل في الأعقاب ولا يجب استمرارها سنّة الله في عباده (ولن تجد لسنّة الله تبديلاً)، وقد فسر الجاحظ اختلاف الوان البشر، انه تفسير طبيعي محض يتفق مع فلسفته الطبيعية.
فالبيئة هي التي صيرت لون السودان اسود ولون البيضان أبيض بسبب شدة الحر او شدة البرد .. الخ، انظر كتاب (الرسائل السياسية للجاحظ ص: 560)، (فاختلاف الألوان ملحوظ في الإنسان والحيوان والنبات والجماد مع رجوع كلّ منها إلى أصل واحد) (وظيفة الصورة الفنية في القرآن عبد السلام أحمد الراغب ص: 406)، ويقول ابن عاشور:(وَأَمَّا اخْتِلَافُ أَلْوَانِ الْبَشَرِ فَهُوَ آيَةٌ أَيْضًا لِأَنَّ الْبَشَرَ مُنْحَدِرٌ مِنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ وَهُوَ آدَمُ، وَلَهُ لَوْنٌ وَاحِدٌ لَا مَحَالَةَ، وَلَعَلَّهُ الْبَيَاضُ الْمَشُوبُ بِحُمْرَةٍ، فَلَمَّا تَعَدَّدَ نَسْلُهُ جَاءَتِ الْأَلْوَانُ الْمُخْتَلِفَةُ فِي بَشَرَاتِهِمْ وَذَلِكَ الِاخْتِلَافُ مَعْلُولٌ لِعِدَّةِ عِلَلٍ أَهَمُّهَا الْمَوَاطِنُ الْمُخْتَلِفَةُ بِالْحَرَارَةِ وَالْبُرُودَةِ، وَمِنْهَا التَّوَالُدُ مِنْ أَبَوَيْنِ مُخْتَلِفَيِ اللَّوْنِ مِثْلَ الْمُتَوَلِّدِ مِنْ أُمٍّ سَوْدَاءَ وَأَبٍ أَبْيَضَ، وَمِنْهَا الْعِلَلُ وَالْأَمْرَاضُ الَّتِي تُؤَثِّرُ تَلْوِينًا فِي الْجِلْدِ، وَمِنْهَا اخْتِلَافُ الْأَغْذِيَةِ وَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنِ اخْتِلَافُ أَلْوَانِ الْبَشَرِ دَلِيلًا عَلَى اخْتِلَافِ النَّوْعِ بل هُوَ نواع وَاحِدٌ، فَلِلْبَشَرِ أَلْوَانٌ كَثِيرَةٌ أَصْلَاهَا الْبَيَاضُ وَالسَّوَادُ ا. هـ)، انظر(التحرير والتنوير المسمى، تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد، لمحمد الطاهر بن عاشور التونسي ج21، ص: 74).
.. وللحديث بقية.
*[email protected]